غرامياتها ( أ – ب ) :
لم يُقدم لنا التاريخ أيّ إشباعٍ مُفصّلٍ عن أولئك الذين كانوا ينتابون مجلس ولاّدة الأدبي ؛ أو عمّن قد حاموا وهاموا : عشقاً وغراماً بهذه الفراشة المضيئة ؛ وإنّما هو - أعني التاريخ - قد اكتفى بذكر الأعيان من الأدباء والكبراء .
ولا ريب من هذا المضمار ؛ بأنّ الكفاية التي قد اختارها التاريخ ، إنّما كانت لأشهرهم وأذيَعِهم ؛ وهما الوزيران الرفيعان : ابن زيدون وابن عبدوس . ولذا فإنّا هنا سنخصصهما بشيء من المطالعة الشخصية ، والتركيز الأدبي .
( أ )
يُعد الوزير الأندلسي ، والأديب الشاعر القرطبي " أبو الوليد : أحمد بن عبدالله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي القرطبي " : هو دليلُ ولاّدةَ الذي قد مرّ على التاريخ بِها ، وجَمرُ عَنْبَرِها الذي تَضَوّعَ مِنْهُ عَبِيرُها ، وقَرينُ مَحبتِها الذي ذَاعتْ منه رِقْتُها ؛ فإن كان قيسٌ وجَميلٌ : لليلى وبثينة في الشرق ؛ فإنّ ابن زيدون هو توأمُ الذِكر لولاّدة في الغرب .
وقد برَعَ هذا الفتى المخزومي في نظم الشعر ، وترتيب النثر ، ورسم الجمال ، حتى بلغ الغاية المثلى ، والطريقة الأوفى . وما أحسن ما قد سلكه فيه ابن بسّام من سجع كلام ، وانتظام مثال ، عند وصفه لأدبه ومَلَكته وحُلله ؛ إذْ قال عنه : " كان أبو الوليد غايةَ منثورٍ ومنظوم ، وخاتمة شعراء بني مخزوم ، فاقَ الأنامَ طراً ، ووسع البيان نظماً ونثراً ، إلى أدبٍ ليس للبحر تدفقه ، ولا للبدرِ تألقه ، وشعرٍ ليس للسحر بيانه ، ولا للنجوم الزهر اقترانه ... " .
وصدقاً وحقيقة ؛ فإنّ أدبَ ابن زيدون قد امتاز بأناقةٍ فريدة ، ولغةٍ حزينة ، وبناءٍ وجدانيٍ مُتماسك – هذا مع رهافةِ حِس ، وخيالٍ يَشِف ، وتصويرٍ قد بلغ الغايةَ في اللُطف .
نظم الفتى المخزومي قصائد كثيرة ، في فنون متعددة ، وكان شعره " هو الصورة الصحيحة لشعر الأندلس ؛ لانبجاسه من أعماق فؤاده ، وانبعاثه من طبيعة بلاده " ( 1 ) . إلاّ أنّ أغزَاله البهية ، وأشواقَهُ النديّة : صوبَ " ولاّدة " الأموية : قد صارت هي المذياعة ذِكراً ، والأشهر خبراً – فيما قد كان موضع السجود منها ، وجوهرة التاج فيها : نونيته الشهيرة التي افتتحها بقوله :
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا = ونابَ عن طيبِ لُقيانا تجافينا
وتوسطها ظمآناً في قوله :
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا = شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
واختتمها بعد ذلك : مُفارقاً ومُسلماً ومُودعاً :
عليكِ منّا سلام الله ما بقيت = صبابةٌ بِـكِ : نُخفيها فتُخفينا
وهي القصيدة التي قد طارت على جناحِ التاريخ ، وهبطَت بأمصارِ الدنيا : فهيجت بعبيرها كل مشتاق ، وسحّت بلوعتها الدمع من الأحداق !
يتيمةٌ في الشعر استطاعَ ابن زيدون من خلالها : أن يجعلَ للحُزنِ جمالاً ، وللشجَنِ مرقصاً ، وللأساةِ مسلاة !
ولذا فقد تتابع بالنسج على منوالها ، والغناءِ بموالها : الشعراء من تالدٍ وحادث ؛ فعارضوها وخمسوها وشطّروها ، ثم لمّا تعبوا منها ، قالوا : قد قَصُرْنا عنها !
فيما أنّه قد بالغَ بعضُ المُـتأدبة في الالتياعِ بها ، والحذَرِ منها ؛ فقال عنها : " ما حفظها أحدٌ إلاّ ماتَ غريباً " !!
ويردُّ هذا الالتياع : بأنّ أمير الشعراء أحمد شوقي قد كان مفتوناً بهذه القصيدة ، وقد عارضها أثناء نفيه إلى أسبانيا ( الأندلس ) بقصيدة جميلة أرسلها لهفةً وشوقاً إلى أرض الكنانة ؛ فضجّ عندئذ شعراءُ مصر له ولها : مجيبين بذلك نائحته ، وراحمين غربته ، ومعارضين قصيدته ؛ على رأسهم : " إسماعيل صبري ، وحافظ إبراهيم ، وعبدالحليم المصري " ( 2 ) . فيما أنّ شوقي قد مات في وطنه وليس في غربته !
وعلى أيةِ حال ؛ فإنّ لابن زيدون مصيبة أخرى قد جابت الأرض ، وولولت في الدنيا ، وساحت من بعد على الصدور : فأذابت بحرارتها أفئدةَ الخلق ؛ وراعت بصبابتها سكونَ المُطْرِقِ الصِّب ، وأوهَتْ برقتها : عضدَ الأبتعِ الجَلْد ؛ وهي تلك التي قد قالها في الزهراء مشتاقا ، ومطلعها :
إني ذكرتُك بالزهراء مشتاقاً = والأفق طلقٌ ووجه الأرض قد راقا
وهي نفيسة أخرى من نفائس ابن زيدون التي – أيضاً – قد فتنت الشعراء مرةً ثانية ؛ فصمدوا لها ، وقصَروا عنها : معارضةً ، وتخميساً ، وتشطيراً !
وبهذا ؛ يكون ابن زيدون قد فتن الدنيا في ديوانه : مرةً أو مرتين !
وجملةَ حياة ؛ فإنّ الحياةَ قد تقلّبت بهذا الفرد المخزومي في فَنِّه ، والعجيبِ من فنَنِه : فمن صدارة المجالس إلى ظلام المحابس ! ثم بعدها يرجع للوزارة أخرى ، ثم له النفي ثالثة : إلى أن قد مات – بعدها - وزيراً غريباً في إشبيلية سنة ( 463 هـ ) وله من العمر ( 69 ) سنة .
مات ، ولكن بعدما أودَعَ وأورث لخزانة الأدب العربي : يتيماتٍ جميلات ، وجواهرَ ثمينات : قد اتفق الجميع على حُسنِ ائتلافهن ، وجودةِ ائتلاقهن ، وغلاءِ مهورهن : لا فضل في ذلك لعربي على أعجمي : إذْ أقرَّ لهنَّ بالجمال والفتنة : أقحاحُ العرب وعلوجُ الاستشراق !
( ب )
نسرينُ ولاّدةَ : غسلينٌ لأحبابِها !
فجأةً دون مقدمات ؛ يدفعُ الوزير أبو عامر ابن عبدوس امرأةً من جهته إلى ولاّدة العابثة : تعرض عليها مزاياه ، وتمدح عندها صفاته ، وتُشيد لها بأدبه !
وفيما يبدو ويظهر ؛ بأنّ هذه المراسلة : قد صادفت من ولادة مناسَبة !
إذْ كأنّها قد ملّت ابنَ زيدون ، أو رغبت بالثأر والانتقام عن أمرٍ كان قد صدر منه ، فلانت حينئذ لغيرِه : من أجلِ أن تقْسُو عليه !
عند النظر لمؤهلات الاثنين : فإنّا نجدُ المماثلةَ في الموكب ، والمشاكلةَ في المنصب ، والتساوي في الركب ؛ فكلاهما في الصدارة صدر ، وفي الرياسة رأس ، وفي الوجاهة وجه : قد تسنّما منصب الوزارة ، وتحلّقا أمامَ المجتمع القرطبي : بقُرطِ مَهَارة .
إلاّ أنّ الرهان – حقيقةً - يكسبه ابن زيدون من بابةٍ أخرى : وهي صفاته الشخصية التي كانت تنسجم مع أشياء في ولاّدة أصلية ، وأول هذه الأشياء كان الأدب والشعر ، ورهافة الشعور والحس ، ودقة الذهن مع إحسانٍ فائق لترجمة المشاعر !
ولذا ؛ فإني أظنُ بأنّه لم يتَسَيد سويداء ولاّدة ، ولم يتجوف جوفَها ، ويتربع على عرش ذوقها ، مثل الشاعر الفريد ابن زيدون : فهو الذي أرضى غرور الأنثى بداخلها ، وتماهى بنثره وشعره مع نرجسيتها وخاطرها . وأما عن ابن عبدوس فليس هو بأكثر من عصا لمن عصىاها أو تعصّى عليها ( وجهة نظر ) !
ومن دلائل أن ولاّدة لم يملأ عينها مثل ابن زيدون وشواهدِه : هو هجاؤها المقذع له بعد فراقه : واللسان لا يزفر الأذى إلاّ من زفرةٍ كانت في النفس مؤذية !
كذلك ؛ فإنّ معاملتها الأولى لابن عبدوس تشي بأنّها كانت تزدريه ، وتوحي بأنها تعبث به : إذْ يُروى في كتب الأدب أنّها قد مرّت عليه ، فوجدته مع أعوانه مشمراً عن ساعديه : يُصلح من شأن بركة كانت مياه الأمطار تتجمع فيها أمام داره ؛ فتمتلئ حينئذٍ هذه البركة بالقذى والأذى ؛ فقالت له عند ذلك على البديهة : أبا عامر :
أنت الخصيبُ وهذه مِصْرُ = فتدفّقا فكلاكما بَحْرُ !
ثم تركته لا يحير جواباً ؛ بعد أن شبهته بتلكم البركة في احتواء الأذى وإرساله !
والحق ؛ بأنّ استخدامها لهذا البيت الشهير ، وتحويله من المدح إلى الهجاء : ليدل دلالةً فظيعةً على سرعة بديهتها ، وخفّة روحها ، وحلاوة ظرفها !
ويظهر لي كذلك ؛ بأنّ ابن عبدوس لم يكن بذاك الرجل الذي يمتلك ثروةً حسنَةً في صناعة الأدب ، أو من فكاهته وظرفه ، وبأنّه قد دخل مجالاً غير مجاله : فشخصيته – فيما أفترضه – لا تصلح لدنيا الهوى ، ولا لألاعيب الغرام ، وإنّما كانت مزاحمته في ولادة قد حدثت وصارت : منافسةً ومعاندةً ، وتشبعاً واستكثاراً !
ثم إنّه – فيما أفترضه أيضاً – قد امتزج ذلكم العناد لديه : بشيء من الغرام فيما بعد ؛ فلانت من أجله نفسُهُ قليلاً ، وسخَنَ قلبُه شيئاً ، واضمحلت بعد ذلك بلادةٌ كانت مطبوعةً في جبلته ؛ وإلاّ ؛ فإنّ الفتى الأنيق هو ابن زيدون الرشيق - لا أستريب في ذلك ولا أوارب !
ومما يدل – كذلك - على أنّ شيئاً ما قد كان في شخصية ابن عبدوس يستجلب معه الهزأ به : هو ما قد كتبه عنه ابن زيدون ساخراً به ، وذلك من خلال رسالته المقذعة : ذائعة الصيت والشهرة ( الرسالة الهزلية ) والتي نال فيها ابن زيدون من ابن عبدوس فجعله أضحوكة لقرطبة ؛ بل وللتاريخ !
على أية حال ؛ فإنّ التاريخَ يحفظ لهذا الرجل ( ابن عبدوس ) بأنّه قد أحبّ دونَ ثمن ، وتجرّع دون سخط ، وقابل سخرية ولاّدة فيه : بمروءة وشهامة ووفاء ؛ فقام وحفظ لها العهد ، وصانّ لها الأُلفةَ والصَّحْب : وذلك بعد أن ذبلت أزهارُهما ، وتقدمت أعمارُهما ؛ إذْ أربى الاثنان معاً على الثمانين ، واعتزلت ولاّدةُ الحياة العامة وصخَبَها : فكانت يد هذا الرجل تتفقد أحوالها ، وتقضي حاجتها ، وتقوم على خاطرها ، وتربت على غربتها وجدبها – كما سيأتي - !
يتبع ...
آيـدن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تاريخ الأدب العربي – أحمد حسن الزيات .
2– نساء من الأندلس – أحمد خليل جمعة .