في أكسفورد عدد من المساجد ، كما ويوجد بها مركز إسلامي يقع في وسط المدينة .
كنا نصلي الجمعة في مكان يستأجره المسلمون العرب ، يتحول بعد الصلاة إلى أشياء أخرى ( ثمة مساجد ؛ ولكن الخطبة فيها باللغة الأردية ) .
خطبنا ذات مرة شيخ سعودي ، بلباسه الوطني ، وكان موضوع خطبته مناسباً جداً ؛ إذ تحدث عن الإلحاد والإيمان بوجود الخالق ، وهي أمور قد تتعرض عقيدة المسلمين هناك .
انتقالاً من هذا الشأن ؛ فإني أخبرتكم بأنّ " مارك " قد بدأ ظله يخف عندي ، وهو – أيضاً – كان قد بدأ يهضم بساطة وطيبة هؤلاء الطلاب غير المبالين .
كان المعهد يضيق بالطلاب ؛ ولذا قد استأجروا لنا فصلاً آخر لدى معهد مجاور ، وبسبب هذا التغيير العجيب ؛ فإني قد جئت متأخراً إلى الدرس ذلك اليوم ؛ لعدم علمي المسبق بتغيير الفصل إلى هذه الدرجة من المستوى ( كانوا يغيرون فصلنا في المعهد ، ونزل بيننا التقدير إلى تغيير المبنى بأكمله ) !
على أية حال ، حضرت متأخراً فجلست بجوارطالبةتركية اسمها" إيمي " ، وأثناء حل التمارين طلبتُ من إيمي القاموس الذي كان معها . أراد مارك أن يمارس معي فوقيته الساخرة والمعتادة ؛ فقال : آيدن ، المعجم باللغة التركية !
قلت له : لا يوجد مشكلة ؛ فأنا أتحدث التركية !
قال بسخرية : جيد !
التفتُ فوراً إلى إيمي ؛ ثم تحدثت معها حديثاً سريعاً باللغة التركية - كان هذا الحديث هو كل ما أعرفه وأُجيده حينئذ من هذه اللغة - وهي كانت ترد علي وتضحك !
استغرب مارك ...!
حسناً : خذها جديدة على وجهك :)
في أحد تلك الأيام السعيدة ؛ جاءني أحد الضباط الإماراتيين ، فقال لي : سننزل لندن هذا الأسبوع ؛ لحضور حفلة الفنان " رابح صقر " ، فهل ستصحبنا ؟
قلت : معليش معي حموضة ( يعني لو كان محمد عبده تنبلع شوي ) !
عدتُ إلى المنزل ولكن كان معي فكرة السفرة إلى لندن وليس حفلتهم ؛ فقلت لسوزان أريد الذهاب إلى لندن هذا الأسبوع ، فاحجزي لي فندقاً !
سارعت فوراً إلى حجزه ، من خلال بطاقة صرافها الآلي ( الثقة في أقصى درجاتها بيننا تصل ) .
سافرت إلى لندن ، ومكثت فيها نهاية الأسبوع .
ما من جديد هناك ؛ سوى أني التقيت بابن جيراننا صدفة في أحد المحلات ؛ وكانت مفاجأة سعيدة لكلينا ، ولكنها جاءت متأخرة ؛ لأني كنت أتأهب للمغادرة نهاية الأسبوع القادم .
ابن جارنا يدرس في " بورنموث " ، وهي المدينة الأكثر شهرة عند الخليجيين في مجال دراسة اللغة ، ولا أدري حتى الآن عن السبب في هذا الارتباط التعليمي ببورنموث لدى الخليجيين !
تأخرت في لندن مع ابن جارنا ، ولذا عدت متأخراً إلى أكسفورد ، في ليلة قد سببت لي نوع خوف ورهبة !
الإنجليز نهاية الأسبوع يتحولون إلى همج ورعاع ، فينزلون للأندية الليلية ، يشربون ، ويرقصون ، ويتحرشون بالمارة !
وصلت أكسفورد منتصف الليل ، ويا قلباه !
موقف الحافلات يقع منتصف أكسفورد ، والطريق إلى الشارع الذي أريد الركوب منه إلى المنزل لا بد فيه من المرور بالأندية الليلية !
نزلت من الحافلة ، ووصلت منطقة تجمع الأندية الليلية ، فرأيت الإناث يمضين بملابس السهرة ، والشباب يرقصون ويغنون ويتحرشون بالمارة ، كما وآثار الشرب بادية على تصرفاتهم !
تنتابني لحظات جنون ، فأخذت أمشي كما لو كنت ثملاً – طمعاً أنّ يكون هذا التصرف يـقيني من أي تحرش لفظي أو جسدي !
في أحد الممرات سمعت أصوات مجموعة من الشباب قادمين نحوي وهم يغنون ، بدأ الخوف والتوجس يتسرب إلى داخلي !
فعلاً ظهروا أمامي ، وتقدم أحدهم نحوي ، وقال كلاماً حاداً لم أفهمه ، ثم مضى !
همسة : عليك أن تكون هادئاً في هذه الحالة ، وصنماً لا يتكلم ، اترك هذا الثمل يقول ما في نفسه ، فإنه سيمضي بعدها .. المهم ألا ترد عليه ، أو تلمسه .
مشيت قليلاً ؛ فجاءني ثمل عمره يتجاوز الخمسين ، وقال أنا من ايرلندا ، فمن أين أنت ؟ قلت : من السعودية !
عانقني ثم أخذ يردد بانتشاء : أنا أحب السعودية .. أحب السعودية ! ثم تركني ومضى !
بالمناسبة : في كل مكان من العالم هناك مناطق مخصصة بالنكت والطرائف ؛ ففي مصر يحضر الصعيدي ، وفي السعودية تحضر عدة أماكن ، وفي بريطانيا فإن النكت كلها منصبة على الأيرلنديين المساكين !
على أية حال ؛ فإني قد تجاوزت النقاط الساخنة في وسط المدينة ، ثم ركبت الحافلة إلى أن وصلت الشارع المؤدي للمنزل ، والذي يستغرق مشياً على الأقدام قرابة عشر دقائق ( الحافلة لا تدخل الأحياء ) .
الجو كان بارداً وموحشاً ، والطريق خال تماماً من المارة ؛ فأخذت أمارس رياضة الجري :)
دخلت المنزل ؛ وبدأت النقر بأطراف أصابعي فوق سلمه الخشبي حتى وصلت غرفتي ؛ ثم ألقيت بجسدي على سريره وغطست بعدها في نوم عميق دون أن أبدل ملابسي !
في الصباح احتجت حلاقاً ؛ خرجت من المعهد فترة الراحة أبحث عن محل حلاقة ؛ وجدته ، فأخذت أشرح لهذا الحلاق ما أريد ، لكنه كان يهز لي رأسه بأنه لا يفهم شيئاً مما أقول ، بدأت أشرح طلبي الذي أريد بيدي ، وأمثل له متعباً بُغيتي ، لكن دون جدوى ، لتنطلق من المحل حينئذ أغنية عربية ، فأغرق أنا والحلاق بعدها بالضحك الشديد !
نعم ؛ لقد كان شاباً سورياً أراد فقط أن يمازحني قليلاً ؛ لأنه عرف بأني عربي ، فلا مانع إذن من صناعة موقف طريف في هذا البلد الصارم !
جلست ؛ وأخذ يحدثني عن قصته التي قد تكرر سماعي لها من مغربي ، ومصري ، وخلافهما !
إنها قصة الزواج من غربية ، وما يعقبه من طلاق ، وتشتيت للأولاد !
المحكمة كانت حكمت لمطلقته بابنها ، وأخذته هي منه ، وتمنعه من رؤية ابنه في غير الوقت المحدد له من المحكمة !
كان أثر اللوعة والحرقة بادياً عليه ! كان يؤكد لي بأنها كانت تحبه ، وتقبل يديه وقدميه ، ثم فجأة قلبت له ظهر المجن !
يقول لي : هنا يا أخي قلوبهم غريبة ، قلوب كفار ، تموت الأحاسيس عندهم فجأة ، وتتوقف المشاعر وهلة !
قلت له : ليست المصيبة الكبرى في أخذها لابنك ، ولكن الصاخة التي لا تُحل عزاريها أن يكون ابنك كافراً وأنت مسلم !
رفض أن يأخذ مني أي نقود ؛ لأنه قد ارتاح لمواساتي إياه ، ولكني رفضت بشدة ، وأقسمت – بالإنجليزي :) – أن يأخذ حقه ؛ فأخذه حينئذ شاكراً ومشكوراً !
جمال النساء في بريطانيا ليس في إنجلترا ، ولكنه يجيء من الشمال ( اسكتلندا ) !
ولذا ؛ إن رأيت عربياً قد " سعبل " فتزوج بريطانية ؛ فاسأله حالاً : هل هي من اسكتلندا ؟! فإن أجابك : نعم ! فقل : لله در من أخبرني !
على أية حال :
لبيت تخفق الأرياح فيه /// أحبُ إلي من قــصــر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني /// أحبُ إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة من كسر بيتي /// أحبُ إلي من أكل الرغــيف
وأصوات الرياح بكل فج /// أحبُ إلي من نقر الدفـــوف
وكلب ينبح الطرّاق دوني /// أحبُ إلي من قط ألــيـــف
خشونة عيشي في البدو أشهى /// إلى نفسي من العيش الظريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً /// فحسبي ذاك من وطن شريف
أبيات شهيرة لميسون البحدلية ( زوجة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وأم ولده الخليفة يزيد ) قالتها بعد انتقالها من البادية وسكناها دمشق بعد زواجها من معاوية ؛ فكانت هي سبب طلاقها !
إنه الحنين إلى الوطن ، ومحبة العوائد ، وتغلغل المفطور !
تذكرت هذه الأبيات وأنا مع " خالد " البدوي الإماراتي ، الذي جاء من البادية ، وليس من دبي أو أبو ظبي !
يتصل خالد يومياً على راعيهم السوداني ؛ ليسأله : هل ولدت الناقة الفلانية ؟ وما فعل " الفحل " الفلاني ؟!
سألته ونحن على ضفاف " التايمز " : أتشتاق إلى الصحراء والإبل ؟!
فتأوه بحرقة ؛ وقال : فوق ما تتصوره وتتخيله !
كان خالد مجبراً على الحضور هنا ، ولذا هو يتصل بأبيه كل مدة ؛ يتوسله ويرتجيه أن يسمح له بالعودة إلى الإمارات ، ولكن والده يرفض ويتهدده !
على أية حال ؛ فإنّ حالة عجيبة قد بدأت تمر على الطلبة دون استثناء ؛ إذ ظهرت علامات نقص اللياقة الاغترابية ؛ فبدأ الجميع يحن إلى وطنه وداره !
الصيف آخذة أيامه بالتناقص ، وموسم العودة إلى الديار قد لاح نجمه ، والجميع قد استنزف مخزونه من السعادة والجديد ، فبدأ احتياطي الحنين يفرض وجوده وحضوره !
الضباط الإماراتيون قدموا موعد رحلتهم ، السعوديون كذلك ، وأنا مع الجميع !
في آخر عصر اجتمعنا في السوق ، وتسكعنا كثيراً ، والجميع حينها لا يريد العودة إلى المنزل ؛ فكأننا كنا نشرب بعضاً قبل الرحيل !
بدأ العدد يتناقص من السوق ، لينتهي بي وثانٍ سعودي ، وثالث كويتي !
كنت أنا الأب الروحي لهذا الشاب الكويتي ؛ أو لنقل الولد ؛ لأنه كان في الصف الثالث متوسط !
ينتمي لقبيلتي التي أنتسب إليها ؛ ولذا كان متعلقاً بي ؛ آخذه معي ، وأرده لي !
كانت رحلته بعد أسبوع ؛ وأنا غداً أترك أكسفورد ، استأذنت منهم ؛ فقال لي : خلاص ؟
قلت له : خلاص !
احتضنني طويلاً ، وذرفت عينه !
مضيت إلى الشارع ، ألتفت إليهما ، نبتسم ، ونزدرد !
وصلت المنزل ، جلست مع العائلة ، سألني أفرايم عن موعد الرحيل ؛ قلت له : التاسعة إن شاء الله !
قالت سوزان : السنة القادمة مكانك هنا محجوز ، ولن يأخذه أي أحد !
قال أفرايم ؛ سأكون في المنزل غداً ، وسأحضر لك الحقيبة في الوقت المحدد من المستودع الخارجي !
ياه ؛ حقيبتي !
نسيت شكلها يا أفرايم !
ضحك الجميع ؛ ثم استأذنت الطلوع إلى غرفتي !
استلقيت على السرير ، وليس في ذهني إلا دموع سيف ( الولد الكويتي ) !
ليته ما بكى ؛ فالأمر لا يستحق كل هذا الخشوع !
كدت – والله – أن أؤجل رحلتي !
في الصباح كان أفرايم في الموعد المحدد يطرق باب غرفتي ، ويعطيني الحقيبة ، بدأت أضع ملابسي فيها ، وقلبي بين رغبة في البقاء وشوق إلى الخروج ( كما جئت متردداً ؛ غادرت متردداً ) !
نزلت ، وسألت عن سوزان ؛ فقال : ذهبت إلى موعد عند طبيب الأسنان !
ودعته ، ولكنه أصر على أن يقوم بإيصالي إلى موقف الحافلات !
وضعنا الحقيبة في مؤخرة السيارة ، وحضر الدُوار البريطاني " الشهير" الذي حدثتكم عنه ؛ فقد تقدمت وركبت محل السائق !!
قال لي أفرايم : أين ستصلي الجمعة ؟! قلت : في الطائرة طبعاً ! قال أنا سأعود للبيت وألبس ملابسي ؛ ثم أذهب لصلاة الجمعة !!
ماذا ؟!!!!
هل أنت مسلم ؟!
قال : نعم مسلم .. لقد أخبرناك منذ أول يوم جئتنا به أنني مسلم !
قلت لم أنتبه لضعف لغتي ! ضحك وقال : أنا مسلم يا سبهه ( طبعاً إسلامه هو إسلام أوربا الشرقية ) !!
قلت له : كنت أشعر تجاهك بمودة لا أدريها ، والآن عرفت السبب والارتباط !
عانقني أفرايم ، وودعني مؤكداً أن سوزان تقول يجب أن يعود الصيف القادم ؛ فقد كان مريحاً لنا جداً !
بالمناسبة ؛ كانت سوزان قد طلبت مني أن أترك السنتات ( الهللات ) التي لا أحتاجها ؛ وأرتني علبة مليئة بهذا النوع من النقود ، وقالت أنها تتبرع بها لكنيسة !
في الغرفة ترددت ، ثم قررت أخذ جميع هذه النقود ! ( ليتها قالت أنها ستأخذها لها ؛ فإني حينئذ لن أمانع ، ولكن من الصعب أن أعين على شرك ) !
لا أذكر أي ملاحظة من سوزان قد صدرت تجاهي إلا مرة ؛ كانت حين دخلت المنزل متعباً ؛ فتوجهت إلى المطبخ وقلت لها : أعطني ماء !
نظرت إلي بتأديب يمتزج بتأنيب ؛ ثم قالت : بليز !
أي قل " بليز " !
هنا معلومة اجتماعية : يكره الإنجليز بشدة – بل بتزمت – أن تطلب منهم طلباً ؛ ثم لا تعقبه بكلمة " بليز " !
نحن أيضاً نستخدم هذا الأسلوب من خلال كلمات " بالله عليك – الله لا يهينك – لو سمحت ... الخ " .
أؤكد أخرى .. الإنجليز تهمهم هذه الكلمة ( الاجتماعية ) بشكل كبير !
ركبتُ الحافلة ، ونشأ في داخلي تخوف من رحلة ضياع وتيه في مطار " هيثرو " !
يا لسخافتي ! لقد نسيت أني في بلد النظام !
في الحافلة المتجهة إلى هيثرو كان ( الكابتن / سوّاق :) ) ؛ يخبرنا جميعاً أين سينزل أيٌّ منا !
جئته فقلت له : أريد الخطوط السعودية ؟
أخرج ورقة من درج الكابينة ؛ ليعرف موقع الخطوط السعودية ؛ ثم قال : حسناً ، البوابة رقم ( ... ) هي الموقع المحدد ؛ فلا تنزل حتى أناديك !
لما نزلت ؛ قال لي : امسك المسار رقم ( ... ) لا تذهب يميناً أو يساراً ؛ إلى أن تلقى خطوط بلدك !
ما أجمل النظام والدقة !
فعلت ما قد وجهني إليه ، غير أني صادفت في طريقي عجوزاً فلسطينية بلباسٍ ريفي ؛ لا تقرأ ولا تكتب ، كانت قادمة من زيارة ولدها في أمريكا ، ثم إنها تاهت هنا !
فعلت الخير الذي لا يعدم المرء جوازيَه ؛ فمشيت معها إلى أن أوصلتها مرادها !
دعت لي ، وقالت : ربي لا تحرم العرب من بعض !
أقلعت بنا الطائرة السعودية ، وكنت متحمساً لوداع بريطانيا ؛ ولكن كالعادة ، غيومها تمنعك .. فتسترها !
وكما العادة أيضاً ؛ بقيت متيقظاً لحين التأكد من سلامة قوى الكابتن العقلية ، ومهارته القيادية ، ثم خلدت إلى نوم متقطع !
لفحتني سموم وطني الساخنة ، ولكنها كانت ألذ عندي من نسمات أوربا !
إنه وطني ؛ مبعث الإسلام ؛ ومهد العروبة ، ومرجع الفطرة ، ومرتكز الشيم !
ثم :
هب جنة الخلد اليمن /// لا شيء يعدل الوطن !!
آيدن .