ابتاع جدي – رحمه الله تعالى – في شبابه من تاجر قصيمي بضاعةً قد نسي أن يدفع له ثمنها !
ارتحل بعدها – أي جدي - على الجمال تلكم الفترة إلى محلة أخرى ، وفي المقابل سأل عنه التاجر القصيمي بعض من ظن أنهم يعرفوه أو قد رآهم يوماً يحادثوه بعد أن أهداهم أوصافه ، فكان جواب الجميع من معارف جدي أن قالوا : " ذلك الرجل نحن مكانه ، فأخبرنا - يا عم - كم تريد منه ؟ ونحن الآن سندفعه لك " ! فشكرهم هذا التاجر القصيمي لما سمع جوابهم ، ثم قال : " لا أطلبه شيئا " !
بعد ارتحال جدي – رحمه الله تعالى – بمسافة يوم تذكر نسيانه إيفاء هذا التاجر حقه ، فأخبر مرافقه بهذا ، فأشار عليه المرافق أن يؤجل سداده لحين رجوعهم ، فكره جدي ذلك ، وقال : المسافة بيننا لم تبعد ، وأخشى أن يفرق بيننا الموت ، ولذا سنعود غداً لإيفائه حقه !
من بعد الغد كان جدي في دكان هذا التاجر الذي كان من قدامى العقيلات ، فصبّحه بالخير ، ثم دفع له ماله ، فما كان من جواب ذلك التاجر إلا أن قال : " بِعِذرَهم " !!
سأله جدي : من هم هؤلاء ؟ وما هو العذر ؟!
قال التاجر : هم أصيحاب لك ، ما أن وصفت أشباهك لهم إلا وتنادوا جميعاً غارمين عنك دينك ، فلما أن رأيتك الآن تعود بعد مسافة يوم لسداد مانسيته قلت : لهم العذر أن يكفلوك شخصاً ويغرموا عنك مالاً ، فمن هو في مثل سجاياك يستحق هذه الثقة !
يقول جدي : راقني هذا الشيخ الكبير بحديثه وثنائه ، فجلست إليه ، آخذ منه أخباراً وأعطيه خبراً ، فكان مما كان أن قصّ عليّ طرفاً من أمره وشأنه ، فقال :
كنت شريكاً لأخ يكبرني ، نرحل مع العقيلات وننزل ، وغالب رحلتنا كانت إلى فلسطين ومصر ، نبيع ما نرحل به معنا من نجد من جمال وماشية ، ونبتاع ما نحتاجه من تلكم الديار لنجد كرةً أخرى .
مضينا على هذا زمناً حتى حدث ما لم يكن لي بحسبان ولم يخطر لي ببال ، ففي منطقة " الحماد " الواقعة بين طريف وعرعر نشب بيني وبين أخي خلاف ، زادت حدته ، فأنكر حقي وشراكتي له ، ثم طردني من القافلة ، ومنعني من رفقتها إلى فلسطين – ذلكم الزمان - !
شفع لي بعض رجالات الرحلة عنده ولكن دون جدوى ، ثم توصلوا إلى شرٍ هو عندي وعندهم أهون من شر ، وذاك أن يعطني أخي جمالاً أرتحل عليها ، فمنطقة الحماد معروفة بأنها منطقة لا شجر بها ولا حجر !
أعطاني ثلاثة جمال فقط هي من أربع رعايا كنت شريكه فيها ( الرعية من أربعين جمل إلى خمسين ) ، ثم واصل رحلته غرباً إلى فلسطين ، وأما أنا فهيهات أن أعود إلى القصيم ، فعزمت الرحلة إلى بغداد !
طفقت أبيع وأشتري في بغداد ، ثم انتعشت شيئاً ما ، فصار لي تجارة تدور بين العراق والشام ، وحلت البركة ، وتتابع الخير ، فمكثت هناك سنوات عديدة على هذه الحالة المُرضية إلى أن قد فاض المال من يدي فلم أستطع لمّه ولا زَمّه ، فقررت لحظتئذٍ العودة إلى نجد ، ثم اشتريت هذا الشارع التجاري - الذي نحن فيه - بمحلاته كلها ، فهي لي جميعها بين مملوك مستثمر ، وآخر مؤجَّر ، وأما أخي – سامحه الله تعالى – فإنه قد افتقر فقراً شديداً قبل موته ، والآن زكاتي أدفعها إلى بنيه وبناته !!
تنهد هذا التاجر ثم قال لجدي في إيمان ويقين : " والله يعلم – يا بني - بأني لا فرِح ولا حزين على هذا المال الذي يتساقط كما المطر في حجري آخرة عمري ، إذ إني أعلم يقيناً بأن هذا رزق لا بد أن أستوفيه قبل منيتي " !
( الصورة هي لجدي رحمه الله إبان إمرته على إحدى النواحي قبل خمسين سنة ) .
آيدن .