حصلت على أول مليون ريال في حسابي في منتصف عام 2018. كان ذلك بعد ان استطاع شريكي عبدالإله، بعد مفاوضات طويلة مرهقة، من بيع ملكيّة برنامج واحد من حزمة برامجنا على أحد المستثمرين.
قد مضت سنين عشر منذ بدأنا شركتنا البرمجية تلك، أسسها صديقي الوفيّ، وابن خالتي الجميل، عبدالإله.. ثم تبعته أنا شريكًا. وقد كنّا بخير حال لزمن طويل، نعمل على مشاريع حكومية صغيرة بمبالغ ممتازة، إلا أن عبدالإله قد اعتاد أن يصرح لي علنًا، أو يوسوس في صدري وسوسةً، أن حزمة البرامج الثلاثة التي بأيدينا سنبيعها بالملايين، ومن ثمّ: سنكون من أصحاب الملايين.
في حينها كنت أعتقد أن المليون أكثر من تكون في حساب شخصي واحد. المئة ألف شيء رائع، أما المليون فكثير. كان هذا قبل عشر سنوات، ولم نكن حينها قد بلغنا الثلاثين بعد.
في الواقع، كان الذي دخل في حسابي منتصف عام 2018 جرّاء صفقة البيع تلك، أكثر من مليون واحد. لا أزال أذكر ذلك الشعور الغريب الذي انتابني حينها، ولا أنسى ذلك الأسبوع الغريب الذي مررنا به، أنا وشريكي عبدالإله.
في نهار من تلك النهارات المشمسة، خرجنا -أنا وهو- نجوب شوارع الرياض بسيارته، محتفلين بطريقة غير واضحة، وبلا هدف. توقّفنا عند أحد المولات، من متجرٍ عالميّ اشترى هو ساعة يدٍ رياضية، واكتفيت أنا بكوب قهوة مثلجة مع الكراميل. أخبرته أنني أنوي السفر إلى دبي لبضعة أيام، وبدا كأنه لم يسمع ما قلت، واكتفى بقوله:
- خلاص أنا أبوصلك للمطار
شكرته وافترقنا للتجهيز لرحلتي القصير.
ننحدر أنا وعبدالإله من ذات البيئة والعائلة، كلانا من قرية تدعى "حوطة سدير". هو ينتمي إليها بالولادة والتنشئة، وأنا أنتمي إليها بالاسم والتاريخ، فقد وُلدت في الرياض وعشت فيها، وجاء هو للرياض مع دخوله للجامعة، ودرسنا جميعًا في كلية الحاسب.
كنا -في مستوى ما- متشابهين إلى حدٍ كبير، وفي مستوى آخر، متنافرين بطريقة مدهشة. أما هو فعنيدٌ صلب، جريء ومقدام، إذا مشى يبدو كمن ينزل من منحدر، متوسط القامة وله صلع مبكّر في مقدمة رأسه كنّا نعيره به صغارا. وكنت أنا أكثر هدوءًا ومرونة منه، وأتموضع في نموّي كما يليق بشاب مرفّهٍ يسكن المدينة ويتبع صيحات جيله. يجيد عبدالإله الكلام والتأثير، ولا يعرف كتابة سطر واحد، أو حتى جملة. وكنت أنا قليل الكلام متلعثم، وأتولى نيابةً عنه كتابة أي خطاب أو بريد يخص شركتنا وأعمالنا. يفصل هو بين الجد والمزح، فإذا كان جادًا فهو الجدّ، ولا يقبل التضاحك، وعند الهزل تجده فطنًا ضحوكًا، يجيد صناعة النكتة ويتبجّح أحيانًا بإلقاءها فجّة ساخرة غليظة، فيضحك بكل صوته ويضحك معه الآخرون. أما أنا فعادتي أن أزاوج بين الجد والمزح، فتراني مازحًا في ثوب جاد، وأخلط بين هذا وذاك تخفيفًا على نفسي وعلى الناس.
منذ أن أُودعت الملايين في حساباتنا، وعبدالإله لا تعجبني حاله، ولا أظنه على طبيعته المعتادة. كنت أعرف أن للنجاح حالات تباغت الناجحين، وتربك مشاعرهم، سمعت عن هذا وقرأت.. هل هذا ما يمرّ به عبدالإله؟.
في عينيه رأيت وجومًا حين أوصلني للمطار، كان السكوت يغلب على أسبوعنا الذهبيّ ذاك، في منتصف عام 2018. وإذا تحدّثنا، كان الحديث في الماضي وعن الماضي، يتولاه عبدالإله فاتحًا باب الذكريات على حوطة سدير وأزمنةٍ قضاها هناك، وقضيتُ بعضها معه في الأعياد والمناسبات. ودّعته عند المطار بابتسامة، ابتسامتي تلك التي لا أجيد سواها تعبيرًا لما يجيش بالنفس. وقد أيقنت منذ زمن معضلتي مع الكلام والبيان، ثم أدركت بعدها أنها ليست معضلتي أنا فحسب، وإنما هي مسألة حارت معها عقول القوم منذ فجر الإدارك البشري، تلك التي يسمونها: مشكلة اللغة. فكانوا يشتكون من أن كلمات العالم لا تكفي لتوضيح مافي النفس من معان وأحاسيس، وراح قومٌ يناقشون المسألة، ثم راح آخرون يرسمون ويغنّون ويكتبون الأشعار ويرقصون، فكأنهم يقولون: إذا ضاقت العبارة، اتّسعت لنا الفنون، وإذا انغلق منطق العقل واللسان، ففي رحاب الجَمَال فتوح.
ولأنني -بعكسهم- لا أتقن أيًّا من صنائع الجَمال تلك، ولأنني -مثلهم- فكّرت ولم أجد حلاً لمعضلة الكلام تلك؛ فقد كنت أبتسم، وأكتفي بابتسامتي تلك، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
لا أذكر أنه قد مرّ بي يوم من دون تواصل مع عبدالإله، لا في حلٍّ ولا في سفر. وأثناء رحلتي تلك -لدبي- أخبرني أنه بصدد تأليف كتاب عنوانه (حقائق الأشياء)! وبمحادثةً سريعة عرفت أن عنوان الكتاب الفلسفي الهائل ليس عنوانًا فلسفيًّا هائلا؛ وإن كنت أفهم عبدالإله جيدًا، فإن الكتاب الذي ينوي تأليفه ليس سوى ذكريات عن ماضي أيامه في "حوطة سدير"، وهو سيزعم أن ما كان في الماضي، هناك في حوطة سدير، هو الحق والأصيل واللذيذ والصائب والممتع، وأن ما نعايشه اليوم، ويمكن شراؤه بالملايين التي في حساباتنا، إنما هو عالم بلاستيكي لاطعم له ولا معنى. وعلى كلّ حال، أخبرته أنني أتطلّع لقراءة أول مسودة للكتاب.. أيّنا الذي لا تهمّه معرفة "حقائق الأشياء"!؟
بعد عودتي تواعدنا للإفطار في جانيس بلو، مطعمٌ يونانيٌّ بهيّ شمال الرياض. هذا الشيف اليوناني يقدّم أطباق الإفطار بنكهة البحر المتوسط. أرى هالة من الوجوم الغريب لا تزال تحيط بعبدالإله، تفصلني عنه وتمنع عني حرارته وطاقته المعهودة. لعله يفكّر في بيع حزمة البرامج كلّها، وليس برنامجًا واحدًا، لعله يرنو إلى نجاح أسطع من الشمس، وملايين إذا تحوّلت إلى الدولار تبقى ملايين. ولكن لا، سرعان ما قطع تفكيري ردة فعله الحانقة، التي كشفت لي ما يدور في رأسه.
قلت وأنا أتذوق طبق البيض المخلوط بمزيج البصل والطماطم:
- يارجل.. وشلون يسوون الشكشوكة هذي؟ هل بيضهم زي بيضنا؟ بصلهم هو بصلنا؟
وأضفت متعجبًا:
- اليونان يا رجل..
نقر بخاتم اصبعه على الطاولة ثلاث نقرات أعرفها، هذا الإيقاع أعرفه، وهذا الانتفاخ في الوجنتين، وتلك النظرة المحددة والمتحدية أعرفها. قال بصراحته وجرأته المعهودة:
- تسمّي هذي شكشوكة؟ والله انك ماتعرف وش طعم الشكشوكة الحقيقي
هززت رأسي غير معترض، ثم أضاف -واصبعه لا يزال على الطاولة، فهو لا يرفعه من الطرقة الثالثة حتى يعلن قراره- :
- تدري؟.. بكرا تعرف وش الشكشوكة.. جهزّ نفسك الفجر بنمشي لحوطة سدير
قلت -مازحًا بوجه جاد-:
- سلامات! فيه شيء؟
- لا مافيه شيء. بس بتعرف بكرا وش معنى "شكشوكة"، وإن صحن الشكشوكة الي قدامك هذا أبو 55 ريال ، مزيّف.. نعم مزيّف.. والله العظيم كثير من الأشياء حولنا مزيفة، يارجل تذكر كبدة زمان؟ تذكر؟ الكبدة الي كانت تسويها لنا أمي مزنة بعيد الأضحى؟ روح الحين اشتر لك كبدة من أطلق مطعم بالرياض، على حسابي، أتحدى إذا هي نفس الطعم.. يارجل والله العظيم يجيبون مواد غريبة وطماطم كلها كيماوي مافيها طعم ولا ريحة. إذا قريت كتابي بتفهم القصة كلها، بس بكرا خلك جاهز، بكرا بتذوق بنفسك الطعم الحقيقي للشكشوكة، بريالين بس، شكشوكة حسين بحوطة سدير، يجيب البيض من مزرعة النويصر شرق الجامع، بيض بلدي حقيقي، بكرا تشوف الحياة الصدق.
على بركة الله.
في فجر اليوم التالي انطلقنا بسيارته لحوطة سدير، مع شروق الشمس كنا قد تجاوزنا طريق الملك سلمان شمالاً. اقترحت أن نتوقف لأخذ قهوة وكروسان للطريق مادمنا بالقرب من المقاهي الجيدة، حولنا الآن 3 فروع لدانكن، لكنه -أمير الرحلة- رفض الطلب. وخلال الطريق راح يقرأ لي شيئًا مما كتبه في صفحات كتابه "حقائق الأشياء"، تحديدًا من الفصل الذي كتبه البارحة حيث بقي سهرانًا إلى الفجر: فصلٌ عن كافتيريا حسين، ومواعيد الصبية هناك وبطولاتهم، والتمرّد على سلطة الآباء.
- أنت تعرف أبوي الله يرحمه، ما كان يقول لي شيء، كان حبيب. بس بعد وفاته كنت أنا صغير بالابتدائي.. صار جدّي الله يرحمه هو المسؤول عني، هو قاسي وصارم، وأنا تعرفني عنيد ومشاكس
بالكاد أعرف والده رحمه الله، زوج خالتي، كنّا صغارًا لم نبلغ العاشرة حين وفاته. رجل ضخم البنية، مدوّر، كريم وضحوك. أما جدّه فعرفته زمنًا طويلا، وانتقل إلى الرياض في أواخر عمره حين ساءت حالته الصحية، وقضى فيها سنوات كنا نزوره قبل وفاته. فلاّح عتيد صارم صلب، متديّن بالفطرة، عريض الجبهة مستقيم الأنف، عيّار، وسليط اللسان، له ضحكة جميلة إذا ضحك، ولكنه لا يضحك.
نتجاوز الرياض بكيلومترات، على الأفق الممتد نرى الكثبان تستعيد لونها الذهبي البرّاق، بعد أن أطفئها الليل بقتامته. يحدّثني عبدالإله بحماسة متوقدة، وعاطفة محسوسة:
- جدّي ما يسمح لنا أبدًا نطلع للشارع. يقول: الشارع يا فاصخ يا مفصوخ، الشارع يا ولدي للسرابيت والسلق.
كلانا دار في مخيلته منظر الجد العتيد الراحل وهو يحكي عبارته، بنبرته السلطوية وحركة يده الحازمة. تشاركنا ذات الخيال وضحكنا ضحك العيون.
بعد مضي ساعة ونصف من المسير، أخذني فيها بجولة في الماضي: الجامع والجيران والشارع وكافتيريا حسين وأسماء العوائل والعمّال، ووجدتني أملك تصورًا لا بأس به عن المدينة الآن، تلك المدينة التي أنتمي إليها اسمًا، ولا أعرف عنها إلا القليل. هانحن ندخل المدينة -حوطة سدير- رأسًا إلى الجامع في وسطها. هنا غرب الجامع تقع الأحياء السكنية العريقة، ببيوتها الواسعة، والنخيل الذي يرتفع في أفنيتها ويظلل المباني. وهذا الجامع، يفصل مابين الحيّ والسوق. ومن خلف الجامع -جهة الشرق- ترى شارع السوق العريض. قال عبدالإله بشرود بيّن، وحنين طافح:
- شفت العمارة البنيّة أم درج؟ هناك في الزاوية كافتيريا حسين.
ثم أضاف:
- الجامع في الوسط، إذا طلعت من الجامع تقدر تروح يسار لباب السوق، ويمين لباب الحارة، بس ياويلك لو تروح يسار جهة العمّال والسوق بدون استئذان
ونزل من السيارة وهو يضحك، كأنما يتذكّر أحداثًا ومغامرات.
- خلنا نوقف هنا، تعال امش نشوف كافتيريا حسين
اتجهنا صوب عمارة قديمة بالية، ترى في أعلاها ملابس منشورة، وأطباق دشوش فضائية، ومكيفات مسنودة ببلوك وخشب. وفي أسفلها ثلاث محلات، أحدها -في الزاوية- كافتيريا حسين. وحتى تقف على باب الكافتيريا، عليك أن تصعد أربع درجات من الشارع، وعلى هذه الدرجات يجلس بعض العمال يأكلون ويدخنون.
كان عبدالإله يسبقني بخطوات، قال متحفزًا يخاطب ثلة من الهنود العاملين خلف طاولة التقديم والمحاسب:
- هلااااا يا حسين
لم يردّ أحد، وقلّب عبدالإله بصره باحثًا عن حسين. قالوا أن حسين لم يأت للكافتيريا حتى الآن. من الواضح أن حسين تحول من عامل يقدّم ساندوتشات الإفطار إلى باشا يدير جماعة من صغار العمال، الجيل التالي من كافتيريا حسين.
تبسّم عبدالإله وراح يتأمل الكافتيريا، ولا أعلم مالذي يدور في رأسه، لكنني أتخيّل أنه يرى ماضٍ يتحرّك وأجسادًا صغيرة تأكل هنا وهناك، طفولته وأيامه. كنت عند الباب واقفًا أرقبه، فخرج لي يقول:
- هذي هي الحياة الحقيقية.. تشمّ ريحة الكشنة؟
ثم تناول من ثلاجتهم حبة طماطم وراح يضغطها بأصابعها ويختبر ليونتها فقال:
- شفت الطماط؟ هذا هو الطماط الحقيقي.. اصبر بس، بعد شوي تذوق الشكشوكة الحقيقية
أحببت شعوره هذا وانفتاح مزاجه، الآن خرج من وجومه ذاك الذي امتدّ منذ صفقتنا المليونية تلك. سار خارج المحل وقال:
- شف هذا المكيف المسنود بخشب
ولمسه بيده، كان مكيف شبّاك يطلّ على الشارع ويخدم على محل تأجير معدات بجانب الكافتيريا. قال:
- تخيّل اني كنت أتخبّى عن جدّي فوق هذا المكيف.. كنت قزم وخفيف، وجدّي الله يرحمه إذا ما شافني بالبيت جاء للسوق مباشرة معه العصا.. أقوم أنا وش أسوي
قلت:
- تنط فوق المكيف
ضحك وقال:
- زي البساسه.. والعمال عارفين القصة هذي بس ما يقولون شي، لأني كنت أجيب لهم تمر من مزرعة جدي. مرّة من المرّات أكلت ثلاث ساندويتشات شكشوكة فوق المكيف، كان جدي رايح جاي يدوّرني في المحلات، وأنا أشوفه وأضحك.. هلااااا حسين
وهنا حضر الوقور حسين بشاربه المحدد، مرتديًا طاقيّة بيضاء كما لو كنا في المسجد النبوي، وقميصًا أخضر. رحّب حسين بالضيف العائد من بعيد، الطفل الذي كبر.
- انتا وين؟ وين روح؟
أخبره عبدالإله بقصة الانتقال والدراسة الجامعية، وأراد -بطريقة ما- أن يخبره عن نجاحاته في البرمجة وتحقيقه لبعض الصفقات، لكن أفكاره قصرت عن المعنى الكامل، وكلماته لم تسعفه، وحسين لم يكن مستمعًا جيدًا، حيث كان منشغلا بتقطيع البصل الأخضر مع موظفيه الشبّان، وكانوا يقاطعون استرسال عبدالإله بحواراتهم التي لا نفهمها. أتصوّر أنهم كانوا يقولون -بلغتهم- أين وضعت الزيت؟ ماهو طلب السيد الطويل هناك؟ هل يريد شطة؟. وهكذا انقطع حوار عبدالإله المنتظر مع حسين، وقصر عن المطلوب والمتوقع. سأله حسين ببعض العجلة والانزعاج:
- ايش يبغى؟
تلعثم عبدالإله قليلا ثم قال:
- ساندويتش شكشوكة
ورمقني بنظرة سعيدة وابتسام، كأنما يتأكد من أنني أحضر هذا اللحظة العظيمة. باغته حسين قائلاً:
- شكشوكة كم حبة؟
هنا بلع عبدالإله ريقه كمن يتذوق في مخيلته طبقًا شهيًا، قال:
- عشر حبات.. كلهم بجبن
والتفت إلي هامسًا بسرّ:
- الجبن عند حسين يرطرط، جبن غير، فيه نكهة وفيه حموضة لذيذة، شفت كل الجبن الي ذقته بحياتك؟ انساه.. هذا هو الجبن
فكّ حسين كيس صامولي كامل، وفكّ آخر، ثم بدأ بالتجهيز. وكان عبدالإله يشير إلى طبق الشكشوكة المعدنيّ الذي يغرفون منه للصامولي:
- شف لون الشكشوكة
ثم يقول:
- لاحظ لمعة البصل
كنت جالسًا فقال لي:
- قم قم عشان تشوف زين
نهضت من كرسيي ورحت أقف بجانبه أتأمل كما يتأمل. وعندما جهز الطلب، رحنا نأكل فطورنا على الدرَج خارج المحل، نستمتع بساندوتشاتنا العشر ونراقب يقظة السوق وحركة العمال. كنّا جائعين لدرجة إلتهام الكيس بأكمله صامتين، إلا من نظرات يرسلها عبدالإله نحوي تتفحصني. وعندما أنهي واحدة من الساندوتشات كان يسارع إلى الكيس ويخرج أخرى يقول:
- خذ خذ.. ماراح تشبع ماراح تشبع.. هذي شكشوكة حسين
ثم نغطّ في الصمت والمضغ، رشفة من الشاي من كوبٍ كرتونيّ، ثم يهتف عبدالإله:
- خذ خذ.. أنا طالب عشر حبات.. مع الجبن
ورحنا نأكل ونأكل بهمهمات وهسهسات، وتمرّ من أمامنا شاحنات تحمل عمّال، وشاحنات تنزلهم، ودبابات وسياكل، وربما بصق بعض الهنود بجانبنا ولا نبالي.
أكلنا الكمية كاملة، وهناك خطّ من الجبن أبيض على خدّ عبدالإله، يزداد حجمه كلما زدنا في الأكل. وفي نهاية الأكل كان الخط يكاد يلامس اذنه. في الحقيقة كنّا نأكل شكشوكة كأي شكشوكة، بل ان عبدالإله وجد بعض قشر البيض في أحد القضمات، وكان الملح زائدًا عن العادة. وفي المجمل، كانت وجبة طيبة لأناس جوعى قدموا من الرياض من بعد صلاة الفجر من دون أكل. أنهينا مافي أيدينا، وبدا أن عبدالإله غير مهتم بمزيد من تقييم الوجبة، كانت الحال أوضح من نفصّل فيها، كانت شكشوكة بالجبن السائل كأي شكشوكة أخرى، لولا الملح الزائد وبعض القشور.
لم يترك عبدالإله فرصة لتنهار الفكرة. قفز من مكانه وقال:
- خل أوريك وشلون كنت أنحاش عن جدّي فوق المكيف
ورفع ثوبه وعيناه تشعّان بالمرح والتصابي. ربط ثوبه في وسطه وراح يرفع ساقه اليمنى على الجدار لينهض بجسمه فوق المكيف، حاول في الأولى ثم في الثانية، وفي الثالثة نجح. كان يتقوقع بين المكيف والعارضة الخرسانية التي فوق المكيف، واضعًا رأسه بين ركبتيه كما لو كان جنينًا في بطن أمه. قال بصوت بالكاد خرج من حلقه:
- كنت كذا
هززت رأسي متابعًا له، وخرج من المحل المجاور عامل مصريّ طويل القامة تلوّن ذراعه ألوان من الداهان، سأل المصريُّ مستنكرًا:
- انتا بتعمل ايه هنا يله؟؟؟
سكتنا ولم يسكت المصري، قال:
- انتا مقنون؟
تحرّك عبدالإله محاولاً النزول ولم يستطع موازنة جسمه في هذه المساحة الضيقة، فوق المكيف وتحت الحاجز الخرساني. تقدّمت إليه لمساعدته ولم أعرف من أي وجه ينبغي أن أسحبه أو أدفعه. قال المصري:
- انتا كده هتبوّظ التكييف! انتا بتعمل ايه هنا؟
وفي سؤاله الأخير بدا أن الرجل المصري لم يعد يخاطب عبدالإله، بل كان الأقرب أنه يخاطب كل من يسمع، يخاطب البشرية جمعاء، رافعًا صوته مستهجنًا هذا التصرف، وينتظر من أي إنسان عاقل أن يتدخل ويشرح له الموقف.
من ذات المحل أحضر بعضهم سلّمًا وقاموا بتحريك المكيّف للأسفل قليلاً (تحتاج فقط لتحريك الخشبات التي تحمله)، ومنها قاموا بحمل عبدالإله بأيديهم لينزل على الأرض. ضرب عبدالإله كفوفه بثوبه لينفض الغبار عن يديه، وراح ينظر إلي متصنعًا ضحكة يائسة، ولبس نعاله ثم مشينا سويًا مغادرين المكان.
في طريق العودة كان راكبًا بجانبي واجمًا، عاد الانطفاء مرةً اخرى، وراح ينظر للجهة البعيدة صامتًا، وعلى خدّه خط أبيض من بقايا ذلك الجبن.
لكسر حاجز الصمت البغيض شغّلت المسجل، أغنية طربية لرابح صقر. ولم تمض ثوان حتى أغلق المسجل ولاذ بالصمت. فكّرت إن كان من واجبي أن أتحدث معه عن الموضوع، ونناقش مسألة "حقائق الأشياء" هذه، أم أن الصمت هو الأفضل في مثل هذه الأحوال، لاسيّما أنا أمامنا طريق طويل للعودة من حوطة سدير إلى الرياض. توقفت عند المحطة للوقود، وطلبت لكلينا مشروبا باردًا.
في تلك الأثناء كنت أتصفح بريدي عبر الجوال وصرخت:
- شفت بريد المستثمر؟
- لا، وش يبي؟
- يقول نرغب بشراء المتبقي من حزمة البرامج، وحدد موعد اجتماع بكرا
انطلقت أسارير وجه عبدالإله، وعاد ملامحه الشرسة والعنيدة تظهر تدريجيًا، لمعت عينه بمكر وقال:
- ردّ عليه وقل بكرا مانقدر، بعد أسبوع
ضحك ضحكة مكبوتة، وراح يشغّل المسجل، أغنية رابح صقر. رفع قدمه بارتياح على طبلون السيارة وراح يشفط من مشروبه البارد بسعادة، وتبدّلت نظرة الوجوم التأملية إلى نظرة حالمة ترنو إلى المستقبل. أوقفت المسجّل فباغتني بنظرة، قلت:
- ممكن تمسح الجبن عن خدك؟
ورشق المشروب من فمه وراح يضحك ضحكًا عاليًا وهو يمسح خدّه بيده، وعلى أكمامه رائحة الشطّة.