Image titleدرستُ  في قريتين، ثم اغتربت وعُمري تسع سنوات في مدينة لا تُشبهني، كنتُ  مُغتربة مكانًا وروحًا، لا أفهم لهجة البنات اللاتي واجهنني بسخرية يومية.

لم أتآلف سريعًا فلم أكن أعرف أحدًا -على عكس مدرسة القرية- حيث لم أكلّف نفسي عناء التعرف بأحد فقد كنتُ  معروفة للطالبات والمعلمات. والجميع يعرف أمي وأخواتي وخالتي و حتى جدّي...
أتذكر أن فصلي الأول في مدارس مكة (الصف الثالث ب) كان مُزينًا بستائر وردية من الدانتيل دفعنا أضعاف مصروفنا اليومي -بأمر المعلمة- حتى نجمع ونشتريها، وعلى أرضية الصف ـ(موكيت) ثمين، كانت المعلمة تُجبرنا على خلع أحذيتنا عند دخول الصف كي لا يتسخ الموكيت، في مقابل طاولاتنا الـمُكدّسة توجد طاولة للمعلمة، وخلفها رفوف بيضاء جميلة مفروشة بمفارش بلاستيكية مزخرفة بنقوش ذهبية إكمالًا  لبهرجة الفصل، وعلى الرفوف كتب محظور علينا الاقتراب منها لأنها ليست إلا (زينة) للفصل.


غابت معلمتنا -رائدة فصلنا- في إجازة طويلة، فأحضروا لنا عددًا من المعلمات لمحاولة إكمال سير الدروس أحيانًا، وأحيانًا لكبت أصواتنا بما كانوا يسمونه (الجلسة الصحية) التي تفرضُ علينا أن نجلس معقودات اليدين على صدورنا، وأحيانًا تتفنن المعلمات بجعلنا نرفع إصبع السبابة إلى شفاهنا في هذه الوضعية إقرارًا منّا بالتزام الصمت..
لا أتذكر من المعلمات اللاتي كُلفن بكبت إزعاجنا أي اسم، لكنّي أتذكر وجهًا لا يُمكن أن يغيب عني، إنه وجه (أبلة سلطانة) التي يؤسفني حقًا أني لا أعرف عنها إلا اسمها الأول، ووجهها الـمُختبئ خلف نظارة تُطل من وراء كتاب من الكتب التي كانت (زينة) من (زينات) الفصل وتحوّلت على يديها إلى عوالم من السحر والناس والحكايات.
لم تُدرّسنا أبلة سلطانة أي شيء، كانت تأخذ كتابًا من الكتب الصغيرة الموجودة بالمكتبة وتقرأهُ علينا... كانت تقرأ، والفصل يجلس مشدوهًا إليها، نُنصت بدهشة وتركيز... لم تُحافظ (الجلسة الصحية) على هدوئنا كما حافظت عليه حكايات أبلة سلطانة (بياض الثلج وحُمرة الورد، راڤونزيل، الأميرة النائمة والأقزام السبعة...إلخ)
أثناء القراءة كانت أبلة سلطانة تُزيح الكتاب من على وجهها وترفعه أمامنا لنرى بعض صور الكتاب، صورة قصر الأميرة النائمة وسط الأشواك التي أنبتتها السنين، صورة بياض الثلج محمولة في التابوت الزجاجي على أيدي الأقزام، صورة زوجة الأب الشريرة واقفة في مقابل مرآتها الناطقة....
من المشاهد التي لا تغيب عني أن أبلة سلطانة في يوم ما شعرت بمرور المديرة على الفصول فخبأت القصة داخل كتاب العلوم كي لا تكتشف المديرة أمر الحكايات... لا أعلم هل كانت أبلة سلطانة موكلة بتدريسنا العلوم وتركت واجبها وقصّت علينا الحكايات، أم أن المديرة كانت ستؤنبها على إضاعة وقتنا بلا فائدة؟ لا أعرف، ولكنّي متيقنة أنها لو كانت تقرأ فعلًا  من كتاب العلوم لما تذكرتها كما أتذكرها الآن، فقد نسيتُ دروس تلك السنة ولم أنسَ حكاياتها..
لم أشعر أن فصلنا بستائره الوردية والسجاد الأنيق والمفارش المزخرفة بالنقوش الذهبية مكانًا أليفًا أبدًا إلا في تلك الأيام الثلاثة التي دخلت فيها (أبلة سلطانة) إلينا وأدخلتنا إلى عوالم الحكايات.. كنتُ  قبل ذلك أجلس في مكاني (الصف الأول بجوار الباب) وأظل طيلة الحصص أدعو الله أن ينفجر مكيف الفصل ويشتعل الفصل نارًا... وكنتُ لشدة إلحاحي في الدعاء أتأمل الباب وأرسم لي طريقًا للهرب فقد كنت على يقين بأن المكيف سينفجر في أي لحظة...
كانت سنة للضجر والغربة والصمت... لم يكن فيها شيء أجمل من إطلالة وجه (أبلة سلطانة) خلف الكُتب الصغيرة ذات الأغلفة الملونة...

قبل سنوات وجدتُ نفس الكُتب في خزانة ابنة عمي الصغيرة، الكتب ذات الأغلفة السميكة الملونة (سلسلة ليدي بيرد) فتصفحتها، ربما كان الفارق بين لقائي بها في يد (أبلة سلطانة) ولقائي الثاني بها (بين يدي) يُقارب العشرين عام، ومع هذا كنتُ أحكي لابنة عمي عن الصور قبل أن أصل إلى الصفحة... تفاجأت أن ذاكرتي لم تختزن تلك الحكايات فحسب، بل اختزنت الصور بتفاصيلها الصغيرة يرافقها صوت (أبلة سلطانة) وهي تقرأ وتُحيل الفصل البغيض إلى عالمٍ  فاتن..

يومها وددتُ  لو أني أعرفُ طريقًا يوصلني لأبلة سلطانة، لأحكي لها عن حكايتها معي، ولأُقبّل يديها بلا تردد.