استيقظ ماركيز فزعا تلك الليلة، مطلقا صرخة دوَّت في كلِّ أرجاء البيت الكبير، هي جملة وحيدة لطالما زارته في أحلامه على اختلافها، مفادها: "لا يكتمِل العقل، إلاَّ بالجنون!" وجد بعدها نفسه جالسًا يردد العبارة ذاتها بصوت خافت، ثمَّ زحف في الظلام نحو النافذة أين أشعل سيجارة تناولها مِن فوق الطاولة المحاذية لسريره، قبل أن يشعل النور ويجلس إلى مكتبه في زاوية غرفته الواسعة، فتح حاسوبه وكتب قائلا:

ولدتُ في بئر شديدة الظلمة، فوجدتُ عمقي يحبُّ النور حدَّ الهوس، وهذا ما دفعني باتجاه المكتبات وَالكتب، أقرأ امتثالا لذلك الأمر الإلـهي الذي اعتقدُ يقينا بأنَّه الخلاص الذي يجمع البدء والمآل النهائي الخالص معًا، ولمَّا تعبتُ قررتُ أن أكتب ما حمله جوفي مِن معاناة وصبر على الكلمات، بَيْدَ أنَّني وجدتُ نفسي في كارثة أعظم، فالكاتِب هو جريء لا يشق له غبار في قواميس القراصنة، وهذا ما أوقعني في مشاكل عديدة لا حصر لها، عقوباتها شديدة الوَقْع على الأرواح، تتراوح بين الهجران، الفقدان وخسارة ما يسكنني مِن إنسانية.

كنبتة صغيرة تقاوِم بمفردها محيطها مِن الإسفلت حاولتُ أن أحفر طريقي بإرادتي، فكان لي نصيبٌ مِن الوقوع والنهوض، مِن الجمود والجحود، مِن الرزايا والمزايا، وهي كلُّها نباتات تقاوم بيداء الداخل وصحراء المداخل، لترسم على خرائط العزائم أجمل القصص والمسارات، لكنّها تتلخص في قيمة واحدة واضحة بعنوان: هنا المسير، وما عليك سوى إكمال البحث عن المصير.

كلُّ الرحلات التي دوَّنتها صفحات الثقافات بدأت مِن حُلمٍ يتقد في عمق الفرد، فَيؤمِن بضرورة تحقيقه، يسترسل في رسم المخططات تعبيرا عن خطط لتجسيده، يتلقى الكثير مِن العراقيل والمشاكسات حينما تدقُّ ساعته، يخاف بداية، تنتابه رغبة في التراجع والركض نحو أحضان المألوف، يلاحقه شبحُ الخشية مِن الفشل، الشماتة وتوهُّمُ مذاق الخسارة، بعدها يجد ماركيز الصغير بداخلي نفسه يواجه ذاته مِن جديد، ليقفز خارج تلك البئر، ويسير نحو النور ثانية، نحو النَّجاح.

أنهى تدخين السيجارة، وضع الحاسوب جانبا؛ قام متثاقلا نحو فراشه الذي يغلي مِن شدَّة الحرارة، غرفته بلا مكيفات، وشهر يونيو حار للغاية على بلاد القراصنة، وضع جسمه البارد كثلوج قمم الجبال السويسرية في مكانه المعتاد، أطفأ الأنوار، وراح يغمض عينيْه فيستحضر في حالة ما بين اليقظة والنوم الكثير مِن أفكاره الثورية، تلك التي أوقعته في المشاكل قبل أن تتحوَّل تلك الحوادث التي اتخذت مظهر المشاكل إلى إنجازات، لتجعله في موضع الحسد الذي سرعان ما تحوَّل إلى أحقاد تأكل أصحابها كما يأكل الصدأ الحديد.

بعدها راح ماركيز والظلمة تحيط به يهمسُ لنفسه بصوت مبحوح للغاية، الساعة تقترب، تقترب بسرعة جنونية، ساعة القرار الذي لطالما انتظرتُه تكاد تدقُّ عقاربه على باب الموعد النهائي أمام ذاكرتي، فيكون عليَّ أن أختار بين المقبرة الاجتماعية فأصبح قرصانا عاديا للغاية، أو أقرر ركوب البيكاسوس فأصبح كائنا يطير متخطيا الحُجُبَ والظروف على اختلافها، الاختيار الأوَّل يؤذي ذاتي إلى الأبد، بينما الثاني يؤذي غيري إلى الأبد أيضا، ولن يسامحوني بعدها أبدا.

صعبٌ جدا، أن يقف الإنسان بين اختيار الذات التي يحبها بالفطرة، وما بين الأحباء الذين لطالما أحبهم منذ الصغر، ما بين أحلامه وقيمة الوفاء لغيره.

إنَّ تلك الرغبة الجامحة في السير على الحبال كالبهلوان على علوٍّ رهيب، فوق كتل اللهب هي الطريقة التي تثير في ماركيز الحماس والنَّشاط، فلطالما كان مغامرا وغير قابل للرضى بحلقة الرفاهية أو منطقة الأمان، لكن ما هو مقبل عليه هذه المرَّة هي ضربة إمَّا ترفعه إلى النور فيودِّع البئر نهائيا، أو تسجنه في ظلام تلك البئر دائما ودفعة واحدة بشكل خالِدٍ.