إشكال وجواب عنه، زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وهي صغيرة:

تمهيد:

إن مما أحدثته وسائل الاتصال الحديثة تصيير العالم كما قالو قرية صغيرة، وعلى الرغم من الإيجابيات لهذا الأمر فلم يخلُ من سلبيات شديدة الخطورة، فمن المزايا, تسهيل الأبحاث والدراسة عن بعد، وتسهيل التواصل العلمي، ومن العيوب الخطيرة رواج الأكاذيب والشائعات والشبهات، والتغلغل في المجتمعات لمحاولة العبث بثوابتها، وبالذات إن كانت تتعلق بالمعتقداتالإسلامية في مجتمعنا، وتتضاعف الخطورة من حيث شيوع الجهل بالدين لدى العوام، وتعرضهم لشبهات قوية في أسلوبها، هشة من داخلها، ومن دخل في معركة بلا سلاح لا شك أن الهزيمة من نصيبه، وخسارته تكمن في تزلزل أثمن ما لديه، دينه.

ومن تلك الشبهات التي تثار كل وقت زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي بما يسمى في القانون اليوم قاصرة حيث خطبت وهي بنت ست أو سبع وبنى بها وهي بنت تسع، وقد تجددت من بعض أحزاب الحزب الحاكم في الهند، وهي شبهة بدون تعصب باهتى تافهة، يتهمون فيها شخص النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية، ذلك لأنهم لم يستطيعوا إيجاد أمور جوهرية ينتقدون بها دين المسلمين، فصاروا يتعلقون بأهون خيط، وإن كان مثل خيوط العنكبوت.

ومن المؤسف أن تروج الشبهة عند بعض المسلمين، فلئن كان غير المسلم تغيب عنه كثير من حقائق الإسلام، أو أنه لا يتمكن من الوصول لمعرفة الإسلام لغياب أدوات التعرف، كاللغة مثلا، ف كيف يقبلها المسلم الذي قضى عمره في الإسلام، يستمع لكتاب الله وسنةرسوله صلى الله عليه وسلم؟ لكنها الهداية والثبات، وهما بيد الله عز وجل.

قالوا قديما: الذي بيته من زجاج، لا يرمي بيوت الناس بالحجارة، وإذا علم أن لهذه التصريحات من بعض أفراد الحزب الحاكم في الهند ليست لبيان حق أو إبطال باطل، بل هي متزامنة مع أحداث البطش بالمسلمين في كشمير وغيرها، فهي تصريحات سياسية قبل كل شيء، نظرا لأن المسلمين مهما كثر عددهم في شبه القارة الهندية فهم يمثلون أقلية تهدد الديانات الهندية، ومن عرف ثقافة الهند، علم أنها مبنية على خرافات وأساطير وتشيع فيها أمور مخالفة للفطر الإنسانية، على الرغم من براعة مشهودة في العالم للعقليات الهندية في التقنية الحديثة، فلماذا في معتقدات بعض طوائفهم مثلا تحرق المرأة مع زوجها؟ لماذا تكون البقرة التي ريحها بول وروث إلها يعبد، والبقر يتناكح، يلد ويولد ويموت؟ كيف يصدق المسلم تلك التصريحات الهندية التي أديانها وطوائفها أساطير في الجملة؟

وعلى أي حال، فهي شبهة يمكن الجواب عنها بجوابين, جواب للمسلم المرتاب بما عنده من إيمان، وجواب لغير المسلمين.


الحلقة الأولى, جواب الشبهة بتوفيق الله للمسلم

يقال للمسلم: أنت بحمد الله تؤمن بإله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، أول ليس قبله شيء، آخر ليس بعده شيء، ظىاهر ليس فوقه شيء، باطن ليس دونه شيء، أرسل رسلا يدلون الخلق عليه من أقرب الطرق بالوحي، ولم يترك الناس لعقولهم يتخبطون، ولا يعقل أيها المسلم أن يكون اختيار الرسل خبط عشواء، بل لا بد أن تكون لهم مواصفات خاصة تليق بالأمر العظيم الذي يدعون إليه، ويكونون مؤيدين بالآيات والبراهين التي تثبت صدقهم، وصدق ما يدعون إليه، فإن أي مطعن عليهم قد يكون سببا في الإعراض عما يدعون إليه، تأمل هذه القصة أيها المسلم، وهي من صحيح البخاري الذي أطبقت الأمة على أنه أصح كتاب في الإسلام بعد كتاب الله عز وجل، شهد بذلك أهل الاختصاص فضلا عن غيرهم، هذه القصة لهرقل عظيم الروم مع أبي سفيان رضي الله عنه، وكان إذ ذاك كافرا, ففي صحيح البخاري باب بدء الوحي ما نصه:

" عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ : أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا ، فَقَالَ : أَدْنُوهُ مِنِّي ، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ . فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ".

تأمل إلى هذه الإجراءات التثبتية الشديدة من ملك متدين بدينه عالم به، وتأمل كلام أبي سفيان في وصفه لحاله حين كان كافرا يحرص على أن يطعن على النبي صلى الله عليه وسلم بأي مطعن لدرجة أنه قال: " فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ"، مستعد للطعن على النبي  صلى الله عليه وسلم ولو بالكذب، وما منعه من ذلك إلا خوف أن يؤثر عنه كذب، وكان سيد قومه.

قال ابن عباس يحدث عن أبو سفيان رضي الله عنهما:

" ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ : كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَالَ : فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ . قَالَ : فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ قُلْتُ : لاَ قَالَ : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ : أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ : بَلْ يَزِيدُونَ . قَالَ : فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قُلْتُ : لاَ . قَالَ : فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : لاَ . قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا ، قَالَ : وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ"، هنا بيان شدة حرصه على أنه كان يحاول بأقصى جهده الطعن، وأذكر نفسي وأذكرك أنه كان كافرا مبغضا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم وحسن إسلامه، ما تمكن إلا من الطعن بهذه الكلمة، " قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا".

عودة إلى القصة: " قَالَ : فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ : الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ . قَالَ : مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْتُ : يَقُولُ : اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ".

أحد عشر سؤالا دقيقا من ملك متدين عالم بدينه، ترى، ما الفائدة من هذه الإسئلة؟

عودة إلى القصة:

" فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ : قُلْ لَهُ : سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا . وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ . وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلْتُكَ ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ . وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ . وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ . وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ . وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ . وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ . ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ : سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ " وَ { يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ . فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ".

لم يتمكن أبو سفيان رضي الله عنه في ذلك الوقت أن يطعن إلا بفكرة أنهم والنبي صلى الله عليه وسلم في هدنة لا يدري ما هو صانع فيها، على ذكره لحسن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، أما كان يستطيع أن يقول: (لكنه يتزوج القصر)، وما يستتبع ذلك من لوازم ابتدعتها العقول المعاصرة القاصرة بفهمها القاصر؟ هذه إذن شهادة ضمنية من رجل كان يعادي النبي صلى الله عليه وسلم على طبيعة ذلك المجتمع، وما كان متعارفا عليه في سن الزواج بما يتلاءم مع طبيعة الأجساد.

والمقصود إثباته أن الله عز وجل لم يرسل رسلا إلا بمواصفات خاصة مؤيدين بآيات تثبت صدقهم، وصدق ما يدعون إليه، من مثل: شرف النسب، حسن الخلق، وما أشبهها مما اجتهد هرقل عظيم الروم في التثبت منه بدقة متناهية تتناسب مع معايير التثبت في ذلك العصر، فلو كان الزواج ببنت التسع من المطاعن في ذلك العصر لذكرها الأعداء، ولوصل ذكرها لهرقل.

زكى الله لسان نبيه صلوات ربي وسلامه عليه فقال: {وما ينطق عن الهوى}، وزكى فؤاده فقال: {ما كذب الفؤاد ما رأى}، وزكى أخلاقه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، زكاه في معاملاته المالية فقال: {وما كان لنبي أن يغل}، زكى معاملته لأتباعه المؤمنين فقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم}، زكى أمانته في النقل فقال: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين}، دفع عنه الشبهات التي أثيرت حوله ومنها, {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}، {وما علمناه الشعر وما ينبغي له، إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين}، ومع علو منزلته عند الله كان الله عز وجل يعاتبه على بعض ما اجتهد فيه صلوات ربي وسلامه عليه، {عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى}، كان انشغال النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة رؤساء القوم، فبإسلامهم سيسلم خلق كثير، كما وقع ذلك للأوس والخزرج, فبإسلام سادتهم أسلم كثير منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مطمئن لإيمان ابن أم مكتوم، ومع هذا فعاتبه الله عز وجل على ذلك.

ومما عاتبه الله عز وجل فيه, {عفا الله عنك، لمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}، {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}، {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}، بل قال الله عز وجل عن أنبيائه بعد أن ذكر إنعامه عليهم: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}، {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}، فلو كان الزواج من بنت تسع سنين مما يخدش مقام النبوة، بما أنه يعد في زمننا هذا زواجا من قاصر فكرها محدود، لكان أول من نهى عنه الله عز وجل، وبالذات أن الله عز وجل بين أن الأصل في أفعال نبيه القدوة، إلا ما خصه به، تأمل هذه الآيات بالنسبة لموضوع الزواج, {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن}، إذن فمن الذي أحل له الزواج بمن نسميها نحن بمقاييس عصرنا قاصرا؟ قال الله عز وجل بعد ذلك: {وما أفاء الله عليك مما ملكت يمينك، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك}، تأمل قيد الهجرة معه، ثم قال الله عز وجل: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}، خصه الله عز وجل بهذا الحكم الأخير، ومع هذا لم يعلم عنه أنه تزوج امرأة وهبت نفسها له، لم يعرف في الإسلام إلا واقعة واحدة تأمل كيف تصرف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري وغيره، وهذا لفظ البخاري 2214 "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ رَجُلٌ : زَوِّجْنِيهَا ، قَالَ : " قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ ""

وفي رواية أخرى أكثر تفصيلا في البخاري, 4760 عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ " ، فَقَالَ رَجُلٌ : زَوِّجْنِيهَا ، قَالَ : " أَعْطِهَا ثَوْبًا " ، قَالَ : لاَ أَجِدُ ، قَالَ : " أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ " ، فَاعْتَلَّ لَهُ ، فَقَالَ : " مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ ؟ " قَالَ : كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : " فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ "".

فتأمل قوله" مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ "، ولو كانت التهمة وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها لكثرت الهبات والزيجات.

ثم قال الله عز وجل: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينكوكان الله على كل شيء رقيبا}، وهل يقصد بهذا الأزواج التسعة اللاتي توفي عنهن، أو الأصناف المذكورة في الآية السالفة من قوله تعالى: {يا أيها النبي إنا إحللنا}، إلى قوله: {خالصة لك من دون المؤمنين}، قولان.

ولك أن تتصور أيها المسلم حال الشهواني، وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عن تسع زوجات، وعرف أنه تسرى اثنتين, مارية القبطية، وامرأة تسمى ريحانة، وجميع النسوة اللاتي تزوج بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيبات، ما فيهن بكر إلا عائشة رضي الله عنها وعن سائر أمهات المؤمنين، والمسلك الشهواني الذي النبي صلى الله عليه وسلم منزه عنه يقتضي العكس, أن تكون الأزواج أو أكثرهن أبكارا.

ثم أيها المسلم، قصة تزويج عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم كان لها ملابسات، وثمرات، فمن ملابساتها ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه الكبير واللفظ لأحمد في مسنده بتحقيق شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون, 25769, "حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، وَيَحْيَى، قَالَا: لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ، جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: «مَنْ؟» قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا؟ قَالَ: «فَمَنِ الْبِكْرُ؟» قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: «وَمَنِ الثَّيِّبُ؟» قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، آَمَنَتْ بِكَ، وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ "، قَالَ: «فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ» ، فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ رُومَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: انْتَظِرِي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ، قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟ إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: " ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ: «§أَنَا أَخُوكَ، وَأَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ، وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي» ، فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: انْتَظِرِي وَخَرَجَ، قَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: إِنَّ مُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ قَدْ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، فَوَاللَّهِ مَا وَعَدَ وَعْدًا قَطُّ، فَأَخْلَفَهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَعِنْدَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ الْفَتَى، فَقَالَتْ يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ لَعَلَّكَ مُصْبِئُ صَاحِبَنَا مُدْخِلُهُ فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ: أَقَوْلُ هَذِهِ تَقُولُ، قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ الَّتِي وَعَدَهُ فَرَجَعَ، فَقَالَ لِخَوْلَةَ: ادْعِي لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَتْهُ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ خَرَجَتْ فَدَخَلَتْ عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: مَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُكِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: وَدِدْتُ ادْخُلِي إِلَى أَبِي فَاذْكُرِي ذَاكَ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ أَدْرَكَتْهُ السِّنُّ، قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَحَيَّتْهُ بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، قَالَ: فَمَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ، قَالَ: كُفْءٌ كَرِيمٌ، مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ؟ قَالَتْ: تُحِبُّ ذَاكَ، قَالَ: ادْعُهَا لِي فَدَعَتْهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ إِنَّ هَذِهِ تَزْعُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَرْسَلَ يَخْطُبُكِ، وَهُوَ كُفْءٌ كَرِيمٌ، أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: ادْعِيهِ لِي، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، فَجَاءَهَا أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ مِنَ الْحَجِّ، فَجَعَلَ يَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: لَعَمْرُكَ إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي فِي رَأْسِي التُّرَابَ أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ مِنَ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ بَيْتَنَا وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَنِسَاءٌ فَجَاءَتْ بِي أُمِّي وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عَذْقَيْنِ تَرْجَحُ بِي، فَأَنْزَلَتْنِي مِنَ الْأُرْجُوحَةِ، وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقَتْهَا، وَمَسَحَتْ وَجْهِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي حَتَّى وَقَفَتْ بِي عِنْدَ الْبَابِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفْسِي، ثُمَّ دَخَلَتْ بِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا، وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَجْلَسَتْنِي فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكِ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكِ فِيهِمْ، وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكِ، فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَخَرَجُوا وَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا، مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ، وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"، وسياق الطبراني مختصر.

قال ابن حجر في فتح الباري (7/225):

"وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ..."، ثم ذكر لفظ الطبراني.

ففي هذا الحديث أن الأمر كان اقتراحا من خولة بنت حكيم رضي الله عنها، وأنه خطب سودة رضي الله عنها، وفي السير وكتب الأحاديث أنه بنى بسودة أولا، ثم بنى بعائشة رضي الله عنها في المدينة، ولعل قائل يقول: هذا أمر طبيعي, إذ عائشة رضي الله عنها لم تكن تطيق البناء بها قبل ذلك، وهذا حق، لكن اختياره لثيب معها لا بكر تطيق البناء بها يفند شبهة الشهوانية المدعاة، زد على ذلك شهادة صريحة من خولة بنت حكيم تضاف إلى شهادة أبي سفيان رضي الله عنه الضمنية أن الدخول ببنت التسع كان مألوفا في ذلك الوقت، وإلا لطعن أبو سفيان بهذا على النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، ولما كانت اقترحت خولة رضي الله عنها ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وشهادة أبيها, أبي بكر من الشهادات القوية على العصر، حيث لم يكن لديه ولدى أمها أي تحفظ على موضوع السن، لم يكن إلا ظن أبي بكر أن العلاقة التي كانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم تمنع، وشهادة أخرى, خطبة المطعم بن عدي للسيدة عائشة رضي الله عنها لابنه، كان هذا هو الحرج الكبير عند أبي بكر رضي الله عنه، حيث كان في نفسه الوفاء للمطعم بن عدي.

ونظير ذلك أيضا ما روي في ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص, حيث جاء في ترجمته في سير أعلام النبلاء ج3، ص80-9=81 ما نصه:

" عبد الله بن عمرو بن العاص ( ع )

ابن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب الإمام الحبر العابد ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن صاحبه ، أبو محمد ، وقيل : أبو عبد الرحمن . وقيل : أبو نصير القرشي السهمي .

وأمه هي رائطة بنت الحجاج بنت منبه السهمية ، وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها".

هذا يدلك على طبيعة الأجساد ذلك الزمن، فلئن كان عمرو بن العاص ولد له عبد الله وكان عمره أحدى عشرة سنة أو اثنتا عشرة، فيا ترى، كم كان سنه حين تزوج؟

وفي الصحيحين وغيرهما واللفظ للبخاري 3326 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " §خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ "

وهو خبر غيب يؤمن به المسلم، يدل على تغير الخلق من لدن آدم، وقد وقع التغير في فترة العمر، فنوح عليه السلام كما في القرآن لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، هذا وقت الدعوة، ماذا لو حسبنا وقت ما قبل التكليف بالنبوة، وفترة الطوفان، وفترة ما بعد الطوفان، نقرن هذا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهد به الواقع بأن أعمار أمته من الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك.

لو كان الزواج من بنت تسع ذلك الوقت جريمة شنعاء، وطعنا في الأخلاق لكانت سببا في ردة بعض الناس، كما كانت واقعة الإسراء والمعراج التي لم تتحملها عقول بعض أهل ذلك الزمان سببا في شيء من ذلك، ولقد رد الله في كتابه شبه الطاعنين على كتابه ونبيه صلوات ربي وسلامه عليه، فلما لم يجر ذكر لهذه الشبهة علمنا أنها هباء من عقول هذا الزمان الذي يريد أن يحكم معاييره في زمن غيره، بينما هو يرى ما يرد عليه من إبطال لتهتكه أنه تخلف وعودة إلى الوراء.

وفي صحيح البخاري »كتاب مناقب الأنصار »باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها، 3681 عن عائشة رضي الله عنها قالت تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج فوعكت فتمرق شعري فوفى جميمة فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين

في الحديث إقرار الأنصار لعمر البناء بعائشة رضي الله عن الجميع، فأمر لم ينتقده الأعداء، ولا الأتباع هل يصح أن ننتقده بمعايير زماننا؟

وفي الحديث ذكر لعب عائشة رضي الله عنها، وهذا عند أقوام ينافي نضجها، وهوأمر لا يستنكر لمن كان قريب عهد بشيء يحبه.

وأما نظرها للعب الأحباش في المسجد يوم العيد فقد بينت رضي الله عنها ذلك بأوضح عبارة حيث جاء في السنن الكبرى للنسائي وغيره وهذا لفظ النسائي, 8902 عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: §دَخَلَ الْحَبَشَةُ الْمَسْجِدَ يَلْعَبُونَ فَقَالَ لِي: يَا حُمَيْرَاءُ أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ: «نَعَمْ، فَقَامَ بِالْبَابِ وَجِئْتُهُ فَوَضَعْتُ ذَقَنِي عَلَى عَاتِقَهُ فَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ» قَالَتْ: «وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبَا الْقَاسِمِ طَيِّبًا» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسْبُكِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَعْجَلْ، فَقَامَ لِي ثُمَّ قَالَ: «حَسْبُكِ» فَقُلْتُ: «لَا تَعْجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ» قَالَتْ: «وَمَا لِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ»

حكم عليه ابن القطان في أحكام النظر 360 بالصحة،وحيث ثبت ذلك فلا إشكال، بل هو دليل على نضج عقلها، حيث أحبت ما تحب الزوجة من الحظوة عند زوجها، حتى ولو كان على سبيل الغيرة، فالغيرة جبلة في النساء.

ومن أجل ثمرات هذا الزواج الذي امتد لتسع سنوات تقريبا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن حلت في الترتيب الرابع بين السبعة المكثرين من رواية الحديث فيما أحصاه العلماء، فبلغت مروياتها 2110 حديثا، وبالذات في أبواب لا ينازعها فيها غيرها من خصوصيات في البيت التي يحتاج المسلم للاقتداء فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، امتثالا لقول الله عز وجل: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من من آيات الله والحكمة}، من سيكشف حال تعبده وتلاوته في بيته إذا خلا مع أهله؟ من سيبين أحكام خاصة بالطهارة والغسل غير أهل النبي صلى الله عليه وسلم؟ 

وبالجملة فقد تبين بما تقدم أنه لا إشكال في زواج النبي صلى الله عليه وسلم ببكر ذات تسع سنين، ولا علاقة لهذا بما ينزه عنه جناب النبوة من الشهوانية ، حيث دخل بثيب قبلها، ولو شاء لاختار بكرا مثلها تصلح للبناء بها، بل كانت زوجاته ثيبات لا بكر بينهن إلا عائشة رضي الله عنها، وحيث لم ينتقد ذلك عدو شانئ، ولا صديق موافق يظهر أنه طبيعة ذلك العصر، بحيث لم يكن هناك إشكال، وبنات التسع يمكن البناء بهن، بل وثبت أنه كان بين عمرو بن العاص وولده عبد الله ما يقارب إحدى عشرة سنة أو ما قاربها، فدل ذلك على وجود النضج المبكر لدى الرجال أيضا، بل ثبت في صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب تزويج عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم المتقدم الذكر ما نصه, 3682 عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها أريتك في المنام مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك فاكشف عنها فإذا هي أنت فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه.

وفي صحيح مسلم أن تلك الرؤيا ثلاث ليال، فإذا أضفت هذا الحديث لقول الله عز وجل: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن}، علمت أنه قدر من الله عز وجل، ومن أسمائه العليم الحكيم، فهل كان الله عز وجل الذي عاتب نبيه فيما مر بك ليقر هذا الأمر لو كان فيه محظور صحي أو اجتماعي أو شرعي؟

إن المضي مع هذه الشبهة ليس استنقاصا من النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هو طعن في علم الله عز وجل وحكمته، فكأن الله عز وجل وحاشاه غاب عنه مفاسد زواج بنات التسع في عهد النبوة لنستدرك عليه نحن بمعايير زماننا فنسحب وضع بنات التسع القاصرات غير مكتملات النضج في عهدنا على عهد النبوة مع ثبوت تغير الخلق غيبا، وبالحفريات التي في كل فترة تأتي بالجديد، والغيب عند المسلم يكفي لليقين، أهذا مكان الله من نفسك ومكانة رسولك أن ترتاب بسبب هندوسي يعبد البقر، أو نصراني ادعى احتواء مخلوق على خالقه، أو علماني أو ملحد قصر عقله عن الإيمان بحقيقة الوجود، فلنتق الله، ولا نجعل ديننا عرضة للشبه، والله الموفق.