ظروف نشأتها :
اضطرب النقَدَةُ والأدباءُ والكَتَبَة ؛ في إعطائنا صورة واضحة المعالم ، وثابتةَ الحقائق عن ظروف نشأة ولادة في صباها وأول شبابها : فمن مرتئيٍ يرى بأنّها ربيبةُ مُلك ، وجَنَى نعمة ، وخِدْنُ ترف .
وآخر يرى بأنّ هذا القولَ محضُ خيالٍ وسردُ هذيان : إذْ هو لا ينسجم بتاتاً ، ولا يتفق أبداً مع حقيقةِ شباب ولادة الذي قد عاصرَ أفولَ نجمِ الأمويين ، واجتثاثَ حُكمهم ، وتبديد شملهم !
كما أنّه من بابةٍ أخرى : لا يتسق وسيرة أبيها الذي كان يتسول من الفلاّحين زكاة ثمارِهم وأكمامهم – وبالإضافة لكُلِّ هذا الذي قد سبق : فإنّ صِباها وتنهُدها : قد زامنا سلَّ سيفِ الفتنة بقرطبة ، واضطراب الأمور فيها .
وللجمع بين الرأيين المتشاكسين وإصلاح ذات البين : فلعلنا نقول بأنّ ولاّدة لم تكن بتلكم الفتاة الثرية المترفة المُنعّمة ؛ بل ربما قد صادفت في أول حياتها وشبابها : شيئاً من الفقر والبؤس والشظف المعيشي . إلاّ أنّها ( لعله كذلك ) قد عادت إليها بعض أملاك أسرتها بعد موت أبيها وخبوت نار الفتنة قليلاً . فتكونُ على ذلك قد عاشت في أواسطِ عُمُرِها : على كَفافٍ لا يترفّعُ عن الفقر ، ولا يقوى على البطَر .
أمّا من الناحية الاجتماعية الأسرية ، فإنّ ولاّدة قد عاشت وحيدةً دون إخوة ، ومُغتربةً بلا أسرة ، فظلت طيلة عمرها تبحث عن مؤنسٍ لوحشةٍ كانت تفتكُ بها ، وتنهشُ فراغَها ، وتمتصُّ زهرتها – خاصةً بعد وفاة والدها ، وانقراضِ كثيرٍ من أسرتها : قَتْلاً أو عقماً .
وهذا مما سيكون له شأن كبير في فهم وتفسير تصرفاتها – كما سيأتي - .
صفاتها الشكلية :
أدباءُ العربية مُجمعون على أنّ ولاّدةَ كانت فاتنةَ عَصْر ، وعُصَارةَ عِطْر ، ولذّةَ منظر ، وجلاءَ قمر .
ولِمَا فاتَ من ذلك ومَرَّ فإنّ ابن بسّام قد قالَ عنهُ يَسجعُ نثراً : " كانت الحسيبة ولاّدة في زمانها ، واحدةَ أوانها حُسنَ منظرٍ ومخبر ، وحلاوة موردٍ ومصدر ... " .
وقد نقل المقريُّ هذا الأمر عن ابن سعيد في " المُغْرب " بعد ذكره لولاّدة ؛ فقال : " إنّها بالغرب كَعُلَيَّة ( 1 ) بالشرق ، إلاّ أنّ هذه – أي ولاّدة – تزيدُ بمَزِيّةِ الحُسن الفائق ... " اهـ .
وقد حاول عدد من الأدباء المتأخرين : جمعَ أوصاف هذه الأميرة الجميلة واستخلاصَها : باستخدام شعرِ ابن زيدونٍ عنها : واستلالِها منه ، ومن ثم رسم وجهها بريشته .
ولعلي الآن أفعلُ فعلتهم ، وأذهبُ مذهبهم ، وأحذو حذوهم ؛ فأقول :
كانت ولاّدة ذات قامة ممشوقة فارعة ، وقَدٍ ميّاس يتأود رفاهية ، وأنفاس كما نسائم الربيعِ مُعطّرة ؛ وهي بوصف ابن زيدون لها :
يا فتيتَ المسك يا شمسَ الضحى = يا قضيب البان يا ريم الفلا
إن يكــن لي أمـــل غيـــر الرضـــا = منــكَ : لا بُلـغـتُ ذاك الأمـلا
وهي كذلك ذات وجهٍ وضاء مُشرق ، وبشرةٍ بيضاء ناصعة ، وشعرٍ ذهبي مُعصفر :
أو صاغه وَرِقاً مَحضاً وتوّجَهُ = من ناصع التبر إبداعاً وتحسينا
لها أسنان كما الفضة ، وفي زُبدةِ وجهِها نُقطةُ خالٍ سوداء :
مفضض الثغر له نقطةٌ /// من عنبرٍ في خدّه المُذهب
أيضاً ؛ فهي لَدْنةُ العود ، ليّنة العِطْف ، رخية اللحظ ، تنفثُ من فمها أريجاً مُسْكِرا :
يا ألين الناس أعطافاً وألينهم /// لحظاً وأعطرَ أنفاساً وأردانا
لها – كذلك - أعينٌ نُجل : تنطقُ بغير لسان ، وتشرحُ من غير صوت ، وتُقنعُ من غير كلام . ومن صفتهما أيضاً : أنّه لا ينتَصِف فيهما البياضُ أو السواد من بعضٍ ( حَوَر ) :
فهمتُ معنى الهوى من وحي طرفك لي /// إنّ الحوَارَ لمفهومٌ من الحَوَر
يُضاف إلى كل هذا الجمال السافِر : بأنّ وضاءةَ وجهها تسلبُ الألباب - أيضاً - حين تلبس النقاب :
ما البدر شفَّ سنَاهُ /// على رقيق السحابِ
إلا كوجهك لمــّــــا /// أضاء تحت النقاب !
وعلى ما بها من جمال تملكه : فإنّها أيضاً تُصْدرُ الجمالَ وتُرْسِلُه ؛ إذْ قد جمعت ذوقَ الحديث ، وسلسالَ المنطق ، وإدارة الجلوس :
له خُلُقٌ عذبٌ وخَلْقٌ محسَّن = وظَرْفٌ كعرف الطيب أو نشوة الخمر
يُعلل نفسي من حديـث تلـذُّهّ = كمثل المُنى والوصل في عَقِبِ الهجر
ولأجل هذا الجمال الباهر ، والحُسن النادر ، والسِحر الآسر ؛ فإنّ ابن زيدون قد تقطّع عليه لهفةً واشتياقاً بعدما فارَقَه :
نكاد حين تُناجيكم ضمائرنا = يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
هذه إذن هي ولاّدة من خلال ريشة ابن زيدون وألوانه البهيّة ورسوماته الفنيّة .
يتبع فيما بعد ..
آيـدن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1. عُلية بنت المهدي العباسي . وقد افترى عليها المفترون أشياء كثيرة للنيل من أبيها وأخيها ( هارون الرشيد ) .