وقد اشتد المرض بنبينا صلى الله عليه وسلم، وحتى صار لا يستطيع أن تتحمله قدماه! وها هو إذ يستأذن نساءه كلهن، واحدة ومن بعد الأخرى؛ وأن يمرض في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وها هو صلى الله عليه وسلم يمر عليهن كلهن من بيوتهن؛ ليستأذنهن!
وهاك صورة أخرى من صور عدله، وهذا ملمح ضاف من صور إلفه، وقربه، ولطفه بالنساء أزواجه أمهات المؤمنين، رضي الله تعالى عنهن.
وها نحن نلمح هذا التواضع من نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو إذ يستأذنهن كلهن، وفي إشارة دلالة ومبرهنة على كم هي نظرة هذا الدين إلى النساء، في إكرامهن؛ وحين يستأذنهن أزواجهن! وإذ يتقدم هذا السنن نبيهم ورسولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس في ذلك إلا المودة والرحمة واللتان نزل من أجلهما قرآن كريم مبين، يتلى صحفا مكرمة، إلى يوم الدين، وأن كان ههنا كتاب قد تنزل من السماء؛ ليعلي شأن النساء، ويكرمهن، ويؤويهن، ويقربهن، ويتحنن إليهن؛ قربة، وقربى، ولباس التقوى ذلك خير.
وتلك آيات الله تعالى في كونه، وحين لامست حناياها شغاف قلوب المؤمنين، فأخرجت أمة، كانت خير أمة أخرجت للناس، وحين كان من أخلاقها هو ذلكم استئذان النساء!
وأنت إذ تتلمس هذه العلاقة الدفيئة، ومن بين نبينا صلى الله عليه وسلم، وبين نسائه كلهن، وها هن يأذن لزوجهن! الذي هو نبيهن صلى الله عليه وسلم، وبما تحمل كلمة أَذنَّ من هكذا إكرام آخر منضافا، وحين صار مضاعفا مرتين، وحين استأذن زوجهن، الذي هو نبيهن صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى وحين يأذن له كلهن، واحدة ومن بعد واحدة أخرى! وفي مبادلة لآصرة المودة والرحمة أيضا.
وها هو هذا النبي بأبي هو وأمي ونفسي صلى الله عليه وسلم، وقد أصبح الآن آله يهدهدوه ويمرضوه ويعالجوه، وحين نراه ليس يقوى أن يقف على قدميه؛ من شدة ألمه، ومرضه، ووجعه صلى الله عليه وسلم، وفي إشارة أخرى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم يوعك؛ وكما يوعك آحاد الناس، أو أشد وعكا، وحين قال صلى الله عليه وسلم: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم.
وفي إشارة أخرى أن أشد الناس بلاء كانوا هم الأنبياء عليهم الصلوات كلها والتسليمات أجمعها، ولو حتى كانوا على فراش تمريضهم؛ سننا ربانيا كريما، وتسرية إلهيا حكيما، ولما كان لغيره فيه أسوة، وإذ ألفيناه لما سواه منه قدوة، وحتى من مرضه، وحتى من ألمه، وشدته، ووعكته؛ وكيما يتصبر امرؤ عرف أن نبيه صلى الله عليه وسلم قد كان في الوعك أشد وأكبر وأعلى وأقوى!
ويكأـن هذا الوعك، ومن ثم كان سببا في حط الخطايا عن العباد، وإذ كان إلهاما لرفع الدرجات؛ كرما، ولطفا من رب العباد.
فعن عبد الله بن مسعود: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكا شديدا، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكا شديدا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى؛ مرض فما سواه، إلا حط الله له سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها. [1].
ولكن هذا الماء، ولما أمر به صلى الله عليه وسلم، وأن يهراق عليه من سبع قرب، لم تحل، وحتى يمكنه أن يقابل الناس يومه هذا؛ ولعله ان يفيق من وعكه؛ وباستعمال الماء، وفي إشارة ضافية أخرى إلى أهمية الماء في التطبب، وتخفيف ألم المرض، وهذا هدي نبوي كريم، في استعمال الماء كمسكن للألم، وكمخفف للوجع. وكم تحكي التجربة من هذا كثيرا كثيرا!
ولكن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد طلب ماء يهراق عليه، ومن سبع قرب! ولنقف أيضا منبهرين! على حكمة أن يكون العدد سبعا! وحسبنا أن نقف مشدوهين أيضا؛ ولما لم نعرفْ!
ولكن غاية إدراكنا أن استعمال الماء بكثرة على المريض، والمحموم منه بدرجة أقوى، ولعله كان كافيا في تخفيف شدة ألم المرض.
وهذا هدي نهتديه، وهذا سنن نقتفيه.
ولكنه صلى الله عليه وسلم، كان قد أمر أن يكون الماء من قِرَبٍ، ولم تحل قبلُ، أي: مربوطة أفواهها، وفي إشارة أخرى إلى كونه أبلغ في إزالة الألم، أو تخفيفه بدرجة أكبر، مما لو كان مستعملا من قبل، وفي إلماحة أخرى أن الماء غير السابق استعمالا هو آكد في مفعوله، كمزيل، أو مسكن للألم!
ولعل ذلك أيضا؛ ومن طهارته البالغة، وحين كان ماء جديدا، لم يسبق له استعمال من قبل أيضا!
ومن ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، وخطب فيهم، وفي إلماحة أخرى، ودلالة عظمى، على كم هو عظم التذكير، وفائدته في شحذ ههم الناس، نحو آفاق الهدى، والبر والتقوى! وحين قال الله تعالى ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:55].
ولكن هكذا طلب الماء، والاستشفاء به؛ وبرهانا على أهمية تطلب العلاج، في هذا الدين، ومن أيسره نفعا، ومن أحسنه جدوى، ومن أرخصه ثمنا، ومن أيسره وجودا، ومن أسهله سريعا سريعا!
وفيه فضيلة كل من عائشة أم المؤمنين؛ ولاختياره صلى الله عليه وسلم التطبب في بيتها.
وكما أن فيه فضيلة كل من العباس عمه، وكذا على بن أبي طالب ابن عمه، وحين كانا اختياره أن يحملاه صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة: فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب. وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل بيتي واشتد به وجعه، قال: هريقوا عليَّ من سبع قرب، لم تحلل أوكيتهن؛ لعلي أعهد إلى الناس، فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده: أن قد فعلتن. قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم. [2].
وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كانت أهمية السواك في هذا الدين، هديا له صلى الله عليه وسلم، وإنما تحكي عائشة أم المؤمنين، أنه وحين دخل أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر، ومعه سواكه، لتأخذه منه، ومن ثم تجهزه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لستن به، أي: ليستاك به، وها هو إذ نراه مستندا إلى صدرها ومن بين نحرها وسحرها؛ ومن شدة ما قد ألم به صلى الله عليه وسلم.
والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر وهو في الأصل الرئة والنحر بفتح النون وسكون المهملة والمراد به موضع النحر وأغرب الداودي فقال هو ما بين الثديين والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها صلى الله عليه وسلم ورضى عنها وهذا لا يغاير حديثها الذي قبل هذا أن رأسه كان على فخذها لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها وهذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر علي وكل طريقي منها لا يخلو من شيعي فلا يلتفت إليهم وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعا لتوهم التعصب قال ابن سعد ذكر من قال توفي في حجر علي وساق من حديث جابر سأل كعب الأحبار عليا ما كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم فقال أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال الصلاة الصلاة فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وفي سنده الواقدي. [3].
ولكن قولها رضي الله تعالى عنها: وخالط ريقه ريقي، ولعله من ريقها، وحين كانت تقضمه السواك وتمضغه؛ وتجهيزا لهذا السواك بفمها؛ لتسهيل استعماله صلى الله عليه وسلم، لهذا السواك، ومن ثم خالط ريقها ريقه، ومن أواخر عهده بهذه الدنيا أيضا.
وهذا الذي يدل عليه ظاهر الحديث الكريم، ومن قولها رضي الله تعالى عنها: وخالط ريقه ريقي، وكما أنف.
وهذا كله، ومن دلالة حبه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا من القَسْمِ الذي هو معفو عنه، ولطالما كان استأذن أزواجه كلهن.
ولسننا ننسى أنها كانت أشَبَّهُنَّ؛ وهي بالتالي، ولعل ذلك أجدر، وأقوي، وأقدر، وأقوم على تمريضه، من دونهن، وهذا أيضا من رحمته بهن كلهن!
ولكن هذا هو وفاء الزوجية الحنونة، الرحيمية، وحين يقوم كل من الزوجين على رعاية زوجه، وتطبيبه؛ رحمة، ومودة، ووفاء، ومروءة، ودون مَنٍّ، ولا أذى، بل رضا، وقناعة؛ ولأن هذه هي قواعد المروءة، وأصول المودة والرحمة، واللتين هما من شواهد هذا العقد المبرم، ومن بينهما، وحين أسماه الله تعالى ميثاقا غليظا، ومن قوله تعالى ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء:21].
ولكن إعجازا؛ ومن إخبارها أنه صلى الله عليه وسلم، كان قد مات في اليوم الذي كان من شانه أن يكون هو دورها عندها، عددا عددا!
فعن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه؛ يقول: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه، في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به وهو مستند إلى صدري. [4].
[1] [صحيح البخاري: 5660].
[2] [صحيح البخاري: 4442].
[3] [فتح الباري، ابن حجر: ج ٨ / ١٠٦].
[4] [صحيح البخاري: 4450].