قال الله تعالى : (( فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منها وطراً وكان أمر الله مفعولا )) الأحزاب :5
نزلت هذه الأية على صدر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لبيان حكم الإسلام من زواج الأب من زوجة الابن بالتنبي ، فأمر الله سبحانه وتعالى بأن يتزوج بزينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة رضي الله عنه – ابنه بالتبني- بعد أن طلقها ، لتصحيح ذلك المفهوم السائد لدى العرب قديما فقد كان العرب يعتقدون أن آثار التبني هي نفس آثار البنوة الحقيقية ، ويعامل الابن بالتبني كالابن الحقيقي تماما من دون فرق ، واختص الله سبحانه وتعالى بذكر اسم زيد في هذه الاية تشريفا وتكريما له بل أنه من بين مائة ألف صحابي حجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الوداع لم يرد في القرآن اسم صحابي باسمه الصريح إلا اسم زيد بن حارثة – رضي الله عنه – مما دفعني هذا الأمر إلى أن أقرأ عن سيرته وقصصه و جعلني أكتب هذا المقال .
فتلك العناية الربانية التي احتضنت هذا الصحابي الجليل منذ كان صغيرا ،بدأت قصته حين بلغ الثامنة من عمره حيث كان بصحبة أمه في زيارة لأهلها فخطف وأسر وسُلبت حريته ، ولم يعلم حينها ماذا سوف ينتظره ، طلبت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد من ابن أخيها حكيم بن حزام أن يشتري لها غلاماً وهو ذاهب إلى سوق عكاظ ، شاءت الأقدار أن يشتري حكيم زيداً، أهدته فيما بعد إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – فأصبح خادما ومولى له ، مضت الأيام وفي موسم الحج رآه بعض أقاربه فتعرفوا عليه وعادوا إلى ديارهم فأخبروا أباه ، فأتى والده مع عمه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له النبي : ” إخترني أو اخترهما ” ” فقال: ” ما أنا بالذي أختار عليه أحداً. وإني يا أبي رأيت من ذلك الرجل الشيء الحسن فما أنا بمفارقه ” فاستبشر قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سمعه من زيد ، فصعد على حجرة أمام الكعبة فقال : ” يا أهل قريش اشهدوا، هذا زيد ابني يرثني وأرثه ” فأصبح حينها يعرف بزيد بن محمد وكان يحظى رضى الله عنه بمكانة عظيمة لدى النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث لقبوه بحِب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصبح ينادى بزيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين وكان اللّه بكل شيء عليما} الأحزاب :40 وقوله تعالى: {إدعوهم إلى آبائهم هو أقسط عند الله } فُدعى يومئذ بزيد بن حارثة ، ونسب كل من تبناه رجل من قريش إلى أبيه . كما قدر الله سبحانه وتعالى بأن يتزوج زيد بن حارثة بابنه عمة النبي – صلى الله عليه وسلم – زينب بنت جحش الأسعدي -رضي الله عنها- والتي رفضته في بادىء الأمر ولكن قبلت تصديقا لقول الله تعالى : {ما كان لمؤمن أو مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ، أن يكون له الخيرة من أمره ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاُ مبيناُ } ، كانت زينب تجد في نفسها أنفاً على زيد بكونها قريشة وبنت سيد وزيد بن حارثة مولى ، فعيرته ذات يوم ، فاشتكى زيدا للنبي قكان يأمره ويرشده بأن يصبر عليها ويقول : (( أمسك عليك زوجك وأتقِ الله )) ، ولقد أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن زيد سوف يطلق زينب وسوف يتزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – فشق ذلك على النبي فكتمه فأنزل الله تعالى قوله : {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما كان الله مبدئيه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول: “ لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية ” ومن هنا تفهم ان الله ذكر اسم زيد هنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث زيد بعد ما أن طلق زينب أن يخطبها له ولك ان تتخيل وأن تتصور صعوبة هذا الأمر ، رجل يخطب أمراته السابقة لرجل آخر!
هذه الأمور التي فقدها زيد وصبر ورضي بما كتبه الله عندما فقدها هي التي جعلت اسمه وقصصه تذكر في القرآن ، فقد كان رضي الله عنه يدعى زيد بن محمد ، فأصبح يدعى بزيد بن حارثة وحٌرم من أعظم اسم وهو زيد بن محمد فكونه ينادى زيد بن محمد شرف عظيم ناله هذا الصحابي الجليل – وأي شرف أعظم من هذا الشرف – وكأن ذلك التاج الذي كان يعلوعن مفرق رأس زيد نزع منه ، وكان أبضا زوجا لزينب ، فلم يعد زوجا لها ، حُرم من ذلك كله فصبر ورضى بقضاء الله وقدره فعوضه الله سبحانه وتعالى بأن يذكر اسمه في القرآن ، وتذكر قصته حتى قيام الساعة ، وهذا تعويض الله لزيد في الدينا أما في الآخرة فقد استشهد زيد بن حارثة في غزوة مؤتة -رحمه الله – ولما بلغ رسول الله خبر استشهاد زيد بن حارثة، مع جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه قام وذكر شأنهم فبدأ بزيد فقال: ” اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد “. وقال له أصحابه: ” يارسول الله مارأيناك تبكي شهيدا مثله ” فقال: ” هو فراق الحبيب لحبيبه “. وكما قال – صلى الله عليه وسلم- دخلت الجنة فإذا بجارية شابة ملساء الشافتين ، قلت لمن هذه قالت: أنا لزيد بن حارثة .
ما نستبطه من قصة زيد بن حارثة – رضى الله عنه – هو إن الإخلاص والصبر والرضا على أقدار الله ومصائبه وتقديم أمر الله ورسوله فوق كل أمر وحسن الظن بالله واحتساب الأجر عند الله هي من أعظم الأمور التي يجزي الله بها عباده أعظم الجزاء في الدينا والآخرة .
يقول عالم الدين المصري فضيلة الشيخ د. عمر عبد الكافي : ” إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلها على النفس فاتبعه ، فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا ” وقد وجدت هذا الأمر حقا في قصة زيد بن حارثة – رحمه الله – ، فالذي يصعب علينا فعله هو الأجدر منا بأن نقوم به فأعصي هواك وعليك السلام !