".. ومازلنا نبحث عن رجل يتعهد بحمايتنا من قطاع الطرق ، حتى وجدنا رجل من " القبيسات " تعهد بذلك ومضينا معه، فلما حل الليل لم ينم ؛وبقي ممسكا بسلاحه لفجر اليوم التالي  وهكذا.. حتى وصلنا  إلى  منطقة قصر برقع في بادية الأردن  ،  هناك أصبحنا داخل نفوذ قبيلة الشرارات ونزلنا في ضيافة أحد شيوخ عشائرهم  ، وأقبل  أصحاب الإبل من كل صوب ، على عدة أيام يعرضون حلالهم لنشتري منها .." 

كانت هذه أحد الحكايات التي يحكيها والدي  عن حياته حينما يجلس عصر كل يوم وهو يرشف الشاي ، الحديث معه لا يمل خاصة حينما يتحدث عن حياته في الماضي ، حياته تاريخ بحد ذاتها ، ولد في مدينة سكاكا في الخمسينات هجرية   ، فهو ممن درس في طفولته عند الشيخ فيصل المبارك ، وتعلم على يديه القراءة  والكتابة واكتسب منه مبادئ العلوم الشرعية، أبرز مشاهد الطفولة  مايرويه عن زيارة الملك سعود لسكاكا وكيف وزع الجنيهات على المحتفين به ، وحينما أصبح يافعا انتقل مع عائلته إلى  عرعر ، ومضى فترة  من حياته  متنقلا بينها وبين الشام  ، يرافق والده في تجارة الابل ، وكانت الشام إحدى المحطات التي فتحت له آفاق أوسع ، إذ رأى فيها قمة التطور الحضاري والثقافي آن ذاك ، يروي لي عن مشاهداته لمسيرة الأطفال أمام المدارس وهم يحملون الأعلام في الشوارع فور إعلان  الوحدة العربية بين سوريا ومصر وعن مظاهر البهجة التي عمت البلاد هناك، وكيف انقلبت إلى حالة الطوارئ و توقفت الحياة  فور إعلان الانفصال ، يتحدث بإسهاب عن شكري القوتلي وجمال عبدالناصر،وفوزان السابق وابراهيم الحسون  و عن عمه "حمد"أحد رجال العقيلات الذي أتاهم في أواخر عمره منكسرا من الشام بعد أن حول كل مدخراته "للمارك الألماني" إبان الحرب العالمية الثانية وخسِرها مع خسارة ألمانيا ودول المحور. قارئٌ من الطراز الأول ، يحب كتب التاريخ ، ويستشهد بالتاريخ على سنن الحياة التي لا تتبدل ،كان معجبا بكتابات الشيخ علي الطنطاوي ووصفه الدقيق للتغير الاجتماعي الذي حدث في سوريا، تعلم اللغة الانجليزية  وأتقنها في مطلع الثمانينات هجرية حينما عمل في شركة أرامكو ، مفهوم الوظيفة في بيئته لم يكن مستساغا آن ذاك ، وبالتالي كان العتب يلزمه  أحيانا لانخراطه في وظيفة ، فالعرف أن يكون تاجرًا أو صاحب عمل حر على الأقل، إلا أنه وجد فيها نفسه فلم يلتفت لأحد، "أرامكو" بالنسبة له لم تكن شركة ووظيفة بقدر ما كانت نموذج جديد ونمط مختلف للحياة ، كان دائم التعجب من قدرتها على صهر الثقافات ، ووضع معيار الانتاجية فوق كل المعايير ، رأى فيها الاستقرار الذي يبحث عنه. 


كل محطة من هذه المحطات صنعت تحولا في حياته وتفكيره ، فكان مرنا سهلا ، سمحا إذا باع ،سمحا إذا اشترى ، يحكم على الأمور بالنظر إلى مآلاتها ، لذا فإن  كثيرا من المسائل التي كانت محط خلاف وتشديد في أبناء جيله لم تكن موجودة لديه .

 وبعد تقاعده ، عاش بين المسجد والمنزل ، ورغم كبر سنه   إلا أنه ظل صحيحا معافى ، يقود سيارته  ويخدم نفسه ، ولا يقبل خدمةً من أحد  ، توفي- رحمه الله -في غرة رمضان لعام ١٤٤٣  ، حضر جنازته القاصي والداني ، الصغير والكبير ، وفي مجلس عزائه ترى التاجر والسائق ، إمام الجامع وعامل المسجد ، وكأنما تمثل أمامي  قول الشاعر :

فَما كانَ قَيسٌ موتهُ موتُ واحِدٍ   وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما