تصنيف الانتحار

إن كان هناك إشكالية تواجه تأليف كتاب عن الانتحار الأدبي، فإنها بالتأكيد ليست ندرة المواد. هناك بالطبع الأسماء المعروفة: سيلفيا بلاث، فيرجينيا وولف، هيمينغوي، شاترتون. تبادروا هؤلاء إلى ذهني على الفور عندما ذكرت لأصدقائي أنني أخطط لتأليف كتاب عن الكتّاب الذين قتلوا أنفسهم، أو حاولوا قتل أنفسهم، أو كتبوا عن الانتحار بشيء من العمق والإسهاب. ولكن ما أن بدأت في البحث جاهدًا وتجاوزت هذه الشخصيات المعروفة، انكشف المجال على نحوٍ كبير، ووجدت نفسي أردّد ذلك البيت من قصيدة إليوت "الأرض اليباب": ’’جمعٌ غفير جدًّا، ما كنت أحسب أن الموت حصد كل هذا العدد‘‘ – غفيرٌ جدًّا، أولئك الذين قتلوا أنفسهم.


وخشية إكراه القارئ على الدهشة منذ البداية، اسمحوا لي أن أبرهن صحة هذه الملاحظة بقائمة، غير شاملة للأسف، ولكنها عيّنة نموذجية بكل تأكيد. لذا، وبدون ترتيب معيّن، وبالإضافة إلى أولئك المذكورين أعلاه ــ الذين ماتوا باستنشاق الغاز، وبالغرق، وبطلق ناريّ، وبالزرنيخ على التوالي – هنالك جيرار دي نرفال (شنقًا)، وتشيزاري بافيزي (بالباربيتورات)، ويوكيو ميشيما (بالهاري كاري)، وهاينريش فون كلايست (بطلق ناريّ)، وغيورغ تراكل (بجرعة زائدة من الكوكايين)، ل. هـ. مايرز (بالباربيتورات)، روبرت إ. هوارد (بطلق ناريّ)، يان بوتوسكي (بطلق ناريّ)، بول سيلان (غرقًا)، والتر بنجامين (جرعة زائدة من المورفين)، جاي ديبورد (بطلق ناريّ)، جيل دولوز (بالسقوط)، أوتو وينينجر (بطلق ناريّ)، آن سيكستون (التسمم بأول أكسيد الكربون)، إمبيدوكليس (بالسقوط في بركان)، جيمس ويب (بطلق ناريّ)، رومان جاري (بطلق ناريّ)، جاك لندن (جرعة زائدة من المورفين)، آرثر كوستلر (باربيتورات)، روس لوكريدج الابن (التسمم بأول أكسيد الكربون)،  جون كينيدي تول (التسمم بأول أكسيد الكربون)، جيزا تشات (بالسم)، ستيفان زفايغ (الباربيتورات)، كلاوس مان (بجرعة زائدة من الحبوب المنومة)، توماس لوفيل بيدوز (بالسم)، هارت كرين (غرقًا)، بريمو ليفي (بالسقوط)، هاري كروسبي (بطلق ناريّ)، ريتشارد بروتيجان (بطلق ناريّ)، صادق هدايت (باستنشاق الغاز)، فاتشيل ليندزي (بالسم)، هانتر س. تومسون (بطلق ناريّ)، ب. س. جونسون (بشق المعصمين)، سارة كين (شنقًا)، مالكولم لوري (بجرعة زائدة من حبوب النوم)، يوجين ماريه (بعيار ناريّ)، جيرزي كوزينسكي (الباربيتورات والاختناق)، فيليب مينلاندر (شنقًا)، ماريو دي سا كارنيرو (ستريكنين)، إيغون فريدل (بالسقوط)، مارينا تسفيتايفا (شنقًا)، شارلوت بيركنز جيلمان (بجرعة زائدة من الكلوروفورم)، إليانور ماركس (التسمم بحمض البروسيك)، هنري دي مونترلان (بالسيانيد وبطلق ناريّ)، سارة تيزدايل (جرعة زائدة من حبوب نوم)، أدالبرت شتيفتر (بحزّ العنق)، رينيه كريفيل (باستنشاق الغاز) وليم سيبروك (بجرعة زائدة من الحبوب المنومة) –  وأعتقد أنكم - بمحالفة التوفيق - ستستوعبون الفكرة.


وإذا أضفنا إلى هذه أسماء الكتّاب والمفكرين الذين كتبوا بإسهاب عن الانتحار أو الذين مثَّل الانتحار في حياتهم أو أعمالهم دورًا مهما، فإن القائمة تتوسع إلى أبعاد صعبة التّناول. وشكسبير، غوته، دوستويفسكي، تولستوي، نيتشه، شوبنهاور، كامو، هيسه، فيتغنشتاين، كافكا، مونتين، فلوبير، فيلييه دو ليل-أدام، ماري وولستونكرافت، خورخي لويس بورخيس، ليست سوى بعض الأسماء. يتبادر إلى الذهن آخرون أيضًا، ولنكون صادقين كل الصدق، من الصعب أن نقرر من ينبغي أن يُدرج اسمه ومن يُستبعد. لذلك، وعلى سبيل المثال، في رواية إلياس كانيتي "رسوم الإيمان" يضرم الشخصية الرئيسية، بيتر كين، النار في مكتبته ويموت حرقا. ومن الواضح أن هذا انتحار أدبي (أدبي بمعنى الكلمة حقا)، وهو أيضاً رمز لتدمير المفكر الغربي لذَاته. والبطل غريب الأطوار في رواية كنوت هامسون "أسرار". ينتحر هذه المرة غرقا. هل ندرج هذه أم لا؟


وفي مجابهة هذه الوفرة من الأفكار السوداوية والحيوات المحزنة، فكرت في البداية بتأليف موسوعة، لكنني نبذت هذه الفكرة لسببين. توجد أبواب موسوعات عن معظم هؤلاء الأشخاص بالفعل، ولن أكرر عملا مُنجزًا من قبل فحسب، بل ستتطلب مني بنية الكتاب إما توحيد قياس المساحة المكرّسة لكل حالة، ومن ثمّ خسارة قدر كبير من المواد المهمة، أو أن تكون هناك أبواب طويلة جدّا وأخرى قصيرة جدّا. وأفضت بي هذه الحيثية إلى سببي الثاني. بدت بالفعل بعض الحالات مثيرة للاهتمام أكثر من غيرها. ففي بعض الحالات، كما في حالة الروائي الياباني يوكيو ميشيما والشاعر الأمريكي الخائب هاري كروسبي، بدا الانتحار وتدمير الذات أمرين حتميّين، وليس بسبب الاكتئاب الهوسيّ أو أمراض اضطراب التوازن العقلي، ولكن بسبب طبيعتهما وتصوّرهما الذاتي، وكذلك هوسهما بأنفسهما. كان الموت، لميشيما وكروسبي، فكرة لا تغيب عن ذهنيهما، وكان شيئا يتطلعان إليه، لكنهما لم يكونا شخصيتين مكتئبتين على نحو بارز، خلافًا للشاعر بول سيلان أو الروائي ريتشارد بروتيجان.


في حالات أخرى، أدت أسباب خارجية يمكن تفهّمها إلى انتحار المرء. فكان المرض هو الدافع للفيلسوف جيل دولوز وكاتبه القصص القصيرة شارلوت بيركنز جيلمان، والمراحل العمى الأولى للروائي والكاتب المسرحي هنري دي مونثيرلان (والذي - بالمناسبة - فكّر ذات مرة في تأليف كتيّب عن الانتحار)، وكان الهرب من الشيخوخة الدافع لكاتب صحافة «الغونزو» هانتر س. تومسون. كل هؤلاء الأشخاص مثيرون للاهتمام بسبب حيواتهم وأعمالهم، ولأن انتحارهم يميّزهم عن غيرهم. إلا أن انتحارهم بحد ذاته في الحقيقة ليس محطّ الأنظار في حيواتهم على علَّاتها، فمثلا، في الحالة المؤسفة للشاعر والكاتب الفرنسي الرومانسيّ جيرار دي نيرفال، الذي شنق نفسه في زقاق مُتداعٍ في باريس بعد سنوات من مصارعة الفقر والجنون، أو الفيلسوف النمساويّ أوتو فينينغر، الذي قادته أفكاره اللامعة والمتطرفة حول الجنس والعرق والعبقرية إلى الانتحار. في هذه الحالات وغيرها، لا يبدو الانتحار شيئًا "مُقحمًا" في حياتهم، أو أمرًا ربما لم يكن ليحدث في ظل ظروف أخرى. فمع دي نيرفال، وفينينغر، وميشيما، وكروسبي وآخرين، فإن موتهم الذي أنزلوه بأنفسهم، كما قلت، يحمل هالة من الحتميّة. ورغم أنني أدرك مدى شاعرية مثل هذه الاعتبارات، إلا أنني مع ذلك أجد صعوبة في تجاهلها.


فلو أن هاري كروسبي لم يطلق النار على نفسه، فمن غير المحتمل أن يُذكر اليوم بسبب جزالة شعره فحسب، أو بأنه أكثر من مجرد مُعجب بالأدباء، يحوم حول همينغوي وآخرين في باريس في عشرينيات القرن العشرين. ربما يخبرنا هذا أكثر من أي شيء آخر، عن قوة تأثير الانتحار باعتباره حيلة دعائية مثيرة. فكرة لا تقتصر على المعاصرين، كما دلَّت على ذلك حالة الفيلسوف الإغريقي الكلبيّ برجرينوس بروتيوس، الذي توَّج مسيرة مضطربة بإحراق نفسه علنًا في الشعلة الأولمبية عام 165م. يصوّر وصف لوقيان لتضحية برجرينوس بنفسه في "عن موت برجرينوس" على أنه استعراضيّ، وطالب شهرة، ونظرًا إلى أنني أتحدّث عنه الآن هنا، بعد ما يناهز الألفيتين، يبدو أنه نال حظًّا منها. لكن يظل موت كروسبي النرجسيّ والصبيانيّ والإجراميّ كما كان حقيقةً (أردى معه عشيقة، غير راغبة وفق بعض الروايات)، مع ذلك، وعلى الرغم من جميع حماقاته، أكثر من مجرد خبر يتصدّر عناوين الصحف. ومن المفارقات أنه كان المعنى لحياته.

لذلك، للبعض، يمكننا القول أن الانتحار يقدّم نفسه حلًّا عمليًّا لمشكلة ملحّة. وللبعض الآخر، فقد كان يحمل معنى أعمق وأهمّ.


الانتحار والاكتئاب

لوحظ أن الكتّاب والشعراء ميّالون إلى الانتحار. في كثير من الأحيان، الرابط الذي غالبا ما يُشار إليه هو شكل من أشكال الاكتئاب الهوسيّ – أو بعبارة على درجة أقلّ طبيًّا، الكآبة. سأل أرسطو: ’’لم كل الرجال البارزين في الفلسفة والشعر أو الفنون مكتئبين؟‘‘ إحدى الإجابات على هذا السؤال هي: "هل هم مكتئبين حقا؟" يمكن للمرء، على ما أظن، أن يورد قائمة رجال (ونساء) بارزين في الفلسفة والشعر أو الفنون غير مكتئبين، أو على الأقل ليسوا أكثر كآبة من الأشخاص الأقل تميزًا في هذه المجالات. يمكن للمرء أن تتأثر مشاعره بالأسى العالميّ دون أن يطغى عليه، وقائمة الكتّاب والشعراء (والفنانين والمؤلفين الموسيقيين) الذين لم يقتلوا أنفسهم أطول من القائمة المذكورة أعلاه. ومع ذلك، من الواضح أن أرسطو محق على نحوٍ ما. الرسّامون والمؤلفون الموسيقيين مكتئبون كذلك، ويقتلون أنفسهم أيضًا، لكن عدد حالات الانتحار في مجموعتهم تبدو أقل من تلك الحالات بين الكتّاب.


تكتب كي ريدفيلد جايمسون في كتاب "ممسوس بالنار: مرض الاكتئاب الهوسيّ والمزاج الفني" : ’’إن وجود شيء حاسم ومأساوي فظيع كالانتحار في وسط جمال أخّاذ هو أحد أوجه المفارقة والتناقض الهائل في الحياة والفن‘‘. ومع ذلك، على الرغم من أنه، كما تذكر: ’’تشير الأبحاث الحديثة على نحو هامّ إلى أن الكتّاب والفنانين، بالمقارنة مع عامة المجتمع، يظهرون معدّلا غير متكافئ بدرجة كبيرة من مرض الاكتئاب الهوسي‘‘. إحدى الحجج في هذا الكتاب هي أنه، كما في حالة ميشيما وكروسبي وغيرهما، ليست كل حالات الانتحار الأدبي نتيجة الاكتئاب. أو، بعبارة أخرى، المساواة بين جميع أفكار الانتحار (وفعل الانتحار نفسه) بأعراض الاكتئاب الهوسيّ (أو بعض الحالات المرضية الأخرى) يبدو لي أمرًا مفرطًا في الاختزاليَّة.


قد يكون من غيراللائق أن نتصور ذلك، ولكن يبدو لي أن الحصر النفسيّ أكثر من مجرد اختلال في التوازن الكيميائي. علّق الشاعر روبرت لويل ذات مرة عن نوبات هوسه المتكررة قائلًا: ’’إنه أمر فظيع [...] أن أتصوّر أن كل ما عانيته، وكل ما تسببّت فيه من معاناة، قد نتج عن الافتقار للقليل من الملح في دماغي‘‘. كانت معاناة لويل حقيقية، ولن أُنكر عليه ملحه، لكنني أريد أُشير إلى أن المخاوف الوجودية حول قيمة الحياة، وما يمكن أن نسميه المخاوف "الجمالية" بشأن حرية تركها للمرء دون الاعتماد على أحد، ليست بالضرورة مظاهر حالة مرضية. بالتأكيد أن التحوّل الكلّي في التفكير في حالاتنا الداخلية من وجهة نظر فلسفية أو ميتافيزيقية إلى وجهة نظر طبية (الكآبة باعتبارها حالة ذهنية، في مقابل الاكتئاب الهوسي باعتباره حالة مرضية) هو أمر أجده باعث على القلق. من والواضح أنني لا أقترح على أولئك الذين يستفيدون من الأدوية المضادة للاكتئاب إلغاء وصفاتهم الطبية. ولا أقترح أن الاكتئاب هو السبب الجوهريّ في كثير من حالات الانتحار، أو ربما معظمها. ما أقوله هو أن تأملات كتّاب ومفكرين مثل كامو وهيرمان هيسه ودوستويفسكي عن الانتحار، والتي سنناقشها في وقت لاحق، هي أكثر من مجرد أفكار كئيبة ناتجة عن حالة مرضية. قال الشاعر ريلكه، والذي سبق له أن حمل أفكارًا عن الموت، مقولته الشهيرة عندما أوقف برنامج علاج نفسيّ: ’’إن غادرتني شياطيني، فإن ملائكتي ستغادرني أيضا‘‘. استمرت شياطين ريلكه في إثاره قلقه، واستمر في كتابة شعر من أجزل أشعار القرن العشرين. ولئن كنت هنا أؤيّد مدرسة "العبقريّ المُعذّب" في الرومانتيكية، فإني لا أبرر لذلك.


كما اقترح بعضهم، بأنه قد يكون من غير المسؤول الاعتقاد بأن الاضطراب والوحدة واليأس والعزلة التي يعاني منها العديد من أفراد "المزاج الفني" لا ينبغي التقليل من شأنها بالمعرفة العميقة بعلم الأدوية النفسية. يبدو أن الشعور العام هو أنه إذا كان بالإمكان تخفيف هذه الأمور، فيتحتّم تخفيفها. لكن ضعوا في الحسبان هذا المقطع من مسرحية "جزيرة جون بول الأخرى" لشو، عندما يواجه القسّ كيجان "المكتئب"، والذي يرى العالم على أنه "مكان عذاب وتكفير" حيث نُرسل "للتكفير عن الجرائم المرتكبة في حياة سابقة"، في مواجهة رجل الأعمال برودبنت، الذي يرى العالم "بالأحرى مكانًا بهيجًا".


كيغان: هل أنت راضٍ؟

برودبنت: بصفتي رجل عاقل، نعم. لا أرى شرورًا في العالم – باستثناء الشرور الطبيعية بالطبع – مما لا يمكن معالجتها بالحرية، والحكم الذاتيّ، والمؤسسات الإنجليزية. أعتقد بذلك، ليس لأنني رجلٌ إنجليزي، ولكن من باب الحسّ السليم.

كيغان: هل تشعر إذن بأنك مرتاح في الحياة؟

برودبنت: بالطبع. ألا تشعر بذلك؟

 كيغان [من صميم قلبه]: لا.

برودبنت [بابتهاج]: جرّب حبوب الفسفور. فدائمًا أتناولها عندما يُجهد عقلي.


ليس مصادفة أن يستخدم كولن ويلسون، والذي كان على وشك الانتحار في سن المراهقة، هذا النصّ في صدر كتاب "اللامنتمي"، كتاب دراسته عن الاغتراب، والحالات العقلية المتأزّمة، وأزمة المعنى للإنسان الحديث. يخبرنا ويلسون أن اللامنتمي يرى "عميقًا جدا" و "كثيرًا جدا" ليشعر "بالراحة في الحياة" وعدَّ كثير من الكتّاب والفنانين الذين يتناول البحث فيهم، أن الانتحار رد فعل حقيقي على اغترابهم. تبدو فكرة إمكانية استئصال تأملاتهم الباعثة على القلق في معنى الحياة بحبّة دواء إنكار واضح لقيمة تلك التأملات. على الرغم من احتمال أن علاقته مع الناس كان من الممكن أن تتحسّن لو كان قد تناول حبّة الدواء، إلا أنني على نحو ما لا أشعر بالحسرة على أن كافكا، والذي غالبًا ما كان يفكّر في الانتحار، لم يحظَ بفائدة تناول دواء بروزاك.


ومع ذلك، وعلى نحو مفهوم، معظم المحاولات لإدراك هذا الرابط بين الكتّاب ركّزت على الاكتئاب، كما صاغها الفيلسوف ويليام جيمس الذي راودته أفكارٌ انتحارية بـ "المسدس والخنجر والحُقّ". عنوَنَ أ. ألفاريز دراسته عن الانتحار – والتي يُعزى إليها الفضل في هذا الكتاب – “الإله الوحشيّ"، وتحدّث عن الرغبة الملحّة مثلما تجلَّت في سيلفيا بلاث على أنها ’’ليست تلاشيًا إلى الموت، ولا محاولة "للانتهاء بلا ألم عند منتصف الليل" ‘‘ ولكنها ’’شيء يُشعر به في نهايات الأعصاب ويُقاوم‘‘. ويكتب ألفاريز عن ’’أزمة زريّة، مُشوّشة ومُعذّبة، والتي هي الحقيقة السائدة للانتحار‘‘ وهو على حق بالطبع. في معظم الحالات، غير الأدبية، يعتبر الانتحار مأزقًا مظلمًا في حياة يائسة ومُحاصرة. ولكن بالنظر إلى حالات الانتحار الأدبي، فإن الاكتئاب، وعلى الرغم من شيوعه وتدميره، يبدو لي أنه لايغطي كل الاحتمالات.


تصنيف الانتحار

مع أخذ ذلك بعين الاعتبار، والتفكير في بنية هذا الكتاب، أدهشني أنني سأضطر إلى أن أعمد لتطبيق "علم التصنيف" أو "فينومينولوجيا" الانتحار. وبدلًا من البحث عن بعض الأسباب الجوهرية، وربط الحالات المختلفة التي جمعتها، رأيت أنه من الأفضل وصفها وتصنيفها فحسب. فقد لا يكون هناك "جوهر" مشترك بين جميع حالات الانتحار في هذا الكتاب. وقد لا يكون هناك شيء مثل فكرة "التشابه الأسري" بحسب فيتغنشتاين – الذي، بالمناسبة، كثيرًا ما كابد أفكارًا انتحارية لكنها يبدو أنها تقع في نطاق "أنواع" معينة. فهناك الانتحار الوجوديّ. والانتحار الرومانسيّ أيضًا. وثمّة الانتحار الجماليّ، وكما ناقشت، انتحار الكآبة أو الاكتئاب الهوسيّ. وهناك أيضًا الانتحار السياسيّ والانتحار السيرياليّ. وسيُبحث في كل منها بشيء من التفصيل بينما نمضي قدما. ثمّة أيضًا بعض الفئات الفرعية، مثل انتحار الشهرة المذكور أعلاه، والفئة الغريبة للانتحار المُحاكي. من الأمثلة العجيبة على هذا النوع حالة إليانور ماركس، ابنة كارل ماركس الصغرى، ومترجمة رواية "مدام بوفاري" لفلوبير، والتي تنتهي على نحو معروف بانتحار بطلتها. فبعد أن تخلَّى عنها حبيبها الاشتراكي إدوارد أفيلينغ، تأثرت إليانور بموت إيما بوفاري لدرجة أنها انتحرت بالطريقة نفسها، بتناول السم. لم تكن المحاكاة دقيقة، على أية حال. تناولت إيما الزرنيخ، ولكن في حالة إليانور فقد تناولت حمض البروسيك.


قد تكون بعض الحالات فريدة من نوعها، وقد يكون من الجيّد أن نبدأ تقصينا بالتطرق بإيجاز إلى بعض الأنواع المختلفة من الانتحار الأدبي التي تقع خارج الفئات الرئيسية المذكورة أعلاه.


واحدًا من هذه الفئات قد أسميه انتحار المُعجَب. كان أحد تلاميذ روسو مفتونًا جدّا بمعلمه، لدرجة أنه أطلق النار على رأسه عند قبره؛ وكُرّم بضريح في ارمينونفيل، بالقرب من ضريح روسو. وثمّة الانتحار الفلسفيّ. ربما كانت حالة الكاتب المسرحي الرومانسي الألماني وكاتب القصة القصيرة هاينريش فون كلايست، والذي سنناقشه بالتفصيل لاحقا، الحالة الوحيدة التي كانت لأسباب معرفية؛ حين قادت قراءة أعمال الفيلسوف كانط – ليست مطمحًا مغريًا لمعظمنا – كلايست إلى إطلاق النار على رأسه. هناك أيضًا حالة انتحار فداءً للأدب. ففي برلين عام 1834، طعنت شارلوت شتيغليتز نفسها حتى الموت، عاقدة الأمل بأن موتها سيلهم زوجها، الشاعر هاينريش شتيغليتز، لبلوغ العظمة. للأسف، ظلّ هاينريش شاعرًا عاديًّا، وذهبت تضحيتها سُدى. مثال آخر على النوع المُحاكي ينطوي على الباحث في سيرة كونان دويل وشخصية شيرلوك هولمز، ريتشارد لانسيلين غرين. فهنالك شكوك في أنه أعدَّ انتحاره ليبدو كجريمة قتل، وفي الواقع مقلّدًا حبكة إحدى قصص هولمز الأخيرة لدويل "قضية جسر ثور".


أساليب الانتحار

يمكن أن تكون أساليب انتحار الكتّاب فريدة أيضًا وتستحق شيئًا من التصنيف. كان الرحّالة البولندي وخبير علم الأعراق البشرية وكاتب القصص الخرافية في القرن الثامن عشر يان بوتوسكي، مؤلف العمل الغريب "مخطوطة عثر عليها في سرقسطة" طالبًا في علوم القوى الخفيّة، وماسونيًّا، وعضو محتمل في جمعية المتنوّرين السريّة. كان بوتوسكي في أيامه الأخيرة، والذي عانى من اعتلال في الصحة ومشاكل أسرية وخيبة أمل من حصيلة الثورة الفرنسية، على قناعة بأنه قد أصبح مستذئبًا، واتخذ الخطوات اللازمة لعلاج ذلك. بأخذ المقبض الفضي لوعاء سكر، وصبّه في رصاصة فضية، وسائلًا قدّيسًا مباركتها، ثم نسف رأسه بها مطلقًا النار عبر فمه. وكان الشاعر الرومانسي الفرنسي جيرار دي نيرفال، المذكور سابقًا، مثل بوتوسكي، طالبًا في علوم القوى الخفيّة؛ ومشهور أيضًا بأخذ جراد بحر مربوطًا بزمام للتنزّه في القصر الملكي بباريس. وبعد فترتي مكوث في مصحة للأمراض العقلية وعدّة نوبات من الجنون، شنق نفسه في النهاية برباط مئزرٍ قذر كان يحمله لسنوات، والذي أكّد لأصدقائه بأنه في الحقيقة رباط جورب ملكة مملكة سبأ.


الأساليب الأخرى تبدو في حدّتها منقطعة النظير. فقد انتحر الشاعر فاتشيل ليندزي بشرب الليزول؛ سائل تنظيف شديد التأثير. وعُثر على الكاتبة المسرحية سارة كين، والتي تحظى بالنجاح في الثامنة والعشرين من عمرها وبحياة مهنية واعدة، مشنوقة في حمام مستشفى كينجز كوليدج. وبعد الاخفاق في محاولتين للانتحار، بالإضافة إلى تحمّل دورات علاج بالصدمة الكهربائية متعدّدة وشاقّة على النفس، والتي يعتقد الكثيرون أنها أدتّ إلى تفاقم حالته، أطلق همينغوي النار على رأسه ببندقية رشّ على بسطة الدرج خارج غرفة نوم زوجته؛ حيث تعيّن عليها أن تتخطّى بقايا جثته لتنزل الدرج.


أسباب الانتحار: الإخفاق والنجاح

من بين الأسباب العديدة للانتحار، يبدو واضحًا أن الإخفاق سيكون سببًا سائدًا بين الكتّاب. وهذا الأمر صحيح في حالة جون كينيدي تول. فقد رفض العديد من الناشرين رواية تول "تحالف الأغبياء" في الستينيات، وأدّى هذا، جنبًا إلى جنب مع الاكتئاب والاضطراب المحتمل حول ميوله الجنسية، إلى إفراط تول بتعاطي المسكرات، وفي النهاية إلى الانتحار بالغاز في سيارته. كانت والدة تول، وهي امرأة متسلطة، تؤمن إيمانًا راسخًا بعبقرية ابنها، فواصلت البحث بعد وفاته عن ناشر للكتاب. وفي النهاية، وبمساعدة الروائي ووكر بيرسي، نُشرت رواية تول أخيرًا، ونجحت نجاحًا كبيرًا. ومُنح في عام 1981 جائزة البوليتزر بعد وفاته، وبلغت "تحالف الأغبياء" منذ ذلك الحين منزلة رواية "كلاسيكية حديثة".


ومع ذلك، فإن النجاح أيضًا ليس رادعًا للانتحار الأدبي. ففي عام 1948، نُشرت رواية "مقاطعة رينتري" لروس لوكريدج الابن، ملحمة الحرب الأهلية الأمريكية، وحظيت بإشادة واسعة ومبيعات ضخمة، تلك الاستجابة التي يرغب بها كل كاتبٌ سرًّا (أو ليس سرًّا تماما). كانت المخطوطة، والتي اشتغل عليها لوكريدج أثناء عمله فيما يبدو على أطروحة عن والت ويتمان في جامعة هارفرد، تزن ما يقارب عشرين رطلًا، ووافق عليها هوتون ميفلين ما أن كادت تقع عيناه عليها، حين وصل إلى مكاتبهم يحملها في حقيبة بالية. قبل نشرها، نشرت مجلة لايف مقتطفًا منها مقابل مبلغ باهظ. فاز لوكريدج أيضًا بجائزة ضخمة قدّمتها أستوديوهات مترو غولدوين ماير، بالإضافة إلى عقد فيلم (صدر الفيلم في نهاية الأمر عام 1957، من بطولة إليزابيث تايلور ومونتغومري كليفت، واُعتبر فيلمًا من مَصافّ فيلم "ذهب مع الريح") وكان الاختيار الرئيسي لنادي كتاب الشهر. ومع ذلك، بعد شهرين من النشر، وقبل يومٍ من الإعلان بأن "مقاطعة رينتري" في المرتبة الأولى على قائمة أفضل الكتب مبيعًا على المستوى الوطني، انتحر لوكريدج بالطريقة نفسها التي سينتحر بها جون كينيدي تول بعد عشرين عامًا، بالتسمّم بأول أكسيد الكربون. كان لوكريدج يعاني أيضًا من اكتئاب حاد، المتجذّر في القلق الذي يجلبه غالبًا مثل هذا النجاح الهائل: ضغط الارتقاء إلى مستوى الإشادة والتحدّي، خصوصًا تحدّي الكتاب الثاني.



محاولات الانتحار الخائبة

ما تزال هناك فئات أخرى من الانتحار الأدبي. أحدها الانتحار الغامض، وأخرى فئة الكتّاب الذين حاولوا الانتحار، أو كانوا على وشك ذلك، ولسبب أو لآخر، لم ينفّذوا الأمر، وهو ما قد أسمّيه الانتحار المُجهَض. حالة ماري وولستونكرافت إحدى هذه الفئات، وسنلقي نظرة عليها بشيء من التفصيل لاحقا. وأوقف غوته، المسؤول عن عدد كبير من حالات الانتحار الرومانسية المُقلَّدة والذي سيُدرس بعناية لاحقا، بطل مسرحيته المسمّاة باسمه "فاوست" من الانتحار بسماعه نواقيس الكنيسة في عيد الفصح.


إحدى الحالات التي مَنع فيها كتاب، أو كتيّب على الأقل، كاتبًا من الانتحار هي حالة الروائي وخبير علوم القوى الخفيّة في براغ غوستاف ميرينك. حائر بين متطلّبات حياته بصفته خبير ماليّ رزين، وملذات كونه أكثر غندور مبذّر في براغ، كان ميرينك قاب قوسين أو أدنى من الانتحار حينما دُفع كتيّب من تحت بابه. وكان إعلانًا لكتاب عن الاعتقاد بالقوى الخفيّة. قرأ ميرينك الأبراج وقرّر عدم إنهاء حياته، وعندما ظهرت روايته التعبيرية "الغولم" بعد بضع سنوات، كانت من أكثر الكتب مبيعًا. وبدا أن كاتب القصة القصيرة والروائي الفرنسي غي دو موباسان يُنذر بمحاولة انتحاره في قصته "الهورلا" حيث يهيمن فيها مخلوق غريب فائق الأبعاد على عقل البطل على نحوٍ متزايد، ويقوده في النهاية إلى الانتحار. ويرى الكثيرون أن هذه الحكاية المفزعة على أنها رؤية موباسان لبداية جنونه الذي تسبّب به مرض الزُّهري. مع ذلك، كان انتحار بطله إشباعًا للرغبة. حاول موباسان بالانتحار تجنّب مآل أخيه الذي أصيب بالجنون أيضًا، إلا أن خادمه منعه من ذلك.


وكان انتحار الشاعر اللتواني والروائي والفيلسوف الباطنيّ والدبلوماسي أ. ف. دي لوبيتش ميلوش انتحارًا مخفقًا آخر، وهو كاتب غير مشهور في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، على الرغم من مكانته الراسخة في فرنسا، البلد الذي احتضنه. بدأ ميلوش مسيرته في الكتابة بصفته رمزيًّا وانحطاطيًّا، وكان من مرتاديّ الكاليسّايا في الثامنة عشر من عمره، أول حانة أمريكية في باريس، حيث كان ضمن مجموعة أشخاص ينشدون العبقرية، تتحلّق حول أوسكار وايلد. قال وايلد ذات مرة لأحد الأصدقاء أثناء جلوسه على طاولة واحدة مع جورج مور وإرنست لاجونيس والشاعر مورياس: ’’هذا الشاعر مورياس‘‘. وعند رؤيته لميلوش قادمًا، أكمل قائلًا: ’’وهذا ميلوش، الشعر بحدّ ذاته‘‘. كان ميلوش (عمّ تشيسلاف ميلوش الحائز على جائزة نوبل) من متعصّبي بو، ولامارتين، وبودلير، ونوفاليس، وبايرون وهولدرلين، وشارك في نقاشات المقهى في الكاليسّايا وفي مشرَب شاعريّ آخر، نابوليتين. مع ذلك، وعلى الرغم من تكلّفه الانحطاطيّ، لم يكن ميلوش راضيًا عن مفاهيم "الفن من أجل الفن"، وفي رسالة إلى صديقه كريستيان غاوس، اعترف بأنه ’’حزين جدّا...حزنٌ لا يمكن لشيء أن يتغلَّب عليه‘‘. وقال لغاوس: ’’هذه الحياة فارغة تمامًا بوحدتها العصيبة، والتي يحيطها حمقى نابوليتين والكاليسّايا...‘‘ ازداد هذا الشعور بالوحدة، وأدّى في نهاية المطاف إلى محاولة ميلوش الانتحار. كما أخبر غاوس في رسالة أخرى، في الأول من كانون الثاني عام 1901: ’’حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً، وفي سكون مطبق، وسيجارة بين شفتيّ – الروح البشرية، في النهاية، أمر عجيب – أطلقت النار على نفسي في منطقة القلب بمسدّس‘‘. أفسد المحاولة، لكن أطبائه لم يظنوا أنه سينجو. إلا أنه نجا على نحو غير متوقّع، وهزّت التجربة ميلوش بما فيه الكفاية ليطرح عنه عباءة الجماليّات وينصرف ليكون شاعرًا فلسفيًّا ذا طابع ميتافيزيقي وروحيّ بالغ.


وكانت محاولة الشاعر شارل بودلير، أحد أبطال ميلوش، اخفاقًا انتحاريًّا آخر. ففي عام 1845، تسبّبت ميول بودلير الانحطاطية المبالغ فيها في استنفاد ميراثه من والده، الذي توفي عندما كان بودلير في السادسة من عمره. واتخذت والدته المتسيطرة وزوج أمه الصارم إجراءات للحد من إنفاق الشاب متذوّق الجمال، وحجز الأموال على نحو نافذ المفعول، والتقتير عليه بمصروف قليل. هذا الإذلال، بالإضافة إلى اعتماده المازوخي على المرأة الخِلاسيّة جين دوفال، الأمّية والفظّة والثملة في كثير من الأحيان، أدّى ببودلير إلى اليأس، وحاول الهروب من قدره بطعن نفسه. ومثل أ.ف. لوبيتش ميلوش، أفسد المحاولة، مما يجعلنا نفترض أن ذلك زاد من إذلاله فحسب. إلا أن الأزمة كان لها حصيلة نافعة. فمن رحمها، لاقت الاستحسان أول كتابات بودلير المنشورة "صالون 1845" ، ووطّدت مكانته باعتباره ناقدًا مُعتبرًا، إن لم يكن وافر الأجر.


وكان انتحار ويليام كوبر انتحارًا مخفقا آخر، هائل، وهزليّ ومأساوي بعض الشيء، الذي كان وصفه لمحاولاته غير المثمرة لإنهاء حياته طويلًا جدّا بحيث يتعذّر اقتباسه هنا، ولكن يمكن إيجاده في "متفرقات انتحارية" في نهاية الكتاب.


انتحار، أم لا؟

يقدّم لنا الكاتب غراهام غرين قضية يمكن اعتبارها إما محاولة خائبة أو غامضة، ولكن في رأيي ورأي غرين، فإنها لا ترقى لأن تكون محاولة انتحار على الإطلاق. يروي غرين في مقال "المسدس في الخزانة بالزاوية" كيف خفّف من ملل سن المراهقة بلعب الروليت الروسي في أرض بيركهامستيد المُشاعة. في أواخر سن المراهقة، عانى غرين من حالة سأم حادّة. يكتب قائلًا: ’’لسنوات، بدا لي أنني لا أستطيع أن أبدي اهتمامًا جماليًّا تجاه أيّ شيء مرئيّ على الإطلاق؛ محدّقًا في منظر أكّد لي الآخرون جماله، وما كنت أشعر بأي شيء‘‘. يحاكي غرين هنا فقدان اللذة عند شاعر سابق، وانتحاريٌّ أحيانًا، صامويل تايلر كولريدج. في قصيدته "الاكتئاب: قصيدة غنائية" يكتب كولريدج قائلًا:


هنالك الهلال الثابت كما لو نما

في بحيرة زُرقة ليلٍ أهيم صافِ

أرى كل هذا المنظر البهيّ ولا

تهتزّ طربًا لهذا الجمال أطرافي



في سنواته الأولى فكّر كولريدج نفسه في الانتحار حينما عاش حياة ازدواجية نوعا ما في كامبريدج، كما يروي كاتب سيرته ريتشارد هولمز، بالتناوب بين "الانفاق المسرف على الكتب، والشرب، ودروس تعلّم العزف على الكمان، والمسرح والبغاء" و "نوبات من كآبة انتحارية وندم". ’’سلّم نفسه لدوّامة من اجتماعات السُكر، وبالتناوب بين قرارات فردية صارمة بإطلاق النار على نفسه باعتباره حلًّا نهائيًّا للديون المتعثرة، وحب غير متبادل وسمعة أكاديمية مخزية‘‘. وفي الحقيقة، أن شقيق كولريدج الأكبر فرانسيس قد مات منتحرًا، وربما كان لكتاب غوته "آلام الشاب فرتر"، والذي سنناقشه لاحقا، علاقة بأفكار الانتحار هذه.


وجد غراهام غرين، مع ذلك، وسيلة فعّالة لتبديد الملل. حينما اكتشف مسدسًا بين أغراض أخيه، قرّر غرين أن يجرّب نفسه في لعبة الروليت الروسي، بعدما قرأ عن الجنود الروس الذين يسلّون أنفسهم بهذه الطريقة خلال الحملات الطويلة والموحشة. عثر غرين على كمية من الرصاص، ولقَم رصاصة في الحُجيرة، وأدار الأسطوانة خلف ظهره. وبعد أن أخذ المسدس إلى الأرض المُشاعة، وضع فوهته على صدغه وسحب الزناد على هونه. كتب قائلًا: ’’كان ثمة صوت طقّة بالغ الدقّة، وحينما نظرت إلى الحُجيرة، كان بالإمكان رؤية المقذوف جاهز للإطلاق. كنت على بعد محاولة. أتذكر إحساسًا طاغيًا بالبهجة. كما لو أن نورًا قد أُضيء...وشعرت بأن الحياة تتسع لاحتمالات لا حدّ لها‘‘. استمر غرين في هذه الممارسة، ووجد "توقًا" إلى تأثيرها.  في النهاية، وعلى أية حال، تلاشت نشوة عدم إطلاق النار على رأسه، ثم كفَّ عن ذلك.

يوضّح غرين أن لعبته الخطيرة، مع ذلك، لا علاقة لها بالانتحار، على الرغم من أن كي ريدفيلد جايمسون تعدُّه من بين مرضى الاكتئاب الهوسيّ. يكتب غرين قائلًا: ’’لم يكن هذا انتحارًا، بغض النظر عمّا قد تحكم به هيئة محلفيّ قاضي تحقيق الوفيات: لقد كانت مقامرة مع التحقيق القضائي من ستِ فرص مقابل واحدة ... كان اكتشاف إمكانية الاستمتاع بالعالم المرئي مرة أخرى بالمخاطرة بخسارته كلّيًا (الخط المائل من عندي) أمرًا لا بد لي من تحقيقه عاجلًا أم آجلا‘‘. وليتأكد من أن موته المحتمل لن يُعتبر مُتعمّدًا، كتب غرين بيتًا من الشعر وتركه على مكتبه، والذي يتضمّن الشطر ’’أضغط على زناد مسدس أعرف مسبقًا أنه فارغ‘‘.


حالات انتحار غامضة

من بين حالات الانتحار الغامضة وغير المؤكدة، فإن حالة آرثر كرافان، والذي كان من أوائل السورياليين، ملائمة جدًّا. كان كرافان معاصرًا لألفريد جاري، مؤلف مسرحيات أوبو، وصِنوهُ في غرابة الأطوار، والجامعُ بين مهنة الملاكمة – لعب ذات مرة ست جولات ضد جاك جونسون – وشعر دادائي تهجُّمي. يشيع الاعتقاد بأن كرافان انتحر، ملقيًا بنفسه في البحر إبَّان رحلة من المكسيك إلى فالبارايسو للقاء زوجته، الشاعرة مينا لوي؛ إلا أن مقالًا بقلم تشارلز نيكول في " لندن ريفيو أوف بوكس" يُضعف هذه الرواية، ويشير إلى أنه فقد السيطرة على مركبه غير الصالح للإبحار وغرق فحسب؛ وأن الرحلة، على أي حال، تتطلّب بحَّارًا متمكّنًا كل التمكّن. ومثل العديد من السيرياليين، كان كرافان ولِعًا بالانتحار، وأشاع ذات مرة إعلانه في إحدى القاعات الباريسية بأنه سينتحر على الملأ. ولكن سرعان ما اتهم جمهوره باستراق النظر الجنسيّ الفظّ عندما اكتظت القاعة، وأتحفهم بمحاضرة عن الأنتروبيا بدلًا من ذلك (قد يظنّ المرء أن كثيرًا منهم تمنّى لو أنه التزم بالترفيه المُعلن عنه). كان لأساليب كرافان الجمالية "الإرهابية" بالغ الأثر لاحقا على الأممي الموقفيّ جاي ديبورد، والذي سينتحر في عام 1994، بإطلاق النار على قلبه في بيت مزرعته في منطقة أوفيرن. زعم ديبورد أنه أراد أن يرى ’’ما إذا كان بوسع المرء أن يتحمّل مسؤولية ارتكاب فعل من أفعال التعدّي العظمى‘‘ وتحدّث كاتب سيرته أندرو هاسي عن ’’فعله الأعظم والسيادي لتدمير الذات‘‘. هذه لازمة سترافق كثيرًا من يختارون ما يمكننا تسميته بالانتحار الجمَالي. الإشكالية في هذا ومع كل مفاهيم "التعدّي" هي عدم وجود أعمال "تعدّي عظمى". والقتل هو الفعل الآخر الملائم والمعتاد لارتكاب "التعدّي العظمى"، غير أنه يحمل عيوبًا خاصة به، لكن كما سنرى أنها في بعض حالات الانتحار الجمَالية، مثل حالة جاك فاشيه، يظهر أنها غير جديرة بالذكر.


والحالة الأخرى الغامضة للروائي مالكولم لوري، المشهور بتحفته "تحت البركان"، رواية هلوسيّة لآخر 12 ساعة من حياة جيفري فيرمين، القنصل البريطاني السابق السّكّير، مهلكًا نفسه بمعاقرة الخمر في المكسيك. تجري أحداث الرواية في "يوم الموتى"، والكتاب مُشبَّع بأفكار القوى الخفيّة والرمزية الباطنيّة، كثير منها مأخوذ من "التَّارو"؛ وكانت إحدى الأوراق ذات مغزى عظيم للوري، ألا وهي ورقة «الرجل المشنوق». يحثُّ فيرمين موتًا محتومًا لملاقاته بتردّده على حانة وضيعة تسمّى فاروليتو، وفي نهاية الرواية يقتله الفاشيون المحليّون وأنصار النازية فيها. تبدو حياة لوري، التي يكتسيها إدمان الكحول والزيجات الفاشلة والفقر والإخفاق، وكأنها انحدار طويل وممتدّ إلى جحيم شخصي، وفي نهايته كان التقدير الرسمي "وفاة ناتجة عن حادث". ومع ذلك، هنالك شكوك عمّا إذا كانت حادثة انتحار. كان الاختناق لقلة الأكسجين سبب الوفاة – اختنق لوري بقيئه بعد حفلة قصف ومرح. وعلى الرغم من ذلك، عُثر بالقرب منه على زجاجة فارغة كانت تحوي عشرين حبّة منوّمة من أميتال الصوديوم. أمضى لوري سنينًا يصارع إدمانه دون طائل، ولربما يئس من الأمر فحسب. ولكن كما يشير كاتب سيرته جوردون بوكر في "طريد ربَّات الانتقام الغاضبات: حياة مالكولم لوري" بأن هناك احتمالية وقوع غدر؛ فمن المحتمل أن زوجة لوري الثانية، ماجوري بونر، والتي تشاجر معها شجارًا عنيفًا في ليلة وفاته، قد أعطت لوري الحبوب المنوّمة حينما أخذت الخمر مأخذها فيه.


وحالة الروائي جاك لندن هي حالة أخرى غير مؤكدة. كان للندن، المرتبط اسمه بقصص مغامرات الصِبية واضحة المعالم والمتّسمة بالقسوة، مثل "نداء البرّية" و "النّاب الأبيض"، جانبًا خفيًّا وهوسًا لدفع نفسه إلى أقصى الحدود، أشبه بفلسفة للحياة "فائقة الحد". كانت قدرته على الأكل والشرب هائلة وستتسبّب بموته في النهاية، على الرغم من احتمالية أن جرعة المورفين الزائدة التي توّجت مسيرته المتأثرة بمذهب اللّذة كانت متعمَّدة. على الرغم من أن لندن أستطاع أن يقول ’’...وبعد أن خضت في جميع ملهيات الحياة والشباب، وفي عمري الحالي عمر الرشد البالغ تسع وثلاثين عامًا، فإنني مقتنع صدقًا وباعتقاد راسخ بأن اللهو يستحق كل العناء...‘‘ وسيحتفظ أيضًا بمسدس محشوّ في مكتبه، مستعدًّا لاستخدامه على نفسه في أي وقت.


ومع إدمانه على المورفين والأفيون، كان لندن سكّيرًا نهمًا، وكان من أوائل الكتّاب الرئيسيين الذين اعترفوا علانية بإدمانهم على المُسكرات؛ وفي روايته "مذكرات سكّير" أوقعت شخصية جون بارليكورن الصدمة في نفوس قرّاء قصص مغامراته، وفي أمريكا المتشدّدة، انقلب الكثيرون ضده. ويسهل رؤية الرغبة اللاشعورية بالموت في ولعه بالإسراف، رغبة تتجاوز حدود الذات. اعترف لندن ذات مرة بأنه كاد يهلك نفسه بمعاقرة الخمر في حفلة قصف ومرح، وفي مناسبة أخرى، كما في روايته "جون بارليكورن"، يحكي بأنه وجد نفسه يتطوّح سكرانًا في خليج سان فرانسيسكو ’’...واستحوذ عليّ فجأة هذيان رغبة بالانحسار مع الجزر‘‘. انجرف لندن مع التيار لساعات بهدف ترك نفسه للغرق، إلا أنه في نهاية المطاف أفاق من سُكره وأنقذه الصيّادون. انتحر بطل روايته الشبه سيرة ذاتيه "مارتن إيدن"، وفي رواية "السيدة الصغيرة في المنزل الكبير" يساعد طبيب البطلة التي تعاني من جرح طلق ناري مميت يتعذّر إجراء عملية جراحية عليه بوضع نهاية للألم بانتحارها.


ربما انتحر لندن أو ربما مات جرّاء مرض اليوريميا الذي كان يقتله على أية حال (كانت كليتيه تعانيان من قصور مما تسبّب بتراكم مخلفات اليوريا في جسمه). أما الأسباب الأخرى التي يُشار إليها فهي النوبة القلبية والسكتة الدماغية أو جرعة زائدة من المورفين بالخطأ. أيًّا كان سبب مقتل لندن، فإنه مثل روس لوكريدج الابن (وكادرٌ من نجوم موسيقى الروك) لم يكن النجاح الذي حالفه كثيرًا ممتعًا له. كتب قائلًا: ’’احتقرت النجاح...‘‘ ويتساءل المرء عمّا إذا كان انهيار مشاريع مثل عزبة "وولف هاوس" الفاخرة والرحبة، ومركبه الشراعي "سنارك" ومزرعته الكبيرة "بيوتي رانش" –  جميع المشاريع المكلّفة التي أثبتت أنها خيبة أمل كبيرة – قد نجمت عن رغبة لا واعية في الفناء. جعلت طفولة لندن مع أم مكتئبة ومختلة العقل – والتي عاشت مع منجّم وروحانيّ بعدما هجرها والد لندن – وعمل سنواته المبكرة في مصنع تعليب، وحاجته الدائمة للتكيّف مع البيئات الصعبة، جعل كل هذا منه ناجيًا من نواح عدّة. كانت آراؤه الاجتماعية متماشيةً مع الداروينية الاجتماعية إلى حدٍ كبير. مع ذلك، كما يذكر أحد كتّاب سيرته، كان لها ثمنٌ أيضًا. ’’لم ينمّي جاك إحساسًا قويًّا بالذات أبدًا، وسيصل سن البلوغ بقليل من تقدير الذات‘‘. وعلى الرغم من دافع يحدوه ليُحسّن حاله (كان راسخ العزم ومعلمًا نفسه بنفسه وقد كان رجلًا عصاميًّا بكل ما في الكلمة من معنى) اُبتُلي بما سمَّاه "المنطق الأبيض": ’’رسول الحقيقة وراء الحقيقة، نقيض الحياة، القاسي والكئيب كفضاء بين النجوم، لا نبض له ومجمّد كالصفر المطلق، باهرٌ بصقيع المنطق الذي لا نزاع فيه وحقيقة لا تُنسى‘‘. ومع كل نجاحاته المادية – كان في وقتٍ من الأوقات أعلى الكتّاب أجرًا في أمريكا – لم يشعر لندن أبدًا بالرضا عن نفسه. فقد كان يتملّكه إيمانٌ نيتشويٌ بالإنسان الأعلى، وكان أيضًا عرضة إلى التشاؤمية الكونية، وجبريّة منعته من تعديل سلوكه حينما واجه عاقبة شطط إنسانه الأعلى. ولمّا شَرعت موجة المخدرات والكحول وجسدٌ واهن في حمله إلى البحر الكونيّ، ربما ترك أمر نفسه للغرق.


الانتحار البطيء

تثير حالة لندن السؤال عن الكتّاب الذين قد يُنظر إليهم على باعتبارهم منغمسين في تجرّع بطيء للكحول أو انتحار مترع بالمخدرات. معروف أن غالب أولئك الكتّاب لديهم ولع مَرضي بالخمر أو المخدرات. والروائي جاك كيرواك من حركة «البيت» مثال على ذلك. بعد النجاحات الأولى لكتب مثل "على الطريق" و "مُشردو الدّارما" لجأ كيرواك أكثر فأكثر إلى أسلوب نثر لا يفهمه إلا الخاصة وإلى عزلة كحولية، مهلكًا نفسه في الواقع بمعاقرة الخمر بينما يعيش مع أمه؛ وتوفي في عمر السابعة والأربعين عام 1969. والمثال الآخر هو الشاعر الانحطاطي إرنست داوسون، وهو من المولعين بشراب الأفسنتين والأفيون والحشيش والخمر وغيرها من المُسكرات. يصف أحد الكتّاب داوسون، الذي كان صديقًا لآرثر سيمونز وييتس وآخرين من "الجيل المأساوي"، قائلًا: ’’يعيش عيشة النّاسك في منزل مُتداعٍ، حيث يشرب الأفسنتين ويتناول المستحضرات الأفيونية بكثرة‘‘. مات في الثانية والثلاثين من عمره بسبب مرض السُّل والخمر وإيذاء الذات عموما. شِعر داوسون زاخر بالصور واستعارات السأم ومتاعب الحياة والأُفول والموت المبكّر؛ وربما كانت أشهر قصائده قصيدة "لا تدوم" بتحذيرها الجذل بـ ’’إنها لا تدوم/أيام الرغد والترف/ومن حلمٍ ضبابيّ/يلوحُ دربنا لبُرهة ثم يُحجَبُ .../‘‘ وفي قصيدة أخرى "كلمة أخيرة" يودُّ الذهاب إلى "أراضي المُنخفضات" حيث ’’الحرية للجميع من الحبّ والخوف والشهوة/تلتفُّ أيادينا الممزقة/ألا أُدعُوا أن تضمّ الأرض قلوبنا المريضة بالحياة وتصيّرها إلى تراب‘‘. ربما لم يكن لدى داوسون المقدرة على الانتحار، وربما كانت متاعب حياته تظاهرًا، وذلك أمر أخذ به كثير من أقرانه، غير أنه لم يُوقف انجرافه نحو العدم. ومع ذلك إذا سلّمنا بأن حالته وحالة كيرواك (ومع الأسف حالات أخرى عديدة) حالات انتحار فسيتنامى هذا الكتاب ليصبح صعب الاستعمال، لذا فإني أرى استبعادها.


حالات انتحار زائفة

لبعض الكتّاب علاقة "ازدواجية" مع الانتحار. فلم ينتحر الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، وإنما انتحر أحد أسمائه "المغايرة". كان "الاسم المغاير" الصفة التي أطلقها بيسوا على الشخصيات الأدبية البديلة المتعددة التي ابتكرها طوال مسيرته؛ ليس مجرد اسم مستعار، بل كانت أسماء بيسوا المغايرة – كان لديه العشرات – هويّات أخرى حقيقية بالفعل، لها تاريخها وخصائصها النفسية وأساليبها الأدبية الخاصة بها. أحدها بارون تيفي، مؤلف كتاب بعنوان "تربية رواقي"، حيث يُفضي به الأمر إلى الانتحار بسبب التفكير المنطقي الصارم. وانطلاقًا من اقتناعه بـ "استحالة إنتاج فنّ رفيع" واتخاذ قرار الانتحار بعد حرق كل أعماله، يعمل البارون على منشورٍ أخير، مخطوطة تفسّر سبب استحالة النجاح في كتابة الأعمال الأدبية التي يتخيّلها في ذهنه. وكما هي العادة مع بيسوا، فإن هذا الكتاب إنما هو عملٌ مفكّك أيضًا، وشهادة واقعية على استحالة الأدب. وصل البارون إلى ’’القمة من الفراغ، إلى الوفرة من اللاشيئ على الإطلاق‘‘. وما سيدفعه إلى الانتحار هو ’’ذلك الدافع الذي يشبه الدافع الذي يجعل المرء ينام مبكّرًا‘‘. وكما اكتشف هاينريش فون كلايست (كما سنرى)، يرى تيفي بأنه ’’مستحيل هو مسار الحياة العقلاني. ولا يمدُّ الذكاء بقاعدة توجيهية‘‘ ويستنتج مثل كلايست بأن لا خيار إلا الانتحار. يكتب تيفي قائلًا: ’’أشعر بأنني بلغت أقصى غاية من تحكيم منطقي، ولهذا سأقتل نفسي‘‘. وبعد إحراق جميع شذرات أعماله السابقة، يقتل نفسه.


وأحد أسماء بيسوا المُغايرة برناردو سواريس، مؤلف أحد أشهر أعمال بيسوا المعروفة (في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية) "كتاب اللاطمأنينة" – على الرغم من أن وصف مجموعة الشذرات الهائلة هذه بـ ’كتاب‘ هو وصف مُضلّل – يفكّر بالانتحار أيضًا. ولكن كما هو الحال مع بيسوا، فإن رأيه في الأمر متناقض ظاهريًّا. كتب بيسوا/سواريس: ’’دائما ما أدهشتني في الحياة المفعمة بالنشاط أنها أقل حالات الانتحار راحةً‘‘. إن كان هذا هو الحال، فإن حياة بيسوا ذاتها، والتي قد يُنظر إليها، بصرف النظر عن نشاطه الأدبي العظيم لم تكن حياته مفعمة بالنشاط، يُنظر إليها باعتبارها تفادٍ طويل الأمد لهذه الطريقة العملية بفعل الأمر بنفسك: فقد أمضى جُلَّ حياته في لشبونة، وفي الحي نفسه تقريبًا، وحظي بقلّة من الأصدقاء، وغالب الظن أنه مات بِكرًا. ومع ذلك، يمكن لأي قارئ يقرأ "كتاب اللاطمأنينة" أن يميّز رفضه البالغ للعالم، وسأمه الذي لا ينثني، وقد يشعر، كما شعرتُ أنا، بأن الانتحار لم يغب عن بال بيسوا. ويمكن تفهّم آنئذ رؤيته مساعدة شاعر آخر في تزييف انتحاره بأنها فكرة مغرية. على أية حال، فالشاعر المشار إليه معروف بمظاهره الأخرى، بأنه ساحر وخبير في العلوم الخفية ومدمن مخدرات.


اتصل بيسوا بأليستر كراولي سيئ السمعة من خلال اهتماماتهما المشتركة في التّنجيم، وفي زيارة إلى لشبونة، إبّان تنازع ’الوحش العظيم‘ مع ’المرأة القرمزية‘ الأخيرة – محظيته الخيالية – أقنع كراولي بالتودّد والملاطفة بيسوا بمساعدته في المقلب. خلق كرولي الانطباع بأنه أنهى كل شيء بالقفز في البحر، بعدما ترك رسالة عاشقٍ مخذول عند تكوين صخري غير مأمون على ساحل لشبونة الغربي، والمعروف باسم ’بوكا دو إنفيرنو‘ – فم الجحيم.  وشرح بيسوا للصحافة في لشبونة رموز القوى الخفيّة المختلفة المرفقة بالرسالة، بل وأبدى حقيقة رؤيته شبح كراولي في اليوم التّالي لاختفائه. وفي الواقع، كان كراولي قد غادر البرتغال عبر إسبانيا، مستمتعًا بقراءة تقارير وفاته في الصحف؛ ومن بين مواضع ولعه الشديد، كان تناقل اسمه في الصحافة أكثر الأمور ولعًا بها. وفي النهاية، سئم من الخدعة وظهر "بقدرة قادر" في معرض لوحاته في برلين، واضعًا اسمه مجدّدا في عناوين الصحف. غير أنه ما زال لبيسوا صلة أهمّ بالانتحار. ففي عام 1916 انتحر صديقه الصدوق وشريكه في لشبونة في المجلة الطّليعية "أورفيو"، الكاتب ماريو دي سا كارنيرو، مؤلف رواية "اعتراف لوسيو"، انتحر بابتلاعه خمس زجاجات من عقار الإستركنين. ولم يكن يبلغ إلا خمسة وعشرين عامًا، إلا أنه مثل داوسون وغيره، كان مدمنًا على الكحول والأفيون.


تشير حالة سا كارنيرو إلى فئة أخرى، والتي لا أملك للأسف مساحة لسبرها هنا: مُدن الانتحار. وعلى الرغم من أن جميع المُدن الكبيرة لها نصيبها من حالات الانتحار، إلا أن هناك شيئا ما متعلّق بباريس يضفي على الفكرة جاذبية رومانسية وشاعرية. فجنبًا إلى جنب مع بول سيلان ودي نيرفال وجيل دولوز وصادق هدايت وغيرهم، يبدو أن سا كارنيرو حمل تعليق ريلكه عن باريس محمل الجدّ في كتاب "مذكرات مالته لورديز بريغه": ’’هذا إذن المكان الذي يأتي إليه الناس للعيش فيه؛ وأنا الذي ظننتُ أنها مدينة يُؤتى إليها للموت فيها‘‘.


وكلاء الانتحار

ومن بين فئات الانتحار هناك كتّاب رغم أنهم لم ينتحروا بأنفسهم إلا أنهم قادوا غيرهم إلى الانتحار. وسيُبحث في حالة غوته وكتاب "آلام الشاب فرتر" بإسهاب لاحقا، وعلى أية حال، في هذا المثال، لم يكن غوته نفسه المسؤول بل كتابه. وإنما أقصد هنا الكاتب نفسه. وقد يكون من المبالغة أن نشمل فرويد في هذه الفئة، إلا أنه ليس من المستغرب أن يُنظر إلى فرويد على أنه شخصية أدبية أكثر منها علمية أو طبية، ويعزّز ذلك أنه بالمقارنة بيونغ فقد كان كاتبًا بليغًا منقطع النظير.


كما توضّح كتبٌ مثل "فرويد وأتباعه" لبول روزن، بأن تلاميذ فرويد كانوا أشبه بجمعية سرية؛ حتى أن فرويد سلّم خواتم لمن انتقاهم، وهي علامة على قبول التابع ضمن الزمرة الخاصة وكان الوجه الآخر من هذا التشريف هو غضب فرويد على المارقين. في بداية خطب الودّ، سمح فرويد المتعنّت والاستبدادي للأعضاء الجُدد بحرية تفكير محدّدة، ولكن كما وصفه أحد الكتّاب، لم يكن هذا إلا ’’ليكون الانتصار الحاسم لمبادئ التحليل النفسي الانتصار المُحكم‘‘. فإذا بات واضحًا لفرويد أن للوافد الجديد تحفظات حول نظرياته – خصوصًا الأسس الجنسية للعصاب – مهما كانت طفيفة ومنطقية، فإن ’’هنالك طقوس للحرمان...‘‘ وكان غير المؤمن بنظرياته ’’يُلعن لعنًا مهيبًا ويُوضع في قائمة "المحظورين" ‘‘. وحتى يونغ نفسه، الذي اعتبره فرويد وريثًا لمبادئه، قطع علاقته في نهاية المطاف بأستاذه، وهزّت التجربة كيان يونغ وسبّبت له ما يشبه النوبة الذُهانية. تجاوز يونغ التجربة ومضى ليؤسّس مدرسته في التحليل؛ لكن غيره لم يكونوا شديدي التحمّل. وكان من بين هؤلاء فيكتور تاوسك.


كان تاوسك شخصًا ذكيًّا، والذي سلَّم في البداية برؤيا فرويد؛ إلا أن مشكلته كانت أنه ذكيٌّ أكثر من اللازم، وأقلق استقلال رأيه فرويد، حتى لمّا كان ما يزال يعمل ضمن الإطار الفرويديّ. أراد فرويد أتباعًا، لكنه لم يرغب أشخاصًا قادرين على التفكير بأنفسهم. تحوّل حنق فرويد نحو تاوسك عندما انبرى للدفاع عن الفيينيّ الهجَّاء كارل كراوس، والذي حذّر من أفكار فرويد، معلّقًا تعليقًا ثاقبًا بقوله: ’’التحليل النفسي هو المرض الذي يدّعي أنه العلاج له‘‘. كما أنكر كراوس على فرويد محاولته اختزال عبقرية رجال مثل دوستويفسكي وليوناردو إلى مظاهر حسد القضيب. في نهاية المطاف دافع المؤمنون الحقيقيون زاعمين أن حملة كراوس على الصحف الشعبية آنذاك كانت تعبيرًا لشعوره الناجم من حسد القضيب. لم يكن لتاوسك علاقة بأي من هذا، إنما أشار إلى أن الصحافة التافهة في فيينا كانت تستحق حملة كراوس. كان ذلك كافيًا عند فرويد، وعندما طلب تاوسك، الذي يمرُّ بأوقات عصيبة، المساعدة من فرويد – طلب منه على وجه التحديد تحليله نفسيًّا – رفض مساعدته. وعرَّض فرويد تاوسك لإهاناتٍ قاسية، ومشيرًا إليه بالخضوع للتحليل النفسي عند أحد طلّاب فرويد بدلًا منه، ورفض أية محاولة لاستعادة علاقة الودّ السابقة بينهما. وانهار تاوسك. وبعد الرفض بفترة وجيزة، كتب رسالة إلى فرويد وأخرى إلى عشيقته، ثم أوثق حبل ستارة حول رقبته وأطلق النار على رأسه، شانقًا نفسه بعد الارتداد من إطلاق النار.


وكان هربرت سيلبرر ’’أكثر أتباع فرويد ألمعيةً وإبداعًا من حيث الإمكانية‘‘ تلميذ آخر لقي معاملة فرويد المشهورة. أبدى سيلبرر ملاحظات مهمة بشأن حالة رؤى النعاس الغريبة والتي تسمّى الهيبناغوجيا، وبحث في كتابه "مشاكل التصوُّف ورموزه" عام 1917 في العلاقة بين الصُّور الذهنية والخيمياء قبل يونغ بسنين. وعلى الرغم من أن سيلبرر كان يقدّر فرويد أجلّ التقدير، إلا أنه وجد أيضًا قيمة كبيرة في عمل يونغ. عارض سيلبرر على نحو مهذّب اعتقاد فرويد بأن النظرية الجنسية قدّمت تأويلًا كاملًا للرمزية الخيميائية، وأشار إلى أنه يمكن أيضًا اعتبار هذا ’بتفسيره تفسيرًا رمزيًّا‘ تعبير عن الدافع الديني أو الباطني باعتباره ’دافع غريزيّ‘ مثل الدافع الجنسي. كان يعتقد أن مبعث إعجابه الأساسي بفرويد سيعوّض عن أي اختلافات في الرأي. اختلف معه فرويد، وألقى بالمارق في الظلمة الخارجية. وحينما اقترح سيلبرر، الذي زادت حيرته أكثر فأكثر من صُدود فرويد، أن يُعرّج عليه، ردّ فرويد على رسالته كاتبًا: ’’نتيجة للملاحظات والانطباعات في السنين الأخيرة، فإنني لم أعد راغبًا بالتواصل الشخصي معك‘‘. وتحطَّم سيلبرر. وبعد بضعة أعوام، وبعد أن عجز عن التخلّص من شعوره بانعدام قيمته، شنق نفسه على قضبان النافذة في منزله. ولا بُدَّ من أن بسيلبرر مسحة من اعتلال. فعندما شنق نفسه، رتّب الإضاءة كي يكون أول ما تقع عليه عينا زوجته عند عودتها إلى المنزل.


كاتب آخر مُحاط بحوادث الانتحار هو الروسي الانحطاطي فاليري بريوسوف، مؤلف الرواية المدهشة ضمن روايات القوى الخفيّة "الملاك المتّقد"، والتي بنى عليها بروكوفييف أوبرا بنفس الاسم. كان بريوسوف حكيم الرمزية الروسية بصفته روائيًا وشاعرًا ومحرّرًا وناقدًا، وقد كان شخصية رفيعة الشأن في بدايات القرن العشرين في الجماعات الأدبية في سانت بطرسبرغ وموسكو. وكما باريس ولندن، استحوذ الهوس بالقوى الخفيّة على روسيا ما قبل الثورة. فتنت الشيطانية وعبادة الشيطان على وجه الخصوص المجموعة الطليعية الروسية، وكان أحد ملامح هذا الافتتان ظهور ’نوادي الانتحار‘ بين أفراد طبقة الإنتلجنتسيا. هيمن بريوسوف على السّاحة وجمع حوله زمرة من الأتباع. وكان بريوسوف المتحفّظ والمنضبط أشد الانضباط مفتونًا بالصاخب والمنتشي بالفرح من الناس، وكان الشاعر ألكسندر دوبروليوبوف الناضج نضجًا مبكّرًا واحدًا منهم، والذي طُرد من المدرسة الثانوية في السابعة عشرة من عمره لنصحه الطالبات الشّابات بالانتحار، ويظهر أنه نجح في مسعاه بعض النجاح.


وكانت شخصية الروائي أندري بيلي، مؤلف الرواية العصرية المتعلقة بالقوى الخفيّة "بطرسبورغ"، شخصية أخرى فتنت بريوسوف. كان بيلي، صاحب الطبع الشاعري شديد التقلُّب، طفل الرمزية الروسية الرهيب. انجذب في البداية كل واحد منهما للآخر، ولكن سرعان ما نمت بينهما العداوة. ظنّ بيلي أن بريوسوف كان يحاول تنويمه تنويمًا مغناطيسيًّا، ونشبت بينهما حرب قوى خفيّة. وباتت منطلق رواية بريوسوف "الملاك المتّقد". وفي وسط الرواية تكمن العلاقة الثلاثية الشهوانية بين بريوسوف وبيلي والشاعرة نينا بتروفسكايا.

أحبّت نينا بيلي، إلا أنه بادلها بالصدود من أجل زوجة الشاعر ألكسندر بلوك. فلجأت إلى بريوسوف تطلب العون، وكان مشهورًا بأنه ساحر، وآملت أن يلقي سحرًا على بيلي لتكسب محبته. وعندما آل الأمر للفشل، أصبحت عشيقةً لبريوسوف، منغمسة في علاقة سادية مازوخية طيلة سبع سنوات، تضمّنت تعاطي المخدرات والجنون واتفاقات انتحارية. ولكن بعدما استخدم نينا نموذجًا لروايته، مال عنها بريوسوف وهجرها. وغادرت موسكو مُحطّمةً، وانتحرت لاحقا في باريس، وانضمت إلى صفوف سا كارنيرو وبول سيلان وغيرهما. وكان لبريوسوف علاقة مع الشاعرة ناديجدا لفوفا هي الأخرى بعد انتحار نينا. فيذكر الشاعر ف.ف. خوداسيفيتش بأن بريوسوف حفَّز مشاعر ناديجدا الانتحارية، وأهداها مسدسًا صوّبته يومًا إلى بريوسوف نفسه. وعندما أنهى بريوسوف علاقتهما الغرامية أطلقت النار على نفسها. وما زال هناك شاعر آخر نصحه بريوسوف بقتل نفسه أيضًا، وهو فيكتور غوفمان البالغ من العمر واحد وعشرين عامًا، والذي يظهر أنه أخذ بنصيحة أستاذه.


وكيل انتحار محتمل أخير. في وقت كتابة هذا الكتاب، قدّمت قناة بي.بي.سي. الرابعة فيلمًا وثائقيًّا جدير بالاعجاب عن ’الأنثروبولوجيّ‘ وخبير العقاقير كارلوس كاستانيدا. وكنت أعرف أغلب ما فيه، بعدما كتبتُ عن كاستانيدا في كتابي "أخمِد عقلك: الستينيات الصُّوفية والجانب الخفي لعصر بُرج الدَّلو" وكنت على دراية بأن كاستانيدا أغلب الظنّ أنه قد اختلق مغامراته كلها مع ساحر شعب الياكي دون خوان، والمصوّرة في سلسلة كتب رائجة. وما لم أكن أعرفه هو أن كاستانيدا قد جمع حوله في آخر سنين حياته مجموعة من التابعات له، واللاتي شارك معهن على ما يبدو تعاليم باطنية تتعلق بما يشبه بعثٌ كونيٌّ بعد الموت، على غرار مِلّة "باب السماء". مات كاستانيدا نفسه بمرض سرطان الكبد في عام 1998، وكانت وفاته صدمة للعديد من أتباعه الذين سلَّموا بتعاليمه التي تقول بعدم موته بل بـ "ارتقائه" لعالمٍ أسمى. ظلّ موته سرًّا لفترة من الوقت، وكان يكتنفه الغموض، كما يُقال. أُحرق جثمانه، وكما تروي إيمي والاس، مؤلفة مذكرات عن أيامها مع كاستانيدا بصفتها واحدة من تلميذاته وعشيقاته وزوجاته (كان لديه العديد من الزوجات في وقتٍ واحد)، بأن الحرق كان وسيلة لانعتاق الروح في هيئة أسمى. وبُعيد وفاة كاستانيدا، اختفت ثلاث نساء على الأقل في مجموعته المقرّبة، والمعروفة باسم "الساحرات". ويبدو أن فلورندا دونر-غراو، مؤلفة الكتب الرائجة والتي تستند إلى أعمال كاستانيدا، وتايشا أبيلار وباتريشا بارتين اختفن تمامًا، ولم يُسمع منهن مرة أخرى أبدًا. وعُثر عام 2003 على حطام سيارة في "وادي الموت" بكاليفورنيا، ومن الواضح أنه كان مرتبط بحادثة حريق. وأظهر اختبار الحمض النووي على الرفات البشري التي عُثر عليه في الحطام أنها تعود لجثمان باتريشا بارتين. كان لباتريشا علاقة فريدةً بكاستانيدا، حيث كانت ابنته بالتبنّي وعشيقته. وحتى الآن لم تظهر المرأتان الأُخريان مرة أخرى بعد، ويفترض بعضهم بأنهنّ ربما طبّقا تعاليم دون كارلوس إلى حدود الهلاك.


ضد الانتحار؟

هذه إذن بعض أنواع الانتحار الأدبي التي تستحق الذكر، والتي تُصنّف خارج الفئات الرئيسية التي سيتناولها الكتاب فيما بقي منه. ومع ذلك، غنيٌّ عن البيان أن ليس كل الكتّاب والشعراء يستميلهم الانتحار. وكما تُظهر مقاطع عديدة من قسم "متفرقات انتحارية"، ثمة من عارض الانتحار وهناك من استهان به، وآخرون - وجدوه في أول الأمر مغريًا - طرحوا الفكرة لاحقا. وهناك أيضًا السؤال حول مدى صدق العديد من الكتّاب الذين كتبوا على نحو كئيب عن رغبة المرء في إنهاء حياته، ولم ينهوا حيواتهم في الواقع المُعاش. يقدّم ج. ك. تشسترتون في روايته "عجبٌ عُجاب" والذي يستهل قصيدته "بالاد الانتحار" باب المتفرقات، يقدّم اختبارًا بالنار (توريةٌ غير مقصودة) لتحديد مدى جدّية المرء حول قيمة الحياة. يحاول تشسترتون أن يُبرهن أن الطريقة الوحيدة لإثبات جدّية من يدّعي بأن الحياة لا تستحق أن تُعاش هي بتصويب مسدس مُعمَّر إلى رأسه واقتراح سحب الزناد. فإن ظلّ غير مكترثٍ فعدميته حقيقية، وربما ستصنع فيه معروفًا إن مضيت في الأمر. وأما إن جفل، فإن الأمر ليس إلا تظاهرا. وعلى الرغم من أن المتظاهرين ليسوا نادرين – وأغلبنا قد كان متظاهرًا في حياته – إلا أن معظم هذا الكتاب يتناول أولئك الذين كانت مسألة الانتحار لهم مسألةً جادّة للغاية.


لإنهاء هذا المدخل، اسمحوا لي أن أضيف ملاحظة شخصية. يكرّس الكتّاب في أكثر الأحيان عند الكتابة عن الانتحار بعض الوقت لموقفهم تجاهه ويصفون صراعهم معه، إن صحّ الأمر. ومثلي كمثل العديد من الناس – سواء كانوا كتّابًا أم لا – مررت بأوقات عصيبة ومراحل صعبة، بل وحتى فترات طويلة من حياتي أعاني الكثير من المشقّة والعذاب النفسي والعاطفي. إلا أنني لم أحاول الانتحار أبدًا، ولم أفكر فيه بجدية على أنه خَيار، على الرغم من أن فكرة إنهاء توبيخ النفس والقلق الذي يصاحب الأوقات العصيبة بضربة واحدةٍ قد يكون أمر مغرٍ. ولعل السبب وراء هذا يعتمد على عدّة عوامل، ليس أقلها إدراك أن قتل نفسي، مهما كان وضعي سيئًا، كان بلا ريب طريقة مزرية للتعامل مع الأمر. وقضى شعور بصعوبة في الإرضاء وإدراك للارتباك والتعقيدات والصعوبات التي سأخلفها ورائي باستبعاد الانتحار. كما كنت مدركًا جدّا لتلك البصيرة الثاقبة ولكن غير المجدية للأسف، والتي تتشاركها آنّا كارنينا وإيما بوفاري وغيرهما، بأن انتحارهم كان فكرة سيئة في نهاية المطاف، وإزاء هذه النهاية، فإن الحياة أنسب كثيرًا على مع ما فيها من صعاب. في السنوات الأخيرة، والتي لم تخلو من متاعبها، وبما أنني الآن أب، أظن أنه يمكن أن يُقال أن الصّبيين سينزعجان انزعاجًا بالغًا لغيابي، فهذا يجعل الفكرة بوضوح مسألة غير مطروحة. ولتجنّب موت طويل وبطيء ومؤلم بسبب مرض عُضال، وللوداع حين يكون الوداع ممكنًا، قبل أن تُضعف الشيخوخة اتزان عقل المرء وإدراكه للحياة: بإمكاني أن أقدّر هذه الظروف وأتفهّم إنهاء المرء حياته في هذه الحالات، على الرغم من أنه لم يتبيّن بعد كيف سيكون شعوري وردّة فعلي إن وجدت نفسي في هذه المواضع. كل ما عدا ذلك يبدو لي أنانية وانعدام مسؤولية، بل وحتى غير مُبالاة بالآخرين، ومدرك تمام الإدراك أن أغلبية الناس العازمين على الانتحار لن يمنعهم هذا السبب. أظنها على نحوٍ ما نوع من المُغالاة في الأنانية: فكرة أن الكون سيهتمُّ لموتي.


وسأضيف شيئا آخر. عند قراءة هذه الأخبار عن الأرواح المُحزنة والتائهة، يدهشني أنه لم تكن الحُجج الفلسفية أو الدينية الرئيسية ما أقنع الناس بعدم الانتحار – على الرغم من أنه في بعض الحالات يبدو أن الميتافيزيقيا قد نجحت في الحثّ على فعل العكس. بل توافه الأمور هي ما تجعل المرء يعدِل عن رأيه: نواقيس عيد الفصح عند غوته، و"سحابةٌ ضئيلة تتّشح الورديّ والرماديّ" لتشسترتون، وكأس النبيذ الذي يحتسيه ذئب السهوب الانتحاري لهيسه، متجنّبًا شفرة الحلاقة في المنزل هناك. ومثل تجربة غراهام غرين مع الروليت الروسي، تثير هذه التفاصيل لسبب ما شعورًا بـ "الاحتمالات اللانهائية" للحياة، والتي بإدراكها يبدو الانتحار حماقة سخيفة. ولكن يظلُّ لغزًا ذلك السبب الذي يجعل هذه الأشياء اليومية، والتي نعتبرها أمرًا مُسلًّمًا به، تبعث أحيانا إحساسًا غامضًا بالقيمة المطلقة للحياة. وربما إذا حلّيناه، فقد تتلاشى معظم أسباب الانتحار.