تفكيك الفكر الخارجي

كنت وكغيري كثيرون نظن أن سواد الأمة هم أهل السنة والجماعة، ولكن بعد وقفة تأمل وجدت أن الفكر الخارجي الذي كاد أن ينقرض هو منهج السواد ولسائل أن يقول كيف ذلك؟ فأرد عليه بالتالي:

إن منهج الخوارج قائم على ركنين أساسيين تنبثق منهما كل شريعتهم:

١) التكفير بالكبيرة: وهذا هو ما نراه في الفرق التكفيرية الحديثة تطبيقا ولو لم تقله تصريحا.

٢) التكذيب بالسنة: ومن خلالها كذبوا بعض الحدود وكانوا لا يأخذون إلا القرآن مصدرا تشريعيا والقليل من السنة وهذا هو الصنف الآخر ممن يمثله مراهقي الفكر والمتفلتين من التشريع الإسلامي.

ولعل من أعظم علامات الفكر الخارجي الذي ابتليت به الأمة السنية هو انعدام الفقه والحدية في فهم الأحكام، فهذا هو السائد في فكر الخوارج منذ القدم حينما كانوا يقتلون صحابيا بتهمة الردة ويتحرجون من الاستظلال ببستان يهودي. هذا العقل الحِدّي الذي تحكم بهؤلاء هو ما يحرك الخوارج الجدد بشقيهم فمثلا:
١) القضية التي بينت مدى الجهل الفقهي في ساحة بلدنا السعودية وهي قضية الحجاب وغطاء الوجه والتصرفات الصبيانية من موظف سابق بالهيئة جميعها تدل على حدية العقل الفقهي، فجانب يرى هذا الأمر واجبا وجوبا قطعيا والآخر لا يراه كذلك قطعيا و "فشلونا" بتكبير الموضوع لهذا الحجم وافتعال كل هذه المعارك، لكن هذا علامة على التفكير الحدي.

٢) قضية المعاملة مع الكافر: ومنها التهنئة بالأعياد فطرفٌ  يرى كفر هذه التهنئات وطرف مقابل يرى لزومها ووجوبها.

٣) تطبيق الحدود الشرعية: فبالرغم من اجماع الأمة على تلك الحدود إلا أن هناك من يطبقها هكذا دونما الأخذ بشرائطها وبالمقابل هناك من ينكرها هكذا دونما النظر في الأدلة الكثيرة عليها.

بالرغم من تناقضات طرفي الخوارج إلا أنهم يتفقون على الحدية في الفهم والجمود عليه وتناقضهم هذا من قديم كما بينا في البداية، ولكن ما هو المنهج السني المقابل الذي يعالج هذه المسائل؟

إن منهجية أهل السنة والجماعة في تلك الأمور قائمة على أمرين:
الأول: البناء على المحكم فأما الظني فهو يقبل الإجتهاد والتنوع، وهذا كمسألة الحجاب والنقاب فالأول قطعي والثاني ظني فتعرف حينها الأولويات ودرجة الاختلاف المطلوب ومن هنا تأت أصول أخرى كالعرف والعادة وهي تبقى ظنية ليست بنص محكم. كذلك كما هو في التهنئة؛ فبالرغم من الاتفاق على أن من يهنئ معتقدا بعيد الطرف الآخر فهذا قد ارتكب جرما، وبين من يهنئ بالأعياد من باب العادات لا الاعتقاد، فالأول هو من القطعيات والثاني هو من الظنيات الذي يقبل الاجتهاد والاختلاف أيما كانت وجهة النظر فيها.

الثاني: أن لكل واجب في الشريعة الإسلامية شروطا لوجوبه فصلاة العصر واجبة مثلا ولكن لو كان الوقت ظهرا هل تجب صلاة العصر؟ بمعنى لو مات شخصٌ في هذا الوقت هل يعتبر مذنبا لتركه الصلاة؟ نقول لا لان شرط الصلاة لم يتحقق وإن كانت صلاة العصر كغيرها ركن لابد منه.
هذا تماما هو ما ينطبق على المثال الأخير (قضية الحدود) التي لابد من توفر شروطها لنطبقها فلا ننفي الحكم تماما ولا نطبقه وهو لم يكمل نصابه من الشروط.

من خلال ما بينت يتضح أن العقل السني الفقهي لا يتمتع بتلك الحدية الخارجية الحديثة والقديمة فليس لكل مسألةٍ حكم واحد محدد لا يتغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية وإنما هناك سعة ومرونة لا يدركها إلا صاحب عقل ذكي.