قبل فترة كتبت ُ مقالا بعنوان : ماذا فعل الوتز أب في حياتنا ؟ ، وأشرت في نهايته إلى أمنية أتمنى أن أقوى عليها وهي أن ألغي هذا البرنامج من قائمة أعمالي اليومية والحمد لله وصلت اليوم لهذه الأمنية وهذا القرار ، وهو نتيجة تراكمات وأسباب كثيرة سألخصها في نقاط ربما قد يجد فيها أحد إضاءة أو إشارة ولو يسيرة . وأستطرد لأقول إن الناس تكتب لأسباب كثيرة : لطلب الراحة من عناء الفكرة ، للمتعة ، للوظيفة وطلب المزيد من المال ، للتحريش بين الناس ، لاستدرار مزيد من الأفكار .. وقائمة تطول . وكتابتي هنا من أحد أسبابها أن يزيد التزامي الأدبي بهذا القرار حتى لا أتراجع فيه ، مثل المدخن الذي ينصحه الأطباء أن يقرر يوما معينا يخبر الناس حوله أنه يومه المشهود لانتهاء علاقته بالتدخين ، فيجد نفسه محاصرا بوعده لنفسه ووعد ألقاه على عشرات الناس حوله ، وهذا ما أفعله الآن !
١) كانت البشرية في مرحلة ما تجد صعوبة بالغة في التواصل ، لكن اليوم لم تعد مشكلتنا في عدم القدرة على التواصل بل في كثرة المنافذ التي تنفذ إليك فتسرق وقتك وجهدك وتركيزك ، فتعيش محاصرا بخيوط من حرير وتعيش “ عبودية اختيارية “ لهذه التكنولوجيا المتوحشة .
٢) أغيب عن أحد الأصدقاء فترات طويلة جدا جدا ، لكنني في تواصل مستمر معه على هذا البرنامج .. ثم تأتي صدفة فألقاه فلا أجد من نفسي ولا منه حرارة اللقاء السابقة ، بل ربما نغفل أحيانا فيسلم أحدنا على صاحبه سلاما ليس فيه إلا طرف راحة يده ، ثم ننتبه أننا لم نتقابل منذ سنة .. فنعود للعناق المتأخر وتصنع مشاعر غائبة ، وهذا أمر خطير جدا جدا أن نتحول إلى مكائن جافة بهذه السهولة وبهذه البساطة . في هذا العالم المليء بالضجيج = حاجتي لصديق أنظر في عينيه وينظر في عيني ، وأضع يدي في يده أهم من أي وقت مضى ، وحاجات الناس للحديث الصادق الذي تصحبه الزفرات والتوجع في شكوى لصديق صادق ، وللضحكات والابتسامات الصادقة ، أكثر من حاجته لرموز صفراء يزين بها الإنسان عباراته المكتوبة حتى يبعث ذرة من فيض مشاعره عبر هذه الأجهزة القاسية .
٣) هذا المد التقني لاحد له ، وقد بلغ البشاعة والفضول والوحشية ما يقف أمامه المتأمل حائرا يتساءل : كيف وصلنا لهذا الحد ؟ وكيف سمحنا لكل هذه الكماليات أن تشاركنا تفاصيل حياتنا . وفي التحديث الأخير للوتز أب مثال صارخ على انتهاك الخصوصيات ، وتجاوز كل الحدود . فقد تكون في جلسة عائلية حالمة هادئة ، أو في ضجيج عملك وشغلك ، تعبث بجوالك بصمت ، فتمر على هذا البرنامج اللعين فتأتي إشارة لأحد ما قد بعث إليك رسالة أو طلب بأنك قد اطلعت على رسالته أو طلبه .. وأنت في مكان ووقت لا يأذن لك بالرد ولا بتأمل رسالة جادة أو كتابتها . وما دمت قد اطلعت على الرسالة فأنت ملزم “ أدبيا “ بالرد والتعاطي مع هذا العالم الذي دخلته بقدميك مختارا ، أو فاستعد لاستحضار المبررات عند كل تأخر أو ظرف طاريء . فما الضرورة التي تدعو لكل هذا ؟ .. لا شيء أبدا سوى أننا اخترنا أن نرضخ و نستسلم للتقنية وشبح الرأسمالية الذي يسوقها .
٤ ) هناك قاعدة تقول : “ إن الإنسان عرضة لأن يعتبر شيئا ما ضروريا لإنه أصبح ممكنا “ ، فكر في هذه القاعدة وحاول إعمالها على غالب الكماليات التي تحاصر حياتنا اليوم ، وكيف أصبحت ضرورية لأنها فقط أصبحت ممكنة .
جلست أفكر : ما “ الفائدة “ الفعلية التي أستفيدها من الوتز أب ؟! وما الضرورة التي تجعلني متشبثا به ؟ . لا يوجد ضرورة . وإذا قالت لي نفسي أحيانا أن وسيلة للتواصل وللوصول للخبر أو المعلومة أحيانا . فإني أقول لها : أن لدي طرق كثيرة للتواصل ، الوتز أب ليس أفضلها . وأن لدي طرق كثيرة للوصول للمعلومة ، الوتز أب من أسوأ الحواجز أمامها ، وإن كان مصدرا لها فهو من أكذب وأسوأ مصادرها ، لما يشوب أخذ المعلومة الصافية من ضياع للوقت وتشتيت للذهن فتذهب المعلومة ويبقى الشتات الذهني .
٥ ) ألستطفت كلاما جميل للمفكر الكبير جلال أمين عن الفراغ في كتابه العميق والمهم جدا “ العولمة “ . فهو يرى أن الفراغ حاجة إنسانية يسعى الإنسان إلى تحقيق أكبر قدر من الفراغ ، فإذا جاء الفراغ بحث عن أي شيء لمليء هذا الوقت الفارغ . وعندما يتوفر الفراغ يحتار الإنسان بأي شيء يملؤه ، وهذه الحيرة هي التي تدفعه إلى الاستسلام السريع لكل ما تلقيه إلى التكنولوجيا الحديثة من ابتكارات . هذا ملخص تحليل جلال أمين “ لمعضلة الفراغ “ أو الحاجة البيولوجية التي اسمها الفراغ . إذا ، كل ما يفعله الوتز أب أحيانا هو مليء هذا الفراغ لدى معظم الناس . فهل العقلاء بحاجة فعلا لأن يملأ فراغهم شيء كالوتز أب وأمور أخرى مشابهة ؟ . أترك الجواب مفتوحا .
٦ ) “ التقنية تجعلنا أكثر معلومات وأقل معرفة “ :
هل تتصور أن أحد ما يستطيع أن يقرأ قراءة جادة عميقة أو يكتب بحثا علميا رصينا وبجانبه إشعارات الوتزأب وتويتر والفيس بوك والجوال وشاشة الجزيرة والعربية ؟! ..
وهذا ما أجده مع نفسي .. فقبل سنوات كنتُ أقضي ثمان ساعات متواصلة في قراءة أو مذاكرة لايقطعها شيء وبقدرة عالية على التركيز والفهم . واليوم أشعر أنني أغالب نفسي على نصفها ولا أكاد بسبب الشتات الذهني والمشغلات ، واليد التي تذهب عفويا لالتقاط الجوال للاطلاع على الجديد من الأخبار والمعلومات .. وكثير من الأصدقاء كذلك .
ثم ماذا ؟ لاشيء . العالم كما هو ويزداد انحطاطا وتخلفا ووحشية ونحن نزداد ضمورا وضعفا . فماذا أفادتنا ثروة المعلومات ؟ لاشيء أيضا . جدي قبل سبعين سنة كان أكثر نفعا لمجتمعه وبيئته وأعمق حكمة ومعرفة من السواد الأعظم من الناس اليوم ، وكمية المعلومات التي يعرفها عن العالم أقل بكثير مما يعرف تلميذ اليوم في نهاية المرحلة الإبتدائية !