تهافت اللاقرآنيين مقالات قديمة كتبتها وأعيد نشرها كاملة مجتمعة.

تهافت اللاقرآنيين ١:

أكرر دوما أن الخطر المستطير والشر المستديم على العاملين للإسلام وأهله هو دخول الفكر الخارجي فيهم.

وقد حددت الفكر الخارجي من قبلُ بسيمتين أساسيتين فيهم وهما:

١) التكفير بالكبائر، وهذا الفكر المكفراتي المعروف.

٢) التكذيب بالسنة، الذي كان نابعا من الخوارج الأصليين بسبب تكفيرهم للصحابة، أما الان فهؤلاء هم اللاقرآنيون أو ما يسمى بالقرانيين وفقا للتسمية على الضد.

ولا شك أن في الفكر الخارجي مشتركات كثيرة كالحدية في التفكير وانعدام الاجتهاد، حيث أن هناك جواب واحد على كل سؤال، وكل شيء قطعي عندهم إما إثباتا أو نفيا، وأيضا قلة الأدب والبعد عن التراث وغيرها من صفات يشتركون فيها كلها تنبع من الفكر الخارجي القديم.

وقد كررت الكلام عن الخوارج المكفراتية ولكن قلما أشير إلى نقض أصول الخوارج اللاقرآنيين، بالرغم أنهم لا يقلون خطرا عن اخوانهم في هدم الإسلام سوى أنهم لم يوغلوا في الدماء بعدُ.

وإن هؤلاء الخوارج اللاقرآنيين يتمركزون في كل مكان في العالم بيد أن صوتهم يُسمع عاليا في دول الحرية كأوربة وقطر ولازالوا في السعودية تحت مسميات عديدة مخفية.

وسأخصص بعض المقالات لتبيين تهافت منهجهم اللاعقلي وأنه منهج قد يفضي للإحاد بامتياز، ولست في هذه المقالات مدافعا عن رأي ما وإنما فقط أبين عوار منهجهم وتهافته وسيكون الكلام عن أصولهم التي تكلموا فيها كثيرا وبالله التوفيق.

تهافت اللآقرانيين ٢:

إن أول ما يجب أن نعرفه هو من هم هؤلاء القوم وما ضابط معرفتهم؟

فأقول مستعينا بالله: إن اللاقرآني هو الذي يجعل القرآن حكما على السنة.

نعم فهذا هو اللاقرآني وليس هو مجرد من ينكر السنة، بل الذي يحاول أن يأخذ الأحكام من القران فقط دون تصحيح فهمه من خلال السنة.

وهذا هو ضابط أهل السنة والجماعة، فكل خلافاتهم -كما يتبين للمتدبر الذكي- مع الفرق المبتدعة الاخرى قائمة على تفسير القران بمعزل عما جاء في السنة. ولذلك قال العلماء: السنة قاضية على الكتاب أي مبينة له، والفهم ينتهي بالسنة لا بالقران ذاته، فهو حمال أوجه ولا يُفهم إلا بوضعه بموضعه من خلال السنة، والتي هي التطبيق والفهم الصحيح للقرآن، ولذلك ترى أن الإمام الشافعي فسر السنة بالحكمة استنباطا من قوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا). واللاقرآني يظن بذلك أنه ينافح عن القرآن ولا يعلم أنه يخالفه، فقد صرح القرآن في كذا موضع بوجوب اتباع النبي الأمي لأنه مبين ومبلغ عن ربه والتبيان دائما يكون قاضيا على الأصل. ولذلك من يقول بأنه يأخذ من السنة ما وافق القرآن، فهو مكذب للسنة لأن فهمه معكوس فهو يقدم فهمه هو على القرآن وليس يقدم القرآن على السنة.

وهنا لابد من التنويه أن هناك من الفقهاء من يُظن أنهم ينكرون السنة، وهذا غلط وإنما من الفقهاء من يختلف بالتأويل والشرح للآيات والأحاديث في مجال الإجتهاد وهذا لا يعد منكر للسنة، فالفقيه يأخذ من الكتاب والسنة ليكون في ذهنيته كليات فقهية يسير عليها، فقد يقف في بعض الأحاديث والكلام فيها إلتزاما بالكليات التي بناها من الكتاب والسنة.

تهافت اللآقرانيين ٣:

الأصل الأول عند هؤلاء الإخوة هو أن القرآن والقرآن فقط، لا نقدم عليه شيء لا حديث آحاد ولا اجماع علماء، وحجتهم في ذلك أن القران منقولٌ إلينا بالتواتر وأن الله تكفل في حفظه.

انظر -يا رعاك الله- إلى الاستدلال الخاطئ المقلوب، فهم يحتجون على القرآن بالقرآن نفسه وأن الله نص على التكفل بحفظه؟! ولا أعرف كيف يصح أن نثبت عقلا الشيء بالشيء نفسه! هذا أولا.

وثانيا: إن صح عند القوم قبول التواتر في الأحكام فمن باب أولى قبول الإجماع الذي يعد أشد قطعية من التواتر، بيد أن القوم نفسهم ينكرون حجية الإجماع أصلا ولا يؤمنون بها بالرغم أنها حجة عقلية قبل أن تكون شرعية.

وثالثا: إن قلنا لهم أثبتوا أن القران ثابت لم يتغير منذ نزوله، قالوا لنا: قصة جمعهِ زمن أبي بكر وزمن عثمان وهذه روايات تاريخية لا ترقى لأن تكون روايات متواترة فانظر إلى التهافت في الاستدلال وهم من ينال من روايات الآحاد وينكرها ويستهزئ بها.

على أنه لابد من التنبيه أن التواتر يعني أن يتفق عدد معين على أمرٍ ما يستحيل أن يكون بينهم تواطؤ على هذا الاتفاق. وليس التواتر هو فقط أن نجمع روايات لقضية ما تصب في نص واحد، ولذلك حين نفهم هذا التواتر نعرف أن أغلب أحكام الإسلام متواترة فمثلا المسح على الرأس في الوضوء مختلف بقدره ومقداره في المذاهب لكنه متواتر في أصل المسح. لذلك ما يكون مختلفا فيه يجب التمييز في شأنه هل الاختلاف في أصله أم فرعياته؟ والله أعلم.

تهافت اللاقرآنيين ٤:

تكلمت في المقال السابق عن خطأ حجج اعداء القرآن ومدى تخبطهم في إثبات القرآن من خلال الإجماع والروايات التاريخية ثم بعد ذلك تجدهم ينكرون السنة المحققة ويستخفون بدليل الإجماع.

ولابد من أن انبه هنا إلى أن قضية أحاديث الآحاد والمتواترة باتت جزءً من التاريخ كقولنا مدرسة أهل فقه وأهل حديث، ولكن حينما استقرت العلوم وكتبت ومحّصت وحققت الأحاديث وثبتت العقائد فلا فائدة ضرورية تبقى في معرفة المتواتر من الآحاد، وكل حديث موجود في كتب الصحاح يُبنى عليه عقائد وفقه ولا ضير في ذلك لأن تسجيل الحديث في كتب الصحاح لا يمتاز بتصحيح مقيده فحسب بل يمتاز أيضا بتناول الأمة له تحقيقا وتعليقا ونقدا. والمقصد من هذا الكلام كله هو التنويه إلى أن القول بظنية أحاديث الآحاد في عام ١٤٣٧هـ، هو قول سخيف جدا وذلك لأن الظنية هذه تزول بعد التحقيق الذي تم جيلا عن جيل، ولا يبقى إلا معرفة منازل العقيدة ومنازل الأحكام من خلال الأدلة الأصلية لها.

أما في هذا المقال فسأبين مدى تهافت هؤلاء القوم في قضية إنكارهم للنسخ في القرآن، وعلى الرغم من أن النسخ قضية أصولية بمعنى لا يناقشها أي أحد إلا إذا دخل من باب الأصول، إلا أني سأغض الطرف عن ذلك وادخل في تهافت دليلهم هداهم الله.

يقولون: كيف يجوز أن يكون هناك نسخ في القرآن والقرآن كلام الله وكأن الله يغير رأيه وكلامه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

نفهم من قولهم هذا أنهم ينكرون جواز النسخ في القرآن ولا ينكرون وقوعه، فهناك من الفقهاء المعاصرين ممن أنكر وقوع النسخ بمعنى أنه سبر الآيات التي أُدعي أنها منسوخة فوجدها ليست كذلك فأنكر وقوع النسخ، وقول الفقيه هذا معتبر منه لكونه فقيه، وما قضية النسخ إلا قضية أصولية فقهية يستطيع الفقيه أن يبني فيها مصطلحاته ومفاهيمه، ومع ذلك فجميع هؤلاء الفقهاء الذين شذوا في مصطلحهم لا يوجد منهم من ينكر السنة وحجيتها كما يفعل الإخوة.

أعود لمن يسمون بالقرآنيين لجدالهم بالتي هي أحسن عن موضوع جواز النسخ وأقول لهم: ألم يصرح تعالى بالنسخ في القرآن فقال: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسهى...)؟ فإنهم يردون -بتعجلٍ وتكبرٍ- أن المقصود بالنسخ هنا هو نسخ الأديان!

فانظر إلى هذا الجهل المركب وكأن الأديان ليست من عند الله منزلةً أيضا؟ فهل يصح أن نقول عنه تعالى أنه غير رأيه بتغييره للدين من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن جاز نسخ الأديان جاز نسخ القرآن كما جاز نسخ آية الليل والنهار فكلها آيات الله. وما أقل أدب من يتأله عليه سبحانه ويوجب عليه الواجبات.

إن النسخ في القرآن موجود يقرره العلماء وليس هو كما يفهمه الجهلة تعطيلا للآيات الكريمات وإنما هو كما عرفه العلماء بقولهم: رَفْعَ حُكم متأخر بدليل آخر متراخٍ عنه، فليس معنى ذلك تعطيل للآية إنما لحكمٍ موجودٍ في الآية ويستنبط منها فقهيا، وحكمةُ ذلك أن الله تعالى يُعلّم ابن ادم قانون النسخ فإن لم يرتقي هو للأفضل فإن غيره سيتطور وينسخه، هكذا فلسفة النسخ تكون للأفضل دوما كما فعل القرآن نفسه ليربي أتباعه، ومثال النسخ آيات الخمر نستنبط منها التدرج ولكن لو وقف القرآن عند أول آية (يا أيُّها الذينَ ءامنوا لا تَقرَبوا الصلاةَ وأنتُم سُكَارَى حتى تَعْلَموا ما تقولون)، لما كان هذا تحريما للخمر ولكن الحكم المفهوم من الآية نسخ بعد ذلك، مع بقاء الآية وجواز استنباط حكما آخر منها فهي ليست معطلة كحكم التدرج مثلا.

وفي هذا المقال الكلام عن أهم أنواع النسخ، وذلك لما فيه تأثير يُبنى عليه، أما الأنواع الأخرى فليست ذات أهمية.

تهافت اللاقرآنيين ٥:

في المقال السابق انصب الكلام على قضية إنكار النسخ بالحجة العوجاء لمخالفي القرآن، وقد رددت الرد الذي يبين مدى التهافت العقلي عندهم وكيف أن ذلك يقود للإلحاد والتكذيب بالقرآن نفسه. وهناك من يتحجج بأن البعض قال أن آية واحدة نسخت أربعمئة آية!؟، وفي هذا القول ينطبق المثل: وكم من عائبٍ قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيمِ، ولو كلف هؤلاء الإخوة أنفسهم عناء البحث لوجدوا تفسير مثل هذه الأقوال عند أهل العلم المعتبرين فالنسخ في تلك العبارة المقصود منه التخصيص وليس الإزلة كما بين القاسمي والدوسري في تفاسيرهم وغيرهم.

وفي هذا المقال (قبل الأخير) اتكلم عن آخر أصول هذه الطائفة، وهو حجة السياق القرآني، فتراهم كلما أعطيناهم آية من الآيات أنكروا ما يستنبط منها بحجة السياق، فإن ذكرنا لهم قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر) قالوا: إن سياق الاية هنا عن بني اسرائيل ولا علاقة له بالعلماء. وهكذا دواليك في نتف الآيات الحكيمة وما يستنبط منها تحت حجة السياق.

والرد في هذا الأمر سهل إذ أن (القرآن يؤخذ كله لكله)، بمعنى أن القرآن بآياته المجتزأة يفهم وأيضا من خلال السياق ولذلك فالدكتور محمد دراز يبين هذا الأمر بكلامٍ بين فيقول:

(إن التفقه بالقرآن ينبغي أن يكون على ثلاث مراحل متصاعدة لا تستقدم واحدة منها عن موضوعها ولا تستأخر.

١) فهم مسائل القران مسألة مسألة، والتفقه في أمرها ونهيها، وحلالها وحرامها، ومواعظها وعبرها، ثم التحلي بآدابها، والوقوف عند حدودها.

٢) النظر في جملة مسائل السورة على أنها أجزاء من وحدة مستقلة يرتبط بعضها ببعض في نظام واحد، ويأخذ كل منها في هذه الوحدة وضعا معينا يناسبه.

٣) النظر في مجموعة سور القرآن على أنها أبواب من ديوان واحد قد قصد إلى ترتيبها فيه على هذا النحو.)

وهذا هو عين العقل، فالكليات لا تفهم إلا من خلال معرفة الجزئيات، والأصول لا تُعرف إلا بالفروع.

والتهافت الواضح في قول هؤلاء القوم هو أنهم عابوا على علماء الأمة تعطيلهم لآيات القرآن حسب فهمهم للنسخ، والان هم مارسوا ذات الأمر إذ جعلوا أحكام القران تجتمع كلها في ١١٤ حكم ففي كل سورة نأخذ حكما واحدا من خلال ما يتضح من سياق ومساق فأي تعطيل للذكر الحكيم بعد هذا التعطيل وإن لم يصرحوا بذلك؟!

عوضا أن الإجتهاد سيكون بابه مقفول كليا.

تهافت اللاقرآنيين (الأخير):

قدمت الكلام في المقالات الخمسة السابقة عن موضوع أصول اللاقرآنيين وهي:

١) القران قاضٍ على السنة وليس العكس كما قرر أهل الإسلام قاطبة.

٢) إنكار جواز النسخ في القران.

٣) التحجج بالسياق القراني لنفي أحكام الآيات.

فهذه هي أصول هؤلاء القوم التي يعتمدون عليها في باسم تجديد الإسلام والمحافظة عليه.

ولعل من قرأ المقالات السابقات يظن أننا ضد إحياء الإسلام والبحث عن مقاصده والتجديد في فهمه، وكأننا من خلال المكتوب نظن أن الإجتهاد قد انتهى ولابد من الجمود على ما كتبه العلماء.

وهذه دعوى عريضة يقولها هؤلاء الإخوة -دوما- لخصومهم ممن يدافعون عن الإسلام وأصوله، ولذلك أقول لهم مستعينا بالله وحده:

إن الإجتهاد والتجديد في الإسلام لا يقتضي هدم ما سبق بل تتمة البناء وترميم ما فسد، ومن زايد علينا بالتعلق بالقران نجيبه بأن من علماء الإسلام من درس القران بعدة طرق سأذكرها ومع ذلك لم ينزل مستواه للنيل من السنة المباركة ومن تلك الدراسات:

١) في ظلال القران لسيد قطب فقد فسر القران تفسيرا وكأنه ينظر إليه يتنزل على مسرح وطبق فيه نظرية التصوير الفني، ومع ذلك فقد اهتم بقضية الوحدة الموضوعية للقران وأتم ما بدأه عبده ورضا.

٢) الأساس في التفسير لسعيد حوى، فبالرغم من الميزات الكثيرة في هذا التفسير إلا أنه لم يغفل بل وإن لُب حديثه كان عن الوحدة القرانية وتناسب الايات فيما بينها.

٣) معارج التفكر ودقائق التدبر لعبدالرحمن حبنكة، قد تناول فيه تفسير القران حسب ترتيب النزول -وعلى الخلاف في هذه المنهجية- إلا أن الشيخ قد أحسن ذلك وفسر نصف القران او القران المكي.

٤) أضواء البيان في إيضاح القران بالقران للأمين الجكني، فسر فيه القران بالقران.

وهناك تفاسير عديدة اهتمت بالقران ذاته وهو ما يدعو إليه دوما اللاقرانيين وبسبب كسلهم لم يعرفوا هذه المؤلفات.

وكل هؤلاء الأعلام وغيرهم بما أبدعوا وجددوا واجتهدوا في تفسيرهم إلا أنهم لم يدعهم ذلك لإنكار حجية السنة وادعاء الاكتفاء بالقران فحسب.

والحمدلله رب العالمين.