هذه مجموعة من الخواطر و الأفكار كتبتها منذ سنوات  ، و قد نــشرت على موقع (شاشه نيوز) على حلقتين ، و فكرت باعادة نشرها هنا - مع تعديلات شكلية - خاصة و ان موضوعها لا يزال يشغل بال المفكرين اليوم ، كما شغل بال اسلافهم طوال القرن العشرين ، بل ان طرح موضوع (الاصلاح) اليوم أمر جوهري و ضروري ، فالتشدد و التعصب و العنف من الأسباب المهمة التي ساهمت في تأجيج جذوة العنف و الصراع في عالمنا العربي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدلله والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للبشرية سيدنا محمد بن عبدالله...وبعد...

فقد دار نقاش بيني وبين الدكتور محمود السعدي( استاذ الاعلام في جامعة الشرق الاوسط) حول حال أمتنا في الماضي و الحاضر، واتفقنا خلاله على ضرورة الاصلاح، وكعادتي أخذت في التفكير في القضايا التي أثيرت أثناء النقاش، فخرجت ببعض الأفكار التي رأيت أن نشرها قد يكون مفيدا،ورأيت أن أجملها للقاريء في النقاطً التالية:
 
1. طبيعة الاسلام:
الاسلام أيها السادة عبارة عن استسلام لله-عز وجل- (وما أجمل تلك الاوقات التي يسجد المسلم فيها واضعاً جبهته على الأرض، معلناً الخضوع التام لله عز وجل)* ولكن الاجمل ان يستمر المرء ساجداً لله، خاضعاً له في كل مناحي الحياة ،و كيف لا يفعل والاسلام عقيدة وشريعه ؟والشريعة تنظم محاور الحياة الثلاثة (الفرد، والاسرة ،والمجتمع ) تنظمها للوصول الى حياة نظيفة ،طاهرة،سعيدة،وكيف لا نسعد بالشريعة وهي من اللطيف الخبير؟ (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .

وقد فصّل الاسلام في بعض الامور،وأجمل في بعضها الاخر،لأنه لم يصمم لزمان معين،ولا لمكان محدد،بل هو (الرسالة الخالدة )للبشر،من رب البشر.فلم يحدد لنا مثلاً شكلاً للدولة ،بل ترك لنا تحديده بناء على خبراتنا البشرية ،وبناء على مايلائم الزمان والمكان،ولكن الاسلام لايسمح لهذه الدولة ،مهما كان شكلها ،أن تنتهك قيم الحرية والعدالة و الشورى، لانها قيم اساسية في النظام السياسي الاسلامي .
 
2. الأسلام يبني حضارة:
وقد جاء زمان على المسلمين استطاعوا أن يشيدوا فيه حضارةً عظيمة،امتدت من الصين شرقاً وحتى الأطلسي غرباً،حضارة لازالت أثارها موجودة مشاهدة ،بل أكاد أن أقول انها ملموسة،هذه الحضارة قامت على أساس الاسلام ،لقد نفخ القران في العرب روحاً جديدة أخرجتهم من الجزيرة العربية، فشرّقوا و غرّبوا،وانتشرت اللغة العربية مع الدين الاسلامي، و حلّت محل اللغات المحلية للبلاد المفتوحة فعرّبتهم في ظاهرةٍ فريدة في التاريخ ،فارتفع شأن العرب بهذا الدين .
 
3. التراجع:
ولكن هذه الحضارة التي بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري ،وظلت تنير سماء الأندلس قروناً طويلة،أصابها الوهن ،وامتد الخلل الى كل مناحي الحياة المادية و الروحية فيها،فظهر التعصب المذهبي، و أغلق باب الاجتهاد ،وجفت أقلام العلماء،و أصيبوا بالعقم الفكري،و أخذت تلك الدوحة الباسقة تذوي و تذبل .

   وفي ذلك الوقت نفسه تقريباً،كان الغرب يشيد حضارته متكئاًعلى مباديء استقاها من المسلمين،ويطور علومه على أساس العلوم الاسلامية .
 
4. الاستعمار:
وكانت الطامة الكبرى حين طالت يد الغرب الاستعمارية فامتدت لتسرق خيرات بلادنا وتقسمنا، بل أقول لتراثنا،نعم لقد ورثت تركة (الرجل المريض) ذلك الرجل الذي كان يمثل - بالرغم من كل عيوبه - الكيان السياسي الأخير الجامع للعرب والمسلمين، ذلك الرجل الذي ذُبح بسكين ابنائه قبل ان يذبحه الغرب .
 
5. صيحات المصلحين:
وتعالت الصيحات قبل ذلك وبعده ،صيحات المخلصين من أبناء هذه الأمة العربية الاسلامية ،مطالبة بالاصلاح،وكان جل هؤلاء من العلماء الذين تربوا على مائدة القران،وفهموا الاسلام دون واسطة (المتون) و( الحواشي الفقهية )،وكان من هؤلاء (محمد عبده)و(محمد رشيد رضا)وغيرهم من الذين طالبوا باصلاح نظام التعليم في الازهر ،واصلاح النظام السياسي،و طالبوا بالعودة الى الاصول الاولى لهذا الدين ،الى ذلك النبع الصافي العذب،قبل ان تعكره الخلافات المذهبية ، والصراعات الفقهية ، و النزاعات السياسية ، كما وطالبوا بفتح باب الاجتهاد لمعالجة القضايا المستجدة على ضوء الكتاب والسنة...
 
ولا تزال مطالب اولئك المصلحين حيوية في زماننا كما كانت حيوية في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين،وقد تعمدت التأكيد على خلفية اولئك الأفذاذ العلمية الاسلامية حتى أدعم أمرين:
الاول :ان الدين الاسلامي عامل مهم من عوامل النهوض والاصلاح،فالاسلام الحقيقي لا يقبل الظلم والجهل والتعصب والتبعية،والمسلم الحق لا يسكت على الظلم .
الثاني:ان فهمنا الخاطيء للدين (وليس الدين) كان من اهم أسباب الجمود والتخلف،و أضيف أيضاً أن جهلنا بحقيقة رسالة الاسلام كان من اهم اسباب الجمود والتخلف .
 
6. تجديد الدين:
لذلك كان لا بد من تجديد الدين ،وتجديد الدين لا يعني ان نزيد فيه ،أو أن ننقص منه،حاشا لله،ولكنه يعني التخلص من ذلك الركام الهائل من الافكار الخاطئة المنسوبة للاسلام، والاسلام منها براء ،حتى يتسنى لنا وللبشر أجمع رؤية الوجه الحقيقي المشرق للاسلام .
 
ولكن التجديد والاصلاح لا بد لهما من ضوابط:
أ_ لا يجوز المساس أبدا بالعقيدة الاسلامية.
ب_ لا يجوز المساس (بمعلوم من الدين بضرورة) كالصلاة والصيام والحج...الخ
ج_ لا يجوزلنا ان  نتجاوز نصا ( قطعي الثبوت قطعي الدلال) وهذا يعني ان لا نحرف او نزيد او ننقص من نص ثبت بالتواتر، ودلالته واضحة مثل قوله تعالى "حرمت عليكم الميته..."
د_ أن يفهم النص القرآني ضمن حدود اللغة العربية ، وكذلك السنة النبوية ، فلا نحمل النص ما لايحتمله المعنى اللغوي.
هـ_ ان نعرف ان لعقولنا حدودا لا يجوز لها ان تتجاوزها، ولعلي انقل هنا تحذيرا (لطه حسين) -الذي يعد من رواد التحرير للعقل ويعد من رواد التنوير عند قطاع عريض من المثقفين أصحاب النزعة العقلية الرافضة لكل قيدحتى قيد النص القرآني-  لقد حذر (طه حسين) من الاعتماد المفرط على العقل في الامور الغيبية تحديدا ، لأن العقل المحدود لا يستطيع ادراك اللامحدود...نعم،لقد صدق الرجل ، فالعقل الانساني وما توصل اليه من فكر مهما ارتقى فهو قاصر عن الاحاطة التامة بجميع الظروف في الماضي والحاضر والمستقبل، لذلك لا يجوز لنا باسم العقل والتنوير ان نلوي أعناق النصوص حتى تلائم ( موضة العصر ) او تلائم ( آخر مكتشفات العلم ) فهذا  امر خطير لان الفكر الانساني والعلم البشري ينفيان اليوم ما اثبتاه بالأمس ، ويمجدان اليوم ما استنكراه بالامس. فالنص القرآني الثابت وكذلك النص النبوي الثابت ، الواضحين في دلالتهما لا يجوز العبث بهما ، وللعقل بعد ذلك ميدان فسيح ليعمل فيه ، فهناك الكثير الكثير من القضايا المستجدة في كل زمان ومكان، لا بد ان نفكر فيها في ضوء النص القرآني وهذا عمل ليس بالهين.
و_ واخيرا فالتجديد والاصلاح لا يعنيان اعلان القطيعة التامة مع تراثنا العلمي والفكري فليس كل قديم مرفوض .
 
7. مجالات الاصلاح:
والعمل الاصلاحي المنشود متعدد المجالات ، فالخراب شامل ، فليعمل كل في مجاله الذي يسره الله له. فالتعليم يحتاج الى اصلاح، والاقتصاد يحتاج الى اصلاح ، والاخلاق تحتاج الى اصلاح ، نحن مطالبون بعملية اصلاحية شاملة تحتاج الى جهود الجميع ،

ولكني اعتقد ان علينا التركيز على مجالين :
الاول: التعليم والفكر.
والثاني: التربية والاخلاق.
 
8. الاصلاح السلمي :
والعمل من اجل الاصلاح يجب ان يكون سلميا، فلا مكان للعنف في الاسلام ، ولا مكان فيه لمن يروعون الآمنين ، سواء كان هؤلاء الامنين مسلمين ام غير مسلمين ، وقد يقول قائل هنا :
فلماذا شرع الاسلام الجهاد اذا ؟ فأقول :
ان الاسلام دين عملي ، ودين واقعي ، والواقع مليء بالاشرار الذين لا يتورعون عن القيام بأي عمل لتحقيق مصالحهم ، فماذا نصنع اذا اعتدى هؤلاء علينا؟! وماذا نصنع اذا احتلت ارضنا ؟! الجواب: علينا ان ندافع عن انفسنا ، وعلينا ان نناضل من اجل تحرير ارضنا...
هذه لمحة سريعة عن غاية الجهاد في الاسلام لا يسمح المقام بأكثر منها.
 
9. الاصلاح التدريجي: 
والاصلاح للخراب القديم الثقيل يحتاج الى نفس طويل، ويحتاج الى تدرج ، والتدرج سنة اصيلة من سنن الله في الكون ، فقد خلق الله السموات والارض في ايام ، وكان يستطيع ان يخلقها في طرفة عين، والرسول -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة اثنا عشر عاما لم يتنزل عليه فيها الا ما يتعلق بالعقيدة تقريبا فلما انتقل الى (المدينة المنورة ) بدأت ايات القران تتنزل بالتشريعات، بل ان تحريم الخمر نزل على مراحل متعددة.
 
10. احترام الرأي الاخر:
على كل منا ان يحترم رأي الاخر، وهذا ضروري حتى نعيش معا بسلام ، وضروري لان الخلافات في الرأي استنزفت كثيرا من جهودنا واوقاتنا ، فليعمل كل منا في ميدانه، وحسب قناعاته،وليترك الاخرين يعملون دون ان يشوش عليهم، ولله  در ( الأئمة الاربعة ) الأفذاذ الذين تواتر عنهم الاستعداد التام للتراجع عن أي رأي يثبت لهم عدم صحته، فما بال تلاميذهم يتناحرون؟!
 

11-  النقد الذاتي:

ان الانسان بطبيعته (خطـَّاء) ، ولهذا فليس من العيب ان نخطيء، ولكن المصيبة هي الاصرار على الخطأ خاصة اذا كان الباعث على الاصرار العناد والاستكبار. والحق اننا جميعا (افرادا وجماعات) بحاجة ماسة الى مراجعة افكارنا وأعمالنا باستمرار.

وبين يدي الآن مقالة بعنوان (درسٌ في نقد الذات) كتبها الاستاذ الدكتور ( طه جابر العلواني ) حاسب نفسه فيها حسابا ً عسيرا، اذ انتقد كتابا كان قد أصدره قبل اربعين سنة تقريبا، ولقد اعجبتني شجاعة الرجل العلمية اعجابا شديدا، لا سيما أن هذا نادر الحدوث في اوساطنا الفكرية، يقول الدكتور (العلواني) عن رأي قديم له:

"و ذلك مما أخجل منه الان ، ولا أحب أن يُنـسَب الي أو أنسب اليه" (1)

ولله در المفكر السوداني الدكتور (التيجاني عبدالقادر حامد ) اذ يقول :

"اذا سئلت من انا فسأقول انني أنتمي الى هذا الصِّنف من الناس الذين لا يقطع احدهم انتماءاته الموروثة  ، ولكنـَّه مع ذلك يحتفظ ببعد نقدي يمكنه من مراجعتها ونقدها ، وشجاعة تمكنه من النظر في موروثات الاخرين والتحرك في الفضاء الانساني بقلب مفتوح يبحث عن الخير المشترك بين الناس والحق الموزع على المصادر.."(2)

وإذا عدنا الى الوراء الى بدايات القرن العشرين ،وسرنا حتى منتصفه تقريبا ً،فسنقرأ عن تراجع د.(طه حسين) عن بعض أفكاره ، وسنقرأ كذلك عن مراجعات فكرية قام بها (محمد حسين هيكل) و (خالد محمد خالد) وغيرهما(3)

هذا على مستوى الأفراد ... ولكن ماذا عن الجماعات والأحزاب والمؤسسات ؟!

ان هؤلاء أولى (بنقد الذات) و (محاسبة النفس ) ، لأنهم انما قاموا من أجل الاصلاح والتغيير، والنقد الذاتي وسيلة مهمة من وسائل اصلاح النفس وتطويرها، اضف الى ذلك أن لأفكار هذه الجماعات وأعمالها أثرٌ كبيرٌ على أفراد المجتمع ، خاصة على الشباب منهم.

12- الحوار:

تحدثنا عن احترام آراء الآخرين، ونتحدث الان عن محاوره الاخرين فنقول:

ان الله –الحكيم الخبير – خلق الناس مختلفين ، جاء في سورة الروم:

(﴿ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين﴾)

والله العليم الخبير – دعانا الى التعارف، جاء في سورة الحجرات:

 (﴿يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير ﴾)

وعلى هذا الأساس يجب أن نسلم بأن الاختلاف سنة ٌ كونية، وطبيعة ٌ بشرية، ويجب أن نسلم ايضا ً أن الحقيقة الكاملة لا يعلمها الا الله ، ولا يجوز لبشر ادعاء احتكارها.

وبما اننا لا نملك الحقيقة الكاملة، وبما أننا جمعيا ً مجتهدون (نصيب ونخطىء) فلنستمع الى الآخر ولنتحاور معه، على نية البحث عن الحقيقة، وعلى نية تطوير ذاتنا، وعلى نية الوصول الى قواسم مشتركة تقرِّب المسافات بيننا، وتعيننا على التنسيق والتعاون من اجل المصلحة العامة... اذا كنا نبتغي وجه الله!!

ولسنا –والله- بأعلم ولا أحكم من الفاروق (عمر)؛ اذ تراجع عن وضع حد أعلى للمهور نتيجة لحواره مع امرأة.

ولسنا – والله – بأعلم ولا أحكم من (علي بن ابي طالب)؛ حين حاور الخوارج- وهم معارضة مسلحة لحكمه - فكانت نتيجة الحوار تراجع اعداد هائلة منهم عن فكرهم المتعصب، وعودتهم الى حضن الجماعة، فحفظت بذلك ارواح كادت ان تزهق بلا طائل.

والبيت والمدرسة هما الاماكن الاولى التي يتعلم الانسان فيها الحوار، أو يتعلم فيها الانغلاق على الذات...

 وبعد...

فهذه افكار في سبيل الاصلاح قد هدانا الله إليها ، و هي افكار ، مجرد افكار ، قابله للاضافة ، و الحذف ، و هي ، ابدا ، ليست فوق مستوى النقد ، بل و لا النقض ، المهم ان يلقي كل واحد منا حجره في الماء الراكد علنا ننجز النهضة المنتظرة منذ قرون ... 

وما توفيقي إلا بالله...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هذه الصورة مستوحاة  من كلام للدكتور(محمود السعدي) بهذا المعنى. 

(1) المقالة نشرت في مجلة الأزهر، وقد طرح الدكتور العلواني فيها افكارا مثيرة للجدل، الا اننا لا نملك الا ان نثمن شجاعته، ونعتبره نموذجا للمفكر الجاد الباحث عن الحقيقة.

(2) من مقالة للدكتور التيجاني عن الانترنت.

(3) للمزيد من التفاصيل راجع ان شئت المقالتان التاليتان للدكتور( محمد عماره):

-فرسان المراجعات العلمانيه-مجلة الازهر،شوال 1432هـ،سبتمبر2011 م

-مراجعات طه حسين-مجلة الازهر،رمضان1432 هـ،اغسطس2011 م