ابن عبيد الله السقاف من العلماء النوابغ الذين لا يجود بهم التاريخ إلا شذرا، فهو عالمٌ تجاوز زمانه، وهو عالم لا يكبر عنده شيء على الدليل، فالدليل ضالته حيثما كان، ولذلك تجده في كتاباته ينتقد كل من خالفه بالحجة والبينة، فينتقد ابن تيمية ورشيد رضا وابن حجر الهيتمي والشوكاني والجويني وغيرهم، مع حفظ مكانتهم العلمية، بيد أن هذا دليلٌ على مدى استقلاليته رحمه الله وإخلاصه لطلب الصواب.

     وكنتُ حتى وقتٍ قريب أتبنى بعض الآراء في موضوع المرأة مما استسقيته من مطالعاتي ولكنني لم أكن أفصح بكل ما أراه حتى وجدت هذا العالم الجليل فأثلج صدري وزاد ثقتي بنفسي وحمدت الله أن وجدت من بمقدوري أن أسند إليه بعض ما توصلت إليه في هذا الباب.

     لايزال موضوع المرأة شائكا، ولازلت معتقدا أن الإصلاح أوله من المرأة، وما فسدت أجيالنا إلا بفساد المرأة وجهلها وتخلفها، ومع ذلك فيقيني كبير بأن الإحياء القادم لهذا الدين سيكون من أبرز معالمه نساءٌ صدقن ما عاهدن الله عليه، فجاهدن جهاد المستضعفين وأيقن بنصر الله تعالى في قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) لقد آن الأوان للمرأة أن ترث الأستاذية في العالم، وآن لها أن تعلمنا معاني الحياة والحب والجمال والجلال والإيمان قبل ذلك كله، لقد آن للمرأة أن تكف عن الركض خلف كل ناعق عن حقوق المرأة لتبدأ بتأدية رسالتها وواجبها، فتنال حقوقها بتأدية واجباتها.

     وبعدُ، فقد وجدتُ عند الإمام ابن عبيد الله -الغني عن التعريف- رأيا راجحا وقولا فاصحا واختيارا موفقا فيما يختص بموضوع المرأة، فأحببت أن أنبه عليه ليعرف الجميع أن أمة الإسلام أمةٌ ولود، ولكننا نحن لا نرعى مواليدنا بل ونقتلهم بعض الأحايين، ولذلك سأعرض ما وجدته من آرائه عن المرأة لتكون انطلاقا لمن تتطلع لنشر رسالتها ولمن تصبو أن تكون لبنةً في إحياء هذه الأمة المنهزمة.

- يقول رحمه الله تعالى: (وعلى الجملة فعلى صلاح المرأة يدور الشأن، إذ هي أول مدرسةٍ للولد، وأحسن ناصحٍ للرجل، وأفضل عون لهم على شريف الخصال).

فهو يرى أن استشارة الزوجة بل والانقياد لها مجلبة للسكنى والسعادة واستشهد بذلك بقوله تعالى: (لتسكنوا إليها) وأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف همه وغمه كلما أسر لخديجة رضي الله عنها سواء في أول بعثته أو بعد ذلك، كما تواترت أخباره عليه الصلاة والسلام في استشارته لأم سلمة -في الحديبية- وعائشة رضي الله عنهم ولذلك فكل ما ورد من كلام بعض الفقهاء أو بعض الأحاديث المكذوبة عن مخالفة قول المرأة فهو مردود بهذه الأدلة الصريحة.

وكذلك يرى أن مسألة تولية القضاء للمرأة مسألة خلافية روى عنها الطبري كلام بعض الفقهاء.

- يعلق رحمه الله على حديث ما أفلح قوم ولو أمرهم أمرأة فيقول: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (ما فلح قوم ولو أمرهم امرأة) فلا يناقض شيئا مما ذكرناه لأنه من باب آخر، إذ المرأة مخلوقة لتدبير المنزل وإمارته، وتربية النسل وتثقيفه، وتسلية الأزواج وتنشيطهم للأعمال، وكثيرا ما نسمع العرب تقول: بئسما أدبتك به أمك وعكسه. فإذا اشرأبت أطماعهن لأعمال الرجال، فسدت حتى أعمال الرجال، إذ لا مشجع لهم عليها ولا معين إلا هن. وفي المثل: من يسوق الحمير وكلهم بصفة الأمير! فالمرأة في مرتبة الوزارة الخاصة، ولهذا جاء في الحديث: (نعم المرأة الصالحة للرجل الصالح) وهي غير صالحة للإمارة العامة وكل ميسر لما خلق له).

فهو يرى أن وراء كل رجل عظيم امرأة تربيه وتنشؤه وتدفعه للعمل، ولا يرى الولاية العامة للمرأة (الخلافة وليست بالضرورة رئاسة الدولة كما يعرفها الفقهاء) ويتساءل ماذا تفعل في أيام حيضها ونفاسها، وأن هذا مخصوص للرجال كما أن ثمة أمور مخصوصة بالنساء.

- وللشيخ رحمه الله كلامٌ مهمٌ في حديث (أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء…) فيرى: أنه لما صرح بالعلة التي انبنى عليها الحكم بأكثرية النساء في النار، وهي كفران العشير والإحسان، اقتضى اطراد القياس وانسحاب الحكم، كلما وجد ذلك الوصف المناسب الملائم له، فيلزم عليه أن أكثر أهل النار كافروا الإحسان، وجاحدوا الجميل، رجالا كانوا أو نساء. ويرى أيضا أن أكثر أهل النار هم الرجال وليس النساء لما عهد عليهم بصفتي الغدر وقلة الوفاء سواء في هذه الأيام أو من قبل واستشهد بالشعر العربي الذي يعبر عن الواقع ثم قال: (إننا نلتزم أكثرية الرجال للنار، وإنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن أهل زمانه، وقد كان نساؤه أكثر من رجاله حظا في اللؤم والخيانة، وكفران الإحسان، فأما اليوم فقد انعكس الأمر واستحالت الخمر). وذكر أمثلة أخرى على مثل هذه الاستنباطات وهي معروفة عند أهل الأصول، ولكنني أقول أن ما وصف به واقعه هو نفسه الباقي حتى الآن ونحن نشاهد مدى فساد الشباب مقارنة مع فساد البنات والله المستعان وأكتفي بهذا القدر بالرغم من كلامه الطويل عن الواقع الاجتماعي والتاريخي الذي برز فيه من الفاسدين بالأغلب رجال.

- قال عن قوله تعالى: (بما فضل الله بعضهم على بعض): (وأما تفضيل الرجال عليهن بالنص فمما لا نزاع فيه ولكننا نقلب القضية فنقول: فضّل الله الرجال بقوة القابلية وكمال الاستعداد وتهيؤ الأدوات، وصلاحية الآلات، فتفوقهم على النساء في الفضل، موقوفٌ على صرف تلك فيما خلقت لأجله من الخير، كما أن حظهم من الشر يكون أوفى، ومكانهم من السقوط أردى، إذ هم صرفوا تلك النعم في غير ما خلقت له، والغالب في هذه العصور هو الثاني: ولو شاء النساء مجاراة الرجال في التسفل، لما قدرن على الانحطاط إلى دركاتهم بنفس القابلية التي حصل بها للرجال عليهن التفضيل، فمن لا يقدر أن يستن في الفساد إلا شوطا لا يبلغ فيه مدى من يقدر على شوطين، ومن العصمة ألا تقدر).

يعلق رحمه الله على قوله تعالى: (إن كيدكن عظيم) بالنقاط الأربعة القادمة:

١) إن عظمته بالنسبة لضعف عقولهن وصغر أدمغتهن بشهادة التشريح، والشيء يعظم من الصغير مع حقارته، كما أن العظيم يصغر من الكبير وإن جّل.

٢) مجيء الخير خاليا عن لام التوكيد، ولو كانت عظمة كيدهن مطلقة لقال: إن كيدكن لعظيم.

٣) إن العظمة متلاشية في جنب قوله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال)، وهذا في الرجال، وهو من عند الله عز وجل.

٤) أن هذه الآية محكية عن العزيز يمهد بها العذر ويدرأ اللوم ويغطي من سوأة امرأته بدعوى انطباع الجنس على عظم الكيد حتى يخف عنها العار، ثم ذكر ما قاله الذهبي من أنه لم يجد امرأة في رواية الحديث متهمة.

- يرى رحمه الله أن سماع الغناء من الأجنبية ليس بمحرم طالما خلا من الفتنة واستدل بذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان تغنيان، فهما ليستا له، وهذا الرأي ليس له وحده بل يراه الشيخ يوسف القرضاوي وكذلك الشيخ عبدالكريم زيدان صرح فيه في موسوعته أحكام المرأة والبيت المسلم، كما أن هناك من السلف والخلف من قال به.

- ذكر رحمه الله الكثير من الأخبار في جهاد الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن وبطولاتهن في القتال ثم بعض الأخبار عن شجاعة من جاء بعدهن وقال في ذلك: (على أننا لسنا في شيء من مشروعية الجهاد للنساء، لا سلبا ولا إيجابا ولكننا في شجاعتهن) فهو يدعو للاقتداء بشجاعتهن كصفية وأسماء والغزالة وغيرهن كثير ذكرهن وذكر أخبارهن وناقش ما ورد من الأحاديث في شأن منع قتال المرأة مناقشةً مستفيضة، أكتفي بما أشرت له من خلاصة رأيه.

- وأخيرا مما قاله -رحمه الله- معلقا عمن ألحد في قوله تعالى (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) وأن هذه مبالغة في غير محلها، تعالى الله عن ذلك، أن كلامه سبحانه وتعالى جاء متماشيا مع سنة العرب الذين لا يفتخرون بالغالب إلا لنسائهم وذكر شواهد كثيرةً في ذلك الأمر ثم قال بعدها: (والمرأة أول المدارس وأفيدها، ومتى وجدت في نساء أمة العرب من تستطيع التمييز بين النافع والضار، والممدوح والمقبوح، فحدث ولا حرج عن مبلغ شوطها في الجد وبعد مرامها في العز ومطمح نظرها في الشرف).

كان هذا ما وجدته عنده رحمه الله فيما يتعلق بقضية المرأة وإلا فثمة أبوابٌ لم تطرق والله المستعان، والإمام رحمه الله كان أديبا من الطراز الأول فكثيرا ما يستطرد في سرد أحداث العرب وأشعارهم، ومع ذلك اقتصرت على ذكر بعض أفكاره ومن أراد تفصيلاتها فله أن يراجعها مبثوثةً في كتابه القيم بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد.

وأسأل الله أن تكون هذه الكلمات محفزةً للمرأة على استعادة دروها وتنشئة ذلك الجيل المنشود.