يومٌ مشمسٌ جميل، يقودُ ماركيز سيارته الفرنسية عبر منعرجات كثيرة قاصدا احدى الغابات لعلَّه يحظى ببعض الهدوء، رغم أنَّه يعلم مسبقا بأنَّ كلمة هدوء على أرض القراصنة حلمٌ يقترب مِن الوهم، أكثر مِن اقترابه مِن أيِّ شيء آخر، ومع ذلك نجد الأستاذ ماركيز – هذا الفيلسوف الهادئ طبعا وتطبعا – دائم الركض خلف ما يسمونها جزافا بالهدوء.
كلمات "جون لوك" السريعة تنبعث من المذياع، السيجارة في فمه كالعادة، الأستاذ ماركيز يبتسم لكل ما تقع عليه عيناه، سواء كانت أشجارا، طيورا أو حتى زواحف، يسير لمدَّة ليست بالطويلة، قبل أن يتوقف بشكل متباطئ، ثمَّ يعيد ركن السيارة بالقرب من احدى الغابات الكثيفة والمليئة بأشجار الصنوبر الطويلة، ذات الأوراق الخضراء المنتشرة كانتشار الجراد في مواسمه المعروفة؛ وَكعادة معظم سكان المنطقة، فإنَّ ماركيز يقصد الغابات لأنَّها احدى الملاجئ التي يلجأ إليها العشاق والسكارى، فهي تعتبر على أراضي القراصنة فنادق في الهواء الطلق، الكل يزورها لغرض ما في نفسه، وهذا الغرض طبعا ليس التمتع بالمناظر الطبيعية التي يعمل القرصان بأقصى ما يملك من مجهودات لتحطيمها.
اتخذ الأستاذ ماركيز مكانا له بالقرب من سيارته الفرنسية التي ركنها تحت احدى أشجار البلوط العملاقة، وبعدما أنزل منها أغراضه، جلس فوق كرسيٍّ صغير مخصص لهذه الجولات، قبل أن يشرع في احتساء الويسكي وقراءة كتاب "فن اللامبالاة" للكاتب الأميركي مارك مانسون، المكان كان خاليا من الضوضاء إلى حد بعيد، لأنَّ بعض أصوات الضحكات لبعض الشباب كانت تخترق ذلك الصمت بين الحين والآخر.
مِن العادات السيئة التي لم يتمكن ماركيز من التخلي عنها هي عادة شرب الويسكي أثناء نزهاته بلا ثلج، يشربه دون خلطه بأيِّ سائل آخر، مما يجعله يؤذي بعض أطراف بدنه، فينشغل برهة من الزمن بالتأقلم مع تلك الآلام الناتجة عن تهور دفين في داخله، نتيجة تخبط ذلك الوحش الذي لم يتحرر من روحه بعد.
أخذ الويسكي يأخذ مِن الأستاذ ماركيز مأخذه، قبل أن تظهر أمامه فتاة بدت له كشبح خرج من الغابة، قامت بتحيته قبل أن تطلب منه سيجارة قائلة: أهلا أستاذ، عذرا عن التطفل كما أعتذر عن وقاحتي مسبقا، أنا فقط أرغب بسيجارة لو سمحت، لأنني أعلم بأنك مدخن منذ زمن بعيد.
دون حتى أن ينطق وجد نفسه يعطيها السيجارة بحركة آلية، قبل أن يساعدها في اشعالها؛ أخذت الفتاة نَفَسًا عميقا من تلك السيجارة، نظرت إلى الفراغ، قبل أن تتابع كلامها: لم أعلم يا أستاذ أنَّك تشرب الويسكي أيضا، منذ دراستي في قسمك كنت أرى كغيري من التلاميذ تلك السيجارة التي لا تفارقك إلاَّ نادرا، لكنني اليوم اكتشفتُ عادة جديدة لديْك، أنت تشرب هذا السائل الذي يجعل العقول تتعطل، فكيف تكتب تلك الكلمات المعقولة جدا التي لا يستطيع كتابتها حتى أبرز العقلاء من القراصنة وأنت غائب عن الوعي معظم الوقت، دعنا من رائحة الكحول، فهذا يفسر سر اقتنائك للعطور الأوربية الفاخرة – قبل أن تتبع كلماتها بضحكة قوية – لم يجد أمامها ماركيز مهربا سوى الإجابة عن هذه التساؤلات.
يا ابنتي! لا علاقة للأفكار بحالة الإنسان، والدليل أنَّ معظم العباقرة في التاريخ عاشوا في أوضاع قاسية للغاية، وبعض هؤلاء الذين غيَّرت أفكارهم حياتنا اليوم، كانوا مدمني كحول أيضا، ألم ينزل ريني ديكارت التفكير من السماء إلى الأرض عبر الكوجيتو وهو في حالة بين اليقظة واليقين؟
عجبا! ليس غريبا أن تكون أحدهم لا أستاذ؛ فأنت لا تزال تتحدث رغم أنَّ زجاجة الويسكي قد نزل منسوب محتواها تحت النصف – رمت عقب السيجارة جانبا – ودَّعته قبل أن تتجه نحو عمق الغابة، بينما بقي ماركيز محدقا في الفراغ وكأنَّه جزء من المكان، شجرة، حجرة أو حيوان بريّ لا يعرف مِن أين أتى ولا إلى أين هو متجه.