يحمِل كلُّ رجُلٍ بداخله وحشًا، تعمد الديانات، المبادئ، الأعراف، التعاليم والقوانين على كبحه وتقييده، ولكن غالبا ما يتحرر هذا الوحش حينما تُقمع لدى هذا الرجُل رغبة ما، نشوة بعينها، فيصبح حاضرا أمام الجميع بكامل توحشه، يبطش بالكلِّ دون تمييز، قد يتجاوز كلَّ الحدود، وقد يصل إلى مستويات بالغة القسوة، انتقاما لكبريائه، انتقاما لروحه، ورغبة في رؤية هذا العالَم يحترق ليصبح رمادا تذروه الرياح في كافة الأرجاء.

يوم عمل عادي للغاية، يمر على الأستاذ ماركيز دون جديد يستحق الذكر، ما عدى شرائه لسيارة جديدة فرنسية الصنع، فعلى أرض القراصنة، نادرة هي السيارات الألمانية، اليابانية أو الروسية الصنع، فالآلات الفرنسية تغزوا هذه الأرض كمظهر ثابت مِن مظاهر العبودية لباريس منذ سنة 1827م للأسف، كُرهُ ماركيز لكلِّ ما هو فرنسي لم يمنعه مِن شراء سيارة فرنسية حتى يتخلَّصَ مِن أزمة السير والتنقل التي لطالما رافقته في أيامه السابقة، أوه! لقد تحررتُ مِن ظلم سائقي الحافلات ومساعديهم البؤساء، هكذا همس ماركيز بداخله.

قرر ماركيز في هذا اليوم الجميل أن يحتفل بسيارته الفرنسية الجديدة، لهذا بعد انقضاء دوام العمل، قصد حانة "الخشب" حتى يحتسي بعض الكؤوس من الويسكي الفاخر، ويدخن بعض السجائر كعادته خلال هذه المناسبات، دخل الأستاذ ماركيز الحانة، فصادف حفلا جميلا بداخلها، أقامه أحد زملائه مِن السكارى، وهذا بالضبط ما أحبه الأستاذ ماركيز واستحسنه كثيرا، جلس إلى احدى الطاولات، وشرع في احتساء الكأس بعد الآخر، لكن عقله راح يبحر في غياهب الماضي عندما تمكَّن منه مفعول الويسكي المعتَّق، ليتذكَّر الأميرة "صوفيا"، أميرة قلبه التي بقيت بداخله رغم رحيلها عنه في أحد الأيَّام بغتة، حينها بكى ماركيز وهو يتمايل على أنغام الموسيقى الشعبية الاسبانية في تلك الحانة الصغيرة، بكى كالطفل الصغير، فالرجُل عندما يخسر حبه يبقى أمامه اختيار أحد الحلَّيْن: إمَّا التوحش أو العودة إلى الطفولة، وكما يبدو فقد اختار ماركيز الحلَّ الأكثر لطفا، لهذا بكى من أعماقه.

وعندما جنّ الليل، وبمجرّد حلول موعد إغلاق "حانة الخشب"، خرج ماركيز ببطء شديد بمساعدة النادل، جلس خلف مقود سيارته الفرنسية، أدار المحرِّك بصعوبة بعدما بحث عن المفاتيح لوقت ليس بالقصير، قبل أن ينطلق محاولا العودة إلى منزله، كان الظلام مِن حوله حالكا لكنَّ شعور المرارة الناتج عن استرجاعه لذكرى صوفيا كان أشدَّ وَقعًا عليه، للحظة! رغب الأستاذ ماركيز بالابتعاد عن لؤلؤة البحر الأبيض، وقيادة سيارته الفرنسية إلى أبعد مكانٍ يمكن أن تصل إليه تلك الآلة، لكنه تمسك بآخر خيوط العقل الباقية بداخله، وراح يسير على طريق العودة الذي لطالما سار عليه كلَّ يوم تقريبا لمدة سنوات، كانت السيارة الفرنسية تسير ببطء، بين أنوار تضيء الطرقات بشكل باهت كما تنير الأفكار حياة القراصنة، الصورة الباهتة ذاتها تشترك فيها طرقات أرض القراصنة ليلا وأفئدة أبناء القراصنة في كافة الأوقات، فجأة، تهيَّأ له بأنَّ احدى الفتيات تلوِّحُ له طالبة أحدا يقلها، ودون سابق إنذار ودون أن يفكِّر أيضا، وجد نفسه يوقف سيارته الفرنسية، يترجل منها، يسير بخطى متثاقلة بل هي شديدة البطء، قبل أن تبادره الفتاة قائلة: سيدي! هلاَّ أوصلتني إلى حيِّ اليمامة من فضلك!

تجمَّد الأستاذ ماركيز للحظات في مكانه، تلعثم لسانه، لم يصدِّق ما هو فيه، فأرض القراصنة تمنع الفتيات من السير بمفردهنَّ ليلا، إمَّا خوفا عليهنَّ مِن القراصنة الوحوش الذين يتربصون بهنَّ لاستعبادهنَّ، أو استجابة لتلك الأمراض النفسية التي تولد مع القرصان بمجرَّد ملامسة جسده لأرض القراصنة.