توطئة :
من دارسٍ وجديد : والأدب العربي هو محل دراسة ونقد وتجديد ؛ وما ذاك إلا لنفيسِ جوهره ، ومتين صياغته ، وثراء أخباره ، ونادر أشعاره .
وفي عصرنا الحديث ؛ فإنّ ثمة دراسات نقديةٍ قد قُدمت عن هذا الأدب : تَميزَ بعضُها بالموضوعية الحقّة ، والعلميّة الجادة ، والصبر الدءوب ، والصَمَد الطويل .
ومن هذه الدراسات الممتازة ، والسبر العميق ، نضرب المثال بدراسة شيخ العربية أبي فهرٍ ( محمود شاكر ) عن الشاعر المتنبي ، وحصوله بإثرها على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب .
ومنها أيضاً : كانت الدراسات المتواصلة ، والسلسلة المتصلة التي قدمها الأديب الدكتور " شوقي ضيف " عن الأدب العربي ومراحله التاريخية – بصرف النظر عن بعض المآخذ - .
يُقابل هذه الدراسات الأصيلة والمؤصلة عدد آخر من النظريات والآراء التي لم تأخذ حقها من البحث والتنقيب ، والعمق والتحليل ، أو تلك الأخرى التي قد انتحلها بعض أهل الزيغ الفكري ؛ فنسبوها لأنفسهم : وقدموها أصالةً بعدَ ترجمة ، ومن أبرزها كان – بلا ريب – قضية الشعر الجاهلي التي فجرها الدكتور طه حسين ، وعُدّت – فيما بعد - من كبريات سرقات هذا العصر : بعد أن افتضح أمر نسبتها للمستشرق اليهودي " مرجليوث " وذلك عن طريق غير واحد من الأدباء ، وفي مقدمة هؤلاء الكشّافين : كان الأديب النطاسي الكبير محمود شاكر .
ومن لطيف ما مرّ بي في مضمار الأدب من قراءة وإضاءة : أني قد اطلعتُ منذ سنيات قريبة على أكثرِ من رأيٍ نقدي ، ودراسةٍ عصرية ( مقتضبة ) تنفي وبشدّة أيّ وجود للشاعرة الأندلسية الشهيرة " ولاّدة بنت المستكفي " ، وترى بأنها ليست إلا محض أسطورة ، وعنقاء مزعومة ، قد صاغها ونسجها : الحكواتية والقصصية وشداة الأدب !
وهاهنا ؛ فإنّ غرضي منها ومنهم : ليس هو الرد أو النقض ، وإنّما الوقوف والتساؤل : بعد سردٍ لذيذ ، وتأملٍ وجيزٍ : في سيرة ولّادة ومغامراتها ، ومن ثَمّ القيام بعرض أدلة واستشهادات من ينفي وجودها – مع ذكر حُججهم القائمة : والتي كانت – للنزاهة والأمانة - : موضوعية ومنطقية ومثيرة للإشكال ( 1 ) ، وبعد هذا : سيكون إيراد بعض الحقائق أو الفرضيات المقابلة لهذا الرأي ؛ لنرى ثَمَّ : أين الجواب ، وأيّ الفريقين أولى بالصواب .
ولستُ أبالي بعد ذلك : على أيِّ لسانٍ قد أُجريَ الحق ، وبأيّ شفاهٍ نطَق ، ومن أي حنجرةٍ صدح ؛ إذِ هو ( الحق ) أملٌ مأمول ، والوصول إليه هدىً ونور ، والتجرد في طريقه : هو المعراج والسلم .
كما وأنّ عملي هنا ليس بأكثر من سياحة في الأدب ، وعصفٍ للذهن ، واستحلابٍ للرؤى ، وتجميع لخيوط الأدلة – فأنا أقف على الأعراف من هذا الأمر : لا أريمُ إجابةً ؛ وإنّما أبحث عنها !
يتبع ...
آيـدن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 قدّم الأستاذ هزاع بن عيد الشمري في عام 1416 هـ كتيباً صغيراً عنونَهُ بـ ( ولاّدة بنت المستكفي : بين الحقيقة والأسطورة ) وعلى الرغم من قصر هذه الدراسة واقتضابها : إلاّ أني أعتبرها قنبلةً أدبيةً تستحق – لو كانت من غير سعودي – أن تُفرد لها المناقشات والمداولات والمطاولات !
و بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع آراء هذه الدراسة ؛ إلاّ أنّ الأستاذ هزاع قد أبدع في سرد الأدلة والحقائق التاريخية التي تُثبت رأيه بأنّ ولاّدة بنت المستكفي إنما هي شخصية أسطورية غير حقيقية ! وأظنه بذلك أبا عذرية هذا القول – حسب علمي المتواضع – وقد اقتبس منه آراءه : أديب عربي ( أحمد خليل جمعة ) في كتابه " نساء من الأندلس " ، ومن الجميل أنّه قد استند في آخر كتابه إلى أقوال وفتوح الأستاذ هزاع الشمري ؛ وتلكم أمانة أدبية تجاه شخص غير مشهور : يُشكر عليها الأديب أحمد جمعة – وإن كان لم يلفت النظر لذلك بداية تشكيكه بوجود ولادة واقتباسه من أدلة هزاع - .
وعلى أية حال ؛ فنحن هنا سنناقش هذه الأدلة وتلكم البراهين – بعد سياحة أدبية ونفسية عن ولاّدة ومغامراتها - .