قام الأستاذ ماركيز متثاقلا مِن مكانه وهو يشعر بصداع حاد، سار باتجاه الحمَّام فغسل وجهه، قبل أن يتنبه لوجود بعض الدماء اليابسة على أظافره، غسلها بسرعة، عاد بعدها وجلس على احدى درجات السلالم، أشعل سيجارة وراح ينفث الدخان في الهواء محاولا التخلُّصَ مِن صداعه الذي أنهكه، مكث لبرهة وهو يطارد أشباحا مِن صنع أوهامه، شبح فتاة لطالما قام بمناداتها باسم "صوفيا" خلال هذيانه وهو نائم تلك الليلة، صورتها لم تغب عن ذاكرته، صورة فتاة سمراء رشيقة ذات عينيْن مائلتيْن إلى السّواد وابتسامة ساحرة، استرجع حديثها إليه وهما يركبان سيارته الفرنسية، دار حوارهما حول الخوف من السير وحيدة على طرقات القراصنة ليلا، ومدى استقلالية الفتاة على "الجنَّة ما وراء البحر"، عن الموسيقى، الكتابة والقراءة، عن المسرح والأفلام، عن الرومانسية والعنف، عن حب المال ومكانة الروح في الحياة.

"آه؛ هو مجرَّد حُلم آخر!"، هكذا همس الأستاذ ماركيز في أذن ضميره وهو يرمي عقب سيجارته التي نفذ دخانها، محاولا الوقوف ليعود إلى فراشه الدافئ، الأستاذ ماركيز مِن محبي فصل الشتاء ودفء المنزل خلال هذا الفصل البارد، استلقى في مكانه، مسح بكفه اليمنى وجهه محاولا للمرة الأخيرة استرجاع ما جرى معه ليلة البارحة، وبعد مواجهته لعاصفةٍ عقليةٍ مثيرةٍ، استطاع تذكُّر كأس النبيذ الأخير الذي شربه في حانة "الخشب" ليلة أمس، قبل أن تتسارع الأحداث في عقله فيتعب ويوقف عملية اجهاد الذاكرة هذه على الفور.

انتبه إلى هاتفه المحمول وهو ينبهه لوجود مستجدات على حسابه ضمن "واجهة الكتاب" أحد مواقع التواصل الاجتماعي العالمية، وبالفعل التقط الأستاذ ماركيز هاتفه المحمول بلهفة الطفل الذي يلتقط لعبته المفضلة، وبدأ بتصفح الأخبار المختلفة التي تظهر على جداره الإلكتروني بأربع لغات مختلفة، أغلبها يظهر بالإنجليزية، العربية، الاسبانية وبعضها يظهر بالفرنسية – اللغة التي يتقنها ولا يحبها – وفجأة!

شاهد خبرا لم يكن ليخطر أبدا على باله، الأخبار مثل الأيام، بعضها لك وبعضها الآخر عليك، بعضها يرفع ضغط دمك غضبا وتعصبا، والبعض المتبقي يجعل وجنتيْك تتورد احمرارا خجلا أو استحياء، فرحا وسرورا، لكن ما قرأه الأستاذ ماركيز ذلك اليوم لم يكن خبرا عاديا، خبرٌ سريالي وكأنَّه خرج ما بين الفهم والوهم، ما بين الخيل والخيال، ما بين الفأس والكأس، ما بين الروح والبوح، خبر ليس ككل الأخبار التي سمعها أو قرأها من قبل، والثابت فيه أنَّه سيغيِّر حياته إلى الأبد، فحياة ماركيز في تلك اللحظة ليست الحياة التي اعتاد عليها منذ ولادته.

من بين الصفحات التي كان يتابعها الأستاذ ماركيز على مواقع التواصل الاجتماعي هي صفحة المدينة التي يسكنها منذ طفولته، مدينة "لؤلؤة البحر الأبيض"، وفي ذلك اليوم، في تلك اللحظة، في ذلك الزمن الذي خرج مِن اللا-زمن، قرأ خبر ظهور جثة فتاة معلقة على احدى الجسور عند مفترق طرق منطقة "الكُدْيَة"، حيث جاء في تفاصيل الخبر، بأنَّ الجثة كانت معلقة مِن رجليْها، وبعض أطراف جسدها كانت منتزعة، الغريب في الأمر أنَّها كانت حليقة الرأس، فارغة مِن الدم تماما، تضع على وجهها مكياجا كاملا، تلبس فستانا أزرقا جميلا، وتنتعل حذاء إيطاليا غالي الثمن، والأغرب أنَّ الجثة كانت تفوح منها عطور خاصة بالرجال، رجَّح خبراء الشرطة العلمية بأنَّها من نوعية فرنسية فاخرة، وعلى مسرح الجريمة تركت حقيبة يد ذات صنع ياباني متقن، بها هاتف محمول أميركي الصنع، لم يستطع التقنيون اختراق كلمة سره، لكنَّ الخبر أكَّد للجميع بأنَّ شاشته أظهرت عبارة واحدة تقول: الخطر والأنوثة كالقلم والمطرقة، لا يلتقيان.