خلفت الدولة العثمانية وراها دمارا شاملا وخرابا واسعا في الولايات العراقية ؛ واستبشر البعض - من ابناء الشعب العراقي بالإنكليز- خيرا عندما جاءوا وخلصوا العراق من براثن الاحتلال التركي البغيض , واطلقوا مقولتهم الشهيرة : (( لم تأتِ جيوشنا إلى مدينتكم وأرضكم كغزاة أو أعداء، ولكن كمحررين )) .
هذا ما قاله قائد الحملة البريطانية الغازية لاحتلال العراق في عشرينيات القرن المنصرم { الجنرال مود } ؛ وللتميز بين التحرير والفتح ؛ فأن التحرير يعني : خلاص الشعوب من حكامها الظالمين او الغزاة المحتلين وتسليم السلطة لمواطني البلدان ؛ بينما الفتوحات تعني : احتلال البلدان بقوة السلاح ومصادرة ثرواتها واستغلالها خدمة للمحتل الاجنبي .
وكان هذا التصريح مجرد كذبة سمجة من اكاذيب الانكليز التي لا تنتهي , ولعل هذه القصة القصيرة التالية تكشف لنا حقيقة ومعدن السياسية البريطانية الخبيثة والساسة الانكليز اللؤماء : يروى ان رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل مر بقبر رجل كتب عليه :- ( هنا يرقد الرجل السياسي الصادق ) ؛ فقال : (( عجبت كيف يجتمع الاثنان في شخص واحد )) ؛ وكان يقصد بذلك ان الصدق والسياسة لا يجتمعان ابدا .
واليك بعض الجرائم التي رافقت الاحتلال البريطاني المشؤوم : (( ... وعن أوضاع سكان بغداد الأيام الأولى من الاحتلال، نقل البعض ما ذكره إدوارد تاننت ضابط سلاح الطيران البريطاني في وقتها عن بقاء أهالي بغداد في بيوتهم، وقد أغلقت الأسواق وهجرت، وتعرضت دكاكين كثيرة للنهب والحرق، وجرى تفتيش البيوت، طالبا من أهل المدينة أن يسلّموا ما لديهم من أسلحة وإلّا عوقبوا بالإعدام ؛ كما فرض حظر التجوال ابتداء من 8 مساء، ونصبت مشنقتان في ساحة مفتوحة، يعلّق فيها المحكومون بالإعدام ليراهم أهل مدينتهم ويدركوا جدية المحتل في قتل كل من يحاول مقاومتهم، على حد قول البعض ... ))
في البداية، كانت الإدارة عسكرية يدريها ضباط بريطانيون، ثم بدأ التحول إلى الإدارة المدنية بإجراءات تدريجية، وقد أرسلت بريطانيا مستشارين لتنظيم القوانين وتسيير شؤون البلاد حتى عام 1920، حيث تشكلت أول حكومة هجينة عميلة طائفية برئاسة العجوز الطائفي الخرف المجرم عبد الرحمن النقيب، وتكامل الأمر عام 1921 عندما جاء الملك الغريب فيصل الأول من الحجاز وبويع من خلال استفتاء شكلي مزيف لا يعبر عن ارادة واستحقاقات الامة العراقية – وقتذاك - وأصبح ملكا على البلاد.
وقد ارتكبت القوات البريطانية - المتكونة من الانكليز والهنود المجندين – جرائم عديدة ضد ابناء الامة العراقية ؛ ناهيك عن تصرفات المندوب السامي البريطاني أرنولد ويلسون، مما أثار العشائر العراقية في جنوب و وسط العراق عام 1920 اذ اندلعت احتجاجات عديدة ضد البريطانيين غرب بغداد وامتدت إلى جنوب البلاد وشمالها، بسبب التصرفات الهوجاء لبعض القادة والجنود البريطانيين، وبدأت المطالبات بتشكيل حكومة وطنية .
وتجنبت القوات البريطانية أول الأيام دخول المدن المقدسة، ولكن بعد مدة دخلوها فحدثت مقاومة داخلية وتشكلت جمعيات المقاومة التي بدأت تتحشد وتقوى بشكل تدريجي، و بدأ العمل الثوري بالسر، ثم تطور فكانت انتفاضة النجف عام 1918 والتي سقط خلالها الكثير من الضحايا، وكانت بقيادة دينية وعشائرية في النجف وقيادة فكرية في بغداد، وكانت هذه مقدمة لثورة عام 1920.
وعلى الرغم من عدم استمرار ثورة العشرين أكثر من 6 أشهر فإنها حققت نتائج مهمة، منها تراجع بريطانيا عن خططها الخبيثة وقبولها ببعض المقترحات ، الا انها اضمرت الحقد الدفين ضد الاغلبية العراقية منذ تلك اللحظة ؛ و أشاحت بوجهها عن العراقيين الاصلاء , وتواطئت مع الفئة الهجينة والاكراد ضد العراق والعراقيين الاصلاء , واكملت المسلسل العثماني التركي في احداث تغييرات ديموغرافية دينية وطائفية وقومية وعنصرية من خلال توطين الغرباء والدخلاء في بعض مناطق العراق والادعاء بكونهم عراقيين فيما بعد .
ولان بريطانيا أدركت أنه ليس من السهل السيطرة على العراقيين الاصلاء كما حدث في الهند ومناطق أخرى ، حيث رأت تصميم الامة العراقية على الاستقلال ومقارعة المحتلين والاجانب ؛ عمدت الى خداعهم من خلال تشكيل حكومات عميلة حاقدة تأتمر بأوامرها .
واتبعت بريطانيا في العراق عدة سياسات منكوسة هدامة على الرغم من اختلاف الانظمة السياسية المتعاقبة واختلاف شخوصها , ومن هذه السياسات : ( سياسة حرمان العدو ) اذ عمدت بريطانيا عن طريق عملاءها في العراق – حكام العراق المنكوسين – الى تجويع وافقار مناطق الوسط والجنوب العراقي انتقاما منهم بسبب ثورة العشرين والمقاومة الشرسة لهم ابان محاولات دخولهم للعراق في بدايات القرن العشرين ؛ وقد تجلت هذه السياسة اللعينة في عهد المجرم صدام , اذ مات مئات الالاف من العراقيين الاصلاء ولاسيما الاطفال بسبب الجوع والمرض وسوء التغذية في عقد التسعينات .
بالإضافة الى انه قد ترك منطقة رخوة في البلد يمكنه استغلالها في أي وقت، مثل المشكلة الكردية وكذلك الكويت والتي تشبه مشكلة كشمير بين الهند وباكستان .
كما زرع البريطانيون في نفوس العراقيين فكرة التعليم من أجل التوظيف وليس من أجل المعرفة ، وكذلك التبعية الاقتصادية والسياسية، وعدم اتخاذ القرارات الوطنية المستقلة وبناء العلاقات الايجابية المثمرة إلا بعد أخذ الإذن من الحكومة البريطانية يعني التبعية والذيلية والانبطاح .
وكذلك اتبعت سياسة ( فرق تسد ) فقد شجعت الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية والقومية والفئوية والحزبية , وعملت على تصعيد الصراعات بين الشخصيات السياسية العراقية .
ولعل اخطر سياسة انتهجتها بريطانيا الخبيثة هي تمكين الاقليات الهجينة – من الحكم - والتي لا ترتبط بروابط وشيجة بالأمة العراقية العريقة وتاريخها وعاداتها وتقاليدها .
ومع كل تلك الجرائم البريطانية البشعة ضد الامة العراقية والتي ملئت صفحات التاريخ يدعي بعض المنكوسين : أن البريطانيين فعلوا أشياء عظيمة للعراق ، اذ أقاموا سككاً حديدية، أسسوا نظاماً بريديا... الخ ؛ والرد الحتمي على هذا الادعاء : لقد فعلوا هذه الأشياء لخدمة أغراضهم الخاصة، وتركوا العراق بلداً فقيراً منهوبا متخلفا ؛ وقد صرح المندوب السامي البريطاني عام 1920 عقب ثورة العشرين : (( ... يجب ان تذهب ثروات هذه البلاد هدرا مع نهري دجلة والفرات الى الخليج – المياه المالحة - ... )) وقد صدق هذا الانكليزي الخبيث وهو الكذوب فيما وعد به ؛ فمنذ ذلك الوقت والى يومنا الراهن ثروات العراق وخيراتها تذهب هدرا .
وبعد اكثر 100 عام من التدخل البريطاني الخبيث ؛ لا زالت بريطانيا تراهن على افشال المشروع الامريكي في العراق وتحشر نفسها في كل صغيرة وكبيرة , حتى الجنود البريطانيين الذين دخلوا العراق ضمن قوات التحالف الدولي لإسقاط نظام المجرم صدام طالما صرحوا امام المواطنين العراقيين بانهم ضد التجربة الديمقراطية الجديدة والمشروع الامريكي في العراق ؛ وبأن الامريكيين لا يعرفون المجتمع العراقي وسيغرقون في المستنقع العراقي ... الخ .
وبسبب الجبهات العديدة التي يفتحها الامريكان على انفسهم في مختلف اصقاع الارض ؛ سلم الامريكان في البدء الملف الثقافي والاعلامي العراقي للبريطانيين ؛
وفي ليلة وضحاها تحول الاعلام بمختلف وسائله المرئية والمسموعة والمكتوبة وبجيوش جرارة الكترونية وغيرها واقلام مأجورة وقنوات فضائية منكوسة ... الخ الى اعلام يمجد بالحكومات الهجينة الطائفية المتعاقبة من عام 1921 والى 2003 ويبيض صفحاتها السوداء ويبرئها من كافة المجازر والجرائم والانتهاكات مع التأكيد على تشويه سمعة الرجال الوطنيين وافشال المشاريع العراقية التنموية وعرقلة مسيرة النهوض والتطور المرتقبة ومحاربة كل صوت وطني عراقي اصيل , واسكات كل الاصوات الوطنية او تلك التي تحاول كشف المستور والمؤامرات الاستعمارية التي تهدف الى نهب خيرات وثروات العراق بواسطة عملائها المرتزقة ولعل حادثة مقتل الدكتور احمد الجلبي من قبل البريطانيين عندما اراد كشف الحقيقة للامة العراقية من الادلة على ذلك .
وتناهى الى سمعي ان الامريكان وبسبب انشغالهم بالأزمة الاوكرانية وغيرها ؛ سلموا الملف العراقي بكل تفاصيله الى البريطانيين مع بقاء الامريكان كلاعب مهم او رئيسي في الساحة العراقية .
وهذا الامر الجلل يعني ان عقارب الساعة سوف ترجع الى الوراء , وان العراقيين الاصلاء سوف تمتلئ بهم السجون والمعتقلات ويتعرضون لأبشع صنوف التعذيب , ويحرموا من التوظيف في دوائر الدولة وان عينوا في احدى الدوائر فأن الراتب لا يساوي سعر طبقة بيض , او يوظفوا في وظائف هامشية , وترجع (( ريمه ال عادته القديمة )) حيث الجوع والحرمان والعوز والركض خلف ( الخبزه ) وتمني اكل الفواكه او السفر او اقتناء السيارة الحديثة ... الخ ؛ فالبريطاني الان يتجرع الحنظل والسم الزعاف عندما يرى ان 70 بالمية او اكثر من موارد الدولة العراقية تذهب للعراقيين , فمبلغ 5 مليار دولار رواتب للعراقيين مع مبلغ 2 مليار تشغيلية للوزرات العراقية شهريا ؛ يعد جريمة بنظر البريطانيين الذين ساموا الامة العراقية الامرين واذاقوا الامة العراقية مرارة البؤس والجوع والعوز والحرمان .
وعليه ان غدر البريطانيون بالعراقيين الاصلاء وتنكروا للامة العراقية كعادتهم المعروفة واسقطوا التجربة الديمقراطية والتداول السلمي في العراق ومكنوا الاقلية الهجينة والدخلاء والغرباء من الحكم والتسلط مرة اخرى ؛ لابد من انتفاضة عراقية كبرى لاستئصال كل ما هو بريطاني في العراق ؛ حتى المؤسسة الدينية المنكوسة والمرتبطة بالإنكليز ؛ بل وضرب كافة المصالح البريطانية في العالم .
# رياض سعد