لطالما مثلت مسألة الشر معضلة إنسانية كبرى للإنسان ، ليس فقط لأنه يتألم إذ يعاين أحداثه، ويصير ضحية لهذا الشر، بل لأنه وجد دومـا إشكالية في فهمه، ولم يستطع كثيرا أن يفسر أسباب وجوده أو يدرك الغاية من ورائه، وهو الأمر الذي يبعث على التشاؤم إزاء أمر لا يقبل الفهم ولا الاستئصال، ولا نستطيع حتى – في كثير من الأحيان – التخفيف من وطأته. لذلك خلقت هذه المسألة شبهة و تهمة تم إطلاقها على الذات الإلهية ، تهاطلت معها مجموعة من الإشكالات التي أثقلت العقول قبل الكهول ، من قبيل : لماذا توجد الأمراض والفقر والكوارث؟ ما الذي يدفع البشر نحو العدوان والحرب والاستبداد؟ لماذا وجدت المعاناة في حياتنا؟ بعبارة أخرى: لماذا يوجد الشر في هذا العالم؟ هل هو من صنع الإنسان، أم هو من مسببات الطبيعة، أم هي الإرادة الإلهية ولا شيء سواها؟ هذه الأسئلة ذاع صيتها في الأوساط الثيولوجية و اقتحمت الفلسفة و رحبت بها ، و انكبت على مناولة أجوبتها ، نظرا لأن سؤال الشر هو سؤال ديني فلسفي قديم كان دائما ما يتعلق بالتفاؤل والتشاؤم. و إزاءه قام أحد أعظم عقول التاريخ الفيلسوف الألماني لايبنتز في بداية القرن الثامن عشر بصياغة إجابته الشهيرة عن سؤال "الثيوديسيا" . 

      إن دفاع الفيلسوف لايبنز عن الذات الإلهية لهو أفضل و أكثر منطقية من بعض هلوسات رجال الدين عندنا ، حيث استطاع بفكره الثاقب أن يقدم أحد الدلائل القاطعة التي يمكن الاستناد إليها للتصدي لشبهة الشك في الله ، و التي أوردها في كتابه " الثيوديسيا " ، و رد فيه على إشكالات وجود الشر بمقولة أن العالم الذي نعيش فيه هو " أفضل العوالم الممكنة" ، و  أعلن أنه مهما حدث من شيء في الحياة فهو للأفضل، لأن الله خير مطلق، حتى مع وقوع بعض الكوارث والمظالم والعبثية في دنيانا . و لكن ذلك لا يعني بالنسبة له أن الشر غير موجود ، و إنما يعني أن الله لا يمكن أن يخلق شيئا أو صفة او كائنا في تمام الكمال ، لأن ذلك سيجعل من المخلوق كاملا ، الشيء الذي سيحوله بدوره الى إله ، فالكمال صفة إلهية محضة ، فكيف للإله أن يخلق إلها شبيها به ؟ و كذلك لا يمكن لله أن يخلق مخلوقا مليء بالعيوب و إلا سيكون ذلك دليلا على نقص و عجز القدرة الإلهية لذلك خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، تقويم الوسط ، لا هو كامل و لا هو ناقص ، يقول لايبنتز :"إن صفة الكمال لا يمكن أن تنطبق سوى على الإله وحده. وبالتالي فإن العالم الذي نعيش فيه هو أفضل العوالم الممكنة على الرغم من وجود الشر" . و جدير بالذكر أن جذور أطروحة لايبنتز التفاؤلية يمكن أن نرصدها في قصيدة "مقالة في الإنسان" للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب  الذي فاه بقوله الشهير: "إن كل ما يكون، يكون حسنا". كذلك يمكن أن نعثر على ملامح أخرى سالفة من المسألة في بعض كتابات الفيلسوفين أفلوطين و بروكلوس . و وارد كذلك في صورة التين بالقرآن الكريم في قوله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . لكن مهلا ، كيف يمكن تفسير كمية الشر الموجودة في هذا العالم ، من الشر الطبيعي( الكوارث الطبيعية و الألم ... ) و الشر المتأصل في الإنسان كما أكد عليه هوبز ؟ يجيب لايبنز على هذا السؤال بأن الإنسان لا يمكنه أن يدرك كنه أو قيمة الخير (العدالة مثلا ) بدون وجود الشر( الظلم مثلا ) ، و أجد مثل هذا النوع من التفكير عند الفلسفة الطاوية مع مؤسسها " لاو تزو " ، و كذا مع الفيلسوف العربي ابن سينا الذي أقر أننا لسنا مخيرين في هذا العالم بين عالم تام الخير وآخر ناقص، بل بين عالم أكثر شرا وآخر أقل شرا، ونحن نعيش بالفعل في العالم الأقل شرا على نحو ما فسرناه سابقا، فضلا عن انتفاء وجود الشر يجعل من سعي الموجودات الممكنة نحو الخير أمرا غير ذي معنى، فوجودية الشر هو الدافع للنفس أن تسعى دوما نحو التخلص من النقص والعدم. لكن جواب لايبنيز و ابن سينا لا يبرر خلق إله رحيم للشر ؟ فكيف هذا التناقض ؟ أجاب لايبنز أن الله لم يخلق الشر مباشرة ، و إنما وجد كنتيجة طبيعية و حتمية بفعل الضرورة الداخلية للطبيعة ، فالشر يتغدى من النقص الكامن في المخلوقات . و أشار كذلك الى فكرة مهمة تقول بأن الشر الطبيعي في حد ذاته نافع لأنه بمثابة إنذار كفيل بتجنيب الإنسان مضرة و مأساة أكثر تأثيرا ، فالألم الذي أشعر به و أنا ألمس آنية ساخنة هو إنذار موجه لي لكي لا أقترب مرة أخرى لأي مادة ساخنة جدا . 

      إن الفيلسوف الألماني أبدع في تقديم البراهين في الثيوديسيا لتبرير الشر في هذا العالم ، لكن هذا الإبداع أثار شرارة القلم و سال فيه الحبر في الضفة الأخرى بالضبط في فرنسا مع الفيلسوف الفرنسي العظيم و قائد التنوير فولتير الذي حارب واستفظع في روايته "الكسل الفكري" الذي كرّسته أطروحة لايبنتز المتفائلة بالنسبة له. فقد تطرق الفيلسوف الفرنسي إلى المآسي والمصاعب والبؤس الذي ينتج عن عدم التحرك ضد الشرور في العالم مثل: الحروب، المجاعات، القتل، الزلازل، الفيضانات الكاسحة، البراكين، الأمراض، مستقبل ملايين البشر المحتّم بالشقاء، فقدان كثير من الشباب حياتهم من دون داع، الأطفال الأيتام والمشرّدين، الشعور المرير بالحزن عند فقدان عزيز ورحيله عن عالمنا... إلخ. بعبارة أخرى، كيف يمكن لنا، مثلا، أن نشرح لصياد إندونيسي فقير لماذا حصَد إعصار تسونامي عائلته ودمر قريته؟ أو كيف يمكن أن نفسر لقرويّ بائس يعيش في أفغنستان أو العراق لماذا تطارده الميليشيات المسلحة والقنابل القاتلة؟ و ما زاد الطين بلة أحداث 1755،زلزال مدمر في مدينة لشبونة راح ضحيته عشرات، بل مئات الآلاف من البشر. انتشر خبر هذه الكارثة سريعا في أوروبا وزعزع التفاؤل السائد آنذاك. كيف يمكن أن يكون عالمنا أفضل العوالم الممكنة ويلقى مئات الآلاف حتفهم دون أي ذنب؟ و كتب إبان ذلك الفيلسوف البولندي تيودور بسترمان يقول : " لقد كان زلزال لشبونة بمنزلة صاعقة ضربت العالم الغربي بأكمله، وكان له الأثر الدائم في فلسفة كل إنسان مفكّر " ، و كرد فعل على تلك الكارثة، كتب الفرنسي فولتير رواية "كانديد" التي جاءت في شكل نقد متشائم وساخر لتفاؤل لايبنتز ، أراد من خلالها أن يلخص مأساة الإنسان وأن يضعها أمامنا  بكل أهوالها لتعمق نظرتنا للحياة غير المنصفة تماما، وأنها سوف تستمر في إعطاء الجميع جرعات من الألم، والكثير من الأوقات العصِيبة، على الرغم من اعتقاد الناس بأن كل شيء يسير نحو الأفضل!  ففي الحقيقة كل شيء يسير الى الأسوء بالنسبة لفولتير . و يبدو من نظرته أن  الشّر بطريقة ما أمر لا يُقهر، وبالتالي لا نستطيع تأسيس آمالنا  على فكرة أَفْضل العوالم ل لايبنتز . إن فولتير بذلك يشتبك مع الموقفين الرائجين في عصره، الموقف الديني الذي يرفع شعار «العالم مَخْلوق». وعلى العكس منه، الموقف «المادي» الذي يتمحور شعاره الأساسي حول أن «العالم مَوْجود». علما بأن اللفظتين (مَخْلوق) و(مَوجود) ليس بينهما فرق كبير مادام الطرفان يضعان ذلك في صيغة الماضي. غير أن فولتير يطرح خيارا مغايرا– لم نفكِّر فيه ربما – وهو أن «العالم يَنْخَلق» أو أن «العالم يَنْوَجد»، وهذه صيغة مضارع تنطبق على الماضي والحاضر والمستقبل، كما فاه بذلك المفكر السوري إلياس مرقص . و من الضروري الإشارة هنا إلى أن فولتير لم يكن ضد التفسير التفاؤلي للفيلسوف الألماني لايبنتز، أو ضد مفهوم "خيرية" ،عدالة الإله ( الثيوديسيا )، فهو كما نعلم لم يكن مُلحدا كما يشاع عنه وإنما "ربوبيا " يؤمن بوجود خالق عظيم يمكن الوصول إليه باستخدام العقل ومراقبة العالم من دون الحاجة إلى دين، غير أنه – في الوقت نفسه – كان بالضدّ من استغلال هذا التفسير بصورة سياسية/لاهوتية بالدرجة الأولى لكي يَقبل الناس بكل غائلة تصيبهم، وذلك كله تحت ذريعة أنه «ليس في الإمكان أبدع مما كان في العوالم الممكنة وفق نص تعبير لايبنتز الشهير . و بالتالي فقد لقد أراد فولتير من مجادلته أن ينتقد بعض الأيديولوجيات في عصره – والتي لاتزال أطروحات بعضها قائمة حتى اليوم – ورفع الغطاء عن أن تفاؤلها لم يكن متطابقا مع الواقع. إذ قد يكون بعض هذه الآراء معقولا نظريا، ولكن التطبيق العملي لها يثبت مدى تهافتها وإخفاقها.

      إذن ... كانت دعوة الفيلسوف النبيل غوتفريد لايبنتز صريحة الى تمثل العالم كوحدة لها جوانب إيجابية تطغى على السلبية من الناحية القيمية ، لذلك فإن قيمة الشيء لا تتحدد بمرادفه ، بل تتحدد بنقيضه ، فنحن لا ندرك قيمة الحياة حتى نكون على فراش الموت ، و لا قيمة الصحة إلا في المرض ، و بالتالي فلايبنتز ينص على التفاؤل بعالمنا و عدم الازدراء و النفور منه لأنه أفضل العوالم ، و أفضل ما يمكن أن يوجد ، لأن الله يشتغل بمبدأ الوسط . إلا أن فولتير رفع شعار "لا للتعتيم على المُعاناة في هذا العالم". إنها خلاصة ما للفظائع والمظالم والعبثية التي تَحدث كل يوم في منطقتنا وبلداننا، مُدننا وشوارعنا، وتثير الاستنكار في نفس كل إنسان حي، والتي ينبغي ألا تنسينا أننا كبشر نعيش جميعا في جحر الوحش يمكن أن يفتك منا في أي لحظة .