بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات (1)

 

هذا فصْلٌ مجيدٌ من فصول هذه السيرة النبوية المباركة، والحقيقة أنه يعد فيصلًا في تاريخ هذه الدعوة الإسلامية بأسرها؛ لأنه كان نقطةَ انطلاقٍ فاصلةً حاسمةً فيها، يوم أن شكَّلت هذه البيعة نواةَ الانتقالِ من مجتمعِ الشِّرْك في مكة المكرمة إلى أرض سهلة، وجداول عطاء، وغدير نماء، في هذه البُقْعة الشريفة من بقاع أرض الله تعالى الحكيم الخبير القدير؛ يثرب.

 

ولكن هذا الفصل فيصل في مسيرة العالم قاطبةً! لأنه كان مفترق الطرق بين باطلٍ زهوق، قد أبطل، وأسقط، وحطمت قيوده، وكُسِرت أغلاله، وبين حقٍّ مجيدٍ، قد استلهم قوته، ومن كونه حقًّا، ولا أكثر من هذا! ولأن الحق يحمل من بين سطوره نورًا فالجًا بالجًا، يسطع في الكون كله، فينير درب السالكين، ويوقع بتواقيعه الخالدة منارات السبيل، وسُبُل العارفين!

 

وأعالجه في ثلاثَ عشرةَ مسألةً:

المسألة الأولى: خبر عبد الله بن عمرو بن حرام

قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيِّد من سادتنا أخذناه، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرَنا، فكلَّمْناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيِّد من سادتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا[1].

 

إن تنصيب عبد الله بن عمرو بن حرام نقيبًا في العقبة الثانية فقه؛ لأنهم أنزلوا الناس منازلهم؛ وهو فقه دعوة يخبو كثيرًا؛ ولأن هذا عمل من أعمال النقباء! وإذ هم به يتميزون، وإذ هم عليه قائمون، وبه متلبسون، فينفرون إليه نفرة واحدة، ويتعاهدون عليه عزيمة نافذة!

 

إن إسلام عبد الله بن عمرو بن حرام وحضوره بيعة العقبة الثانية؛ دليلُ توفيقٍ ربَّاني لأولاء العصبة المؤمنة التي أحسنت دعوتها إلى الله تعالى، ولما كان وقتًا روحانيًّا ملائمًا. ومنه فإن اختيار أزمنة استشراف الخير من النفوس واجب شرعي، وكما أنه موجب توفيق إلهي!

 

إن افتقاد حكمة الدعوة؛ جهلًا بالدين، أو بأولويَّاته، أو بآدابه، وأخلاقه، تنتج ثمارَ صَبِرٍ مُرٍّ! ومجتمعًا هشًّا تذروه الرياح، حين هبَّت خفيفة لا عاتية!

 

إن حكمة اتبعت في دعوة عبد الله بن عمرو بن حرام كانت سببًا في استمالته، وكانت سبيلًا لإفاقته، لا تكن حجرة عثرة باسم الإسلام حين دعوتك.

 

يا أبا جابر، إنك سيِّدٌ من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا. وهذا ترغيب رشيد، ولأنه سيِّد من ساداتهم، ولأنه شريف من أشرافهم، وهذا ترهيب سديد؛ ولأنهم أرعبوه، وأرعدوه، وأوعدوه من أن يكون حطبًا للنار غدًا! وهذا الذي يقولونه: العلاج بالصدمة؛ إفاقة من غفلة!

 

المسألة الثانية: نخوة الأنصار ومروءة الأبرار

إنَّ ثلاثةً وسبعين رجلًا وامرأتين قلةٌ قليلةٌ، قياسًا على أعداد الناس يومهم ذاك، وبرغمه فتح الله تعالى بسببهم قلوبًا كانت غُلْفًا، وأسمع بهم آذانًا كانت صُمًّا، وأرى بهم أعينًا كانت عُمْيًا!

 

تكوَّنت قاعدة الأنصار خلال سنتينِ كاملتينِ، وكان قوامُها ثلاثةً وسبعين رجلًا وامرأتينِ. إن قلة مؤمنة واعية فتح الله بسببها آفاقَ الأرضِ كُلَّها! ومن عمل دؤوب، وخلال عامين اثنينِ! كانا من عمر الزمان أمدًا قصيرًا!

 

وهذا فنٌّ تعبوي مجيد، ومنه تتأسس قاعدة الانطلاق الأولى، على جاهزية علمية، عملية، دعوية، باهرة، ولتكون هي المكون لدعوة الجماهير العريضة، من ثم، ومن بعد.

 

ألم تر أن الله تعالى قال أيضًا: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

 

حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟! هذا قول الأنصار! وبعد سنتين وحسب! ولم يسمع مثله من قبل من قريش ذوي رحمه! وبعد عشر سنين دأبًا أذاقوا ابنهم فيها أشد العذاب!

 

وإذ كان أولى أن تتحرك في قريش نخوة القربى، وصلة الرحم! ولكن أولاء الأنصار وها هم قد شهد لهم التاريخ أنهم وإن كانوا ليسوا أولي قربى، وإذ هم أبعد أثرًا رحمًا، إلا أنهم أقوم قيلًا، وأقرب بذلًا، من أولئك أولي القربى! ولنعلم أنه تعالى يُقيِّض من عبيده من ينصر دينه بنا، أو بغيرنا؛ لأن من تصدَّى للحق، ووهب نفسه له، فإن له بذلك زاد الشرف، والسؤدد، والإلهام، والتوفيق، والرشاد!

 

إن عشر سنين دأبًا كانت كافيةً لإقامة الحجة على أهل مكة، حين يمكن أن يقولوا: تركنا وراح يدعو قومًا آخرين!

 

إن مكوث نبينا صلى الله عليه وسلم عشر سنين بمكة، داعيًا إلى الله تعالى، ولما لم يجيبوه، كان سببًا في تحويل الطريق إلى بيئة خصبة، ومن ثم ليعود صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا.

 

لا تقف محلَّك سر! بل سِرْ حيث وجدتَ أرضًا خصبةً لنماء زرعك، وفلاح غرسك!

 

مكث نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يقول: من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة. فلا يجد أحدًا يؤويه، ولا ينصره. وهذه رحم مزقتها الجاهلية!

 

إن إيفاء الأنصار ببيعتهم يوم العقبة الثانية كان أجره الجنة، وهو شرف يرنو إليه أحدنا، ولو كان بمثل فعل الأنصار!

 

المسألة الثالثة: النقباء نواب يثرب أجمعها

تنوع أهل العقبة الثانية: ما بين ذوي الأسنان، والشباب، والنساء، نيابة، وكناية، عن معاضدة مجتمع يثرب كله للدعوة الجديدة.

 

اجتمع أهل العقبة الثانية في الشعب عند العقبة، وهم ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتانِ، وإذ كانت من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء ابنة عمرو وهي: أم منيع، فهذا دلالة عمل المرأة العالي السامق الرفيع في ديننا، حين كانت حليفة الرجال في البيعة، ولما أضحت ذراعهم اليُمْنى في المشاركة، وعلى شرطه، ولأن المرأة المسلمة دُرَّة مكنونة، وياقوتة مصونة، أينما حلت، أو حيثما غدت.

 

تسلل أهل العقبة الثانية مستخفين ليلًا؛ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستخفاء وقت الاستضعاف حكمة؛ محافظة على نواة تأسيس لدولة فاتحة العالم بعدُ! وهذا فنٌّ تعبوي ممتاز.

 

أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم[2]. إن النقباء حلقة وصل بين القائد ورعيته، يتكلمون بلسانهم، ويرعون مصالحهم، أمانةً، وعهدًا، ودينًا، وميثاقًا غليظًا!

 

إن تأسيس قاعدة عريضة- أو غير عريضة- تكون نواةَ التأييد، والعون، والمساعدة، والمؤازرة، سنن نبوي كريم، نفيده من أولاء الرهط الكرام، أهل العقبة الأولى والثانية، ولهم منا كل تحية، ومحبة، وثناء؛ ولوقفتهم جانب نبينا ونبيهم صلى الله عليه وسلم، حين جاءهم ليخرجهم من ظلمات الكفر وغياهبه، إلى نور الإسلام وبواعثه، وخواطره، وشمائله!

 

كان موجز بيعة العقبة الثانية أنها على الإسلام والنصرة والمنعة.

 

المسألة الرابعة: العباس يحضر بيعة العقبة الثانية

يبقى القول: إن أهل مكة لم يطبقوا جميعهم على عداء نبينا حميةً - ويوم حصار الشعب كان برهانًا، ولما أسفت له طائفة، ورغم كفرها أيضًا!- ولأنهم حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم بتسليم أحدهم مقابله، وكان رفض عمِّه أبي طالب بوصفه نائبهم. وإنه ولئن كان فردًا واحدًا، إلا أن وقفته كانت تعدل وقفة أمة بأكملها، وحين كان حائطًا، سدًّا، منيعًا، حصينًا لهذا النبي صلى الله عليه وسلم، تسخيرًا ربانيًّا كريمًا، قبل وبعد أي شيء آخر!

 

رغم أن العباس كان لا يزال مشركًا ليلة العقبة، إلا أنه حضرها؛ كناية عن بقية خير، ولو في قلة من عصبة نبينا صلى الله عليه وسلم.

 

حضر العباس عمُّ نبينا صلى الله عليه وسلم معه ليلة العقبة الثانية؛ توثيقًا لعهد جديد، يقوده ابن أخيه، مؤتمرًا بأمر ربه تعالى، بلاغًا، ودعوة، وفتحًا.

 

كان سماح نبينا صلى الله عليه وسلم بحضور عمِّه العباس ليلة العقبة الثانية حكمة، نصيرًا، وكسبًا، وأنه لم يتخلَّ عن آله! وإن تخلوا هم عنه! وهذه من أخلاق النجباء الكِرام الأفذاذ.

 

كان حضور العباس ليلة العقبة الثانية دليلًا على كم كان أثر الإسلام فيه! ولما أسلم يومًا، مناصرًا، ومنافحًا، توبة، وأوبة، ونصرة، وفلاحًا، وصدقًا.

 

كان اختيار الله تعالى أن يحضر العباس ليلة العقبة الثانية؛ ولأمر يعلمه تعالى، فلربما تركت في نفسه أثرًا ليسلم من بعدها!

 

كان حضور العباس ليلة العقبة شاهدًا على عزة تبوَّأها ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكن لهم قصب السبق فيها، وها هو إذ يراها بأم عيني رأسه! وليس نقلًا خبرًا عن أحد!

 

كان حضور العباس ليلة العقبة شاهدًا على نصرة الأنصار لابن أخيه، حرمت سبقها، وشرفها، وفضلها، قريش! وربما لم يَدُرْ في خَلَدِه أنه سيعود إليها يومًا فاتحًا.

 

إنه كان سماح نبينا صلى الله عليه وسلم بحضور عمِّه العباس ليلة العقبة الثانية؛ ولعله يرق فيسلم؛ لأن سماع الخير غير مرة لربما أحدث في القلوب زلزلة فتفيق! وهذا أمر مشاهد!

 

كان حضور العباس ليلة العقبة الثانية برهانًا على حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه، حتى وإن ناصره غيرهم؛ لأن المسلم له منظار كاشف للعالم كله.

 

المسألة الخامسة: وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12].

أي: كفيلًا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه[3].

 

جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنبيه إبراهيم عليه السلام: قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وكثرته وعظمته جدًّا جدًّا، وسيلد اثني عشر عظيمًا، وأجعله لأمة عظيمة[4]. وهذا خبر آخر يبين سرًّا في اختيار العدد اثني عشر!

 

وهذا قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((يكون اثنا عشر أميرًا))، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: ((كلهم من قريش))[5].

 

قيل: في حكمة الاثني عشر نقيبًا؛ لأن عدد قبائل الأنصار اثنا عشر.

 

لكنه سيبقى السؤال قائمًا: ولم في الاثنتي عشرة خليفة؟! ولم في نبي الله موسى عليه السلام، ولم في قوله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام؟! ولم اثنتا عشرة خليفة، وكلهم من قريش؟! ولم اثنتا عشرة عينًا؟! ولم اثنا عشر شهرًا؟!

 

إن ذكر العدد اثني عشر نقيبًا، أو ما سواه في غير موضع، وعلى اختلاف المصادر التاريخية الموثقة، ليقف بنا عاجزين قانتين، أن وراء كل ذي علم عليمًا، وليعرف أحدنا قدره أمام عظمة ربٍّ قد أحاط بكل شيء علمًا!

 

لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا لاثنتي عشرة خليفة واثني عشر نقيبًا في العقبة الثانية، واثني عشر نقيبًا في قصة موسى عليه السلام، واثني عشر عظيمًا من ذرية إسماعيل عليه السلام! و﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36] هذه حكم نقف عندها!

 

إن العدد اثني عشر له أمده، وسره، ومعناه، وغايته، وسبيله، وحين وقع اختياره، عملًا ربانيًّا كريمًا، نقف أمامه منبهرين، مشدوهين من قدرة ربٍّ قدير قادر سبحانه!

 

إن مسألة الأعداد في هذا الكتاب العظيم الكريم الخالد لتُمثِّل إعجازًا! نقف أمامه مطأطئين رءوسًا، ولسنا أمامه نرمش رمشًا، وأمام هذا الإعجاز الباهر لهذا القرآن الكريم الخالد أيضًا.

 

وهذه مسألة لها بحث آخر أعمق، وغايته أنه إعجاز، وإن كنا لسنا نملك حياله من تفسير أو تأويل، وهذا هو عين الإعجاز أيضًا!

 

وهذا هو عين التعبُّد، والتسليم، والانقياد، والإسلاس أيضًا.

 

المسألة السادسة: عمل النقباء

إن النقباء نواب ناصحون للراعي والرعية، ويفقدون ثقة الراعي قبل الرعية، وحين جاؤوا، وكأنما ليصفقوا، بدل أن يشيروا مشورةَ صدقٍ ونُصْحٍ وإرشادٍ.

 

إن حيدة النقباء غِشٌّ للراعي، حين يمال بهم عن سبيلهم، أو لما يحاد بهم عن طريقهم، وهم إذ يعلمون ميلًا عن حق، أو جورًا محققًا؛ لأنه يريد أن يسمع قول: لا، إذا حاد؛ ولتصحيح مساره، فلا يخرج عن جادته، ولا يعاق عن مسيرته!

 

النقباء نواب الأمة، ينقلون إلى الراعي أحلامها، ويبثون إليه أوجاعها، وهم ليسوا بمصفقين؛ لأنهم ولدوا من رحم أمة استأمنتهم على مصالحها.

 

النقباء نوابُ صدقٍ، يكونون سراجَ نورٍ مضيئًا في ظلام الناس الحالك، يوم أن يكونوا صنوانًا للحق، وصمام أمان، وحُرَّاس عقيدة لأمتهم.

 

النقباء نواب مؤتمنون على إيصال نبض الأمة إلى واليها؛ رعاية لمصالح الأمة فردًا فردًا، وهم وكلاء ضامنون عدله، وهم مفوضو رعيتهم، يضمنون لهم عدله، ويكفونهم ظلمه، وميله، وحيدته.

 

كان للنقباء دورهم الإيجابي على مدار التاريخ كله، ومع نبينا صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة، ومع نبيه موسى، ومع نبيه عيسى- عليهم السلام- وهم أمناء لقومهم، ناصحون لراعيهم.

 

إنه حين يقوم النقباء بدورهم المنشود، ناصحين بالحق، وبه يعدلون، سيلقون حتمًا آذانًا مصغية؛ لأنهم ينبضون بنبض قومهم، ولأنهم يعرفون معروفًا، وينكرون منكرًا؛ كانا أصلين من أصول بيعتهم، وائتمانهم على مصالح الرعية.

 

الراعي الواعي بَشَرٌ، يسري عليه قانون الخطأ، والسهو، والنسيان، ويريد نقباء يقوِّمون اعوجاجه، ويثمنون صلاحه، فهم وسط حين ينصحونه، أو يؤيدونه، أو يعارضونه!

 

((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره))، أرأيت وظيفة النقباء النواب؟! فحسبهم أنهم يستنون بسنته، وحسبهم أنهم يقتدون بطريقته، وهذا مقتضى عبوديتهم لربهم، وقَّافون، لا يميلون عن الوحي ميلة واحدة!

 

ولأنهم وحين كان هذا وصفهم، فإنما هم به أصحاب أُبَّهة! وإنما تحمل هذه الصحبة معاني الدلال، ووشائج القربى، وأواصر الرحمة؛ وإنما هم به حواريون! وإنما هم بها ينعمون في ظلال العبودية الوارفة! وهذه نعوت خصوصية تشي بفضلهم وعزهم وعبوديتهم.

 

وإنما هم أولاء الحواريون، بعض من أمته، وليس كل رعيته؛ دلالة على اختصاصهم من فضل، وبرهانًا على اجتبائهم من استنان، واحتذاء، واقتداء!

 

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خَرْدَل))[6].

 

إن البحث في عمل النقباء الاثني عشر بوصفهم نوابًا وكفلاء أقوم سبيلًا من البحث عن حكمة عددهم هذا الاثني عشر!

 

لكننا نؤكد ونعيد التأكيد على أن هذا خارج طاقاتنا؛ وليبقى برهانًا ضافيًا على أنه تعالى له طلاقة القدرة النافذة والعلم اللامحدود!

 

أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي أي: المسلمين[7]. هذه كفالة النقباء على قومهم، وهذه كفالة النبي صلى الله عليه وسلم على كل المسلمين! ولأنه صلى الله عليه وسلم أمين من في السماء على من في الأرض، ويأتيه خبر السماء صباحًا ومساءً، ومنه فصارت كفالة مركبة! وهذه رعاية مصالح الشعب رعاية كاملة!

 

إن ادعاء الشيعة في الاثني عشر أنهم منهم يخالف نص الإمامين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى أنهم من قريش، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلهم من قريش)).

 

لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنتا عشرة خليفة، كلهم من قريش[8]. وهذا علم نبوة ضافٍ آخر!



[1] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٢ / ١٩٤].

[2] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٢ / ١٩٨].

[3] [جامع البيان، ابن جرير الطبري: ج ٦ / ٢٠٣].

[4] [العهد القديم: سفر التكوين، الإصحاح السادس عشر. وإمتاع الأسماع، المقريزي: ج ٣ /٣٨٣].

[5] [صحيح البخاري: 7222].

[6] [صحيح مسلم:50].

[7] [الطبقات الكبرى، محمد بن سعد: ج ٣ / ٦٠٢].

[8] [صحيح مسلم: 1822].