تتالت الأيام في أكسفورد ، وكل يوم يحمل جديداً معه ، أو يلد عجيباً فيه .

لا أنكر ؛ مرّت بي فترات أحسست فيها بشيء من الوحشة أو الملل أو الرتابة ؛ فأنا في بلد يميل إلى الرتابة أصلاً - كما أنّ المناخ الجوي فيه يبعث على الكآبة ، فهو بلد الفصول الأربعة في يوم واحد ( أربعة في واحد ) ؛ ولذا يقول الإنجليز : ثلاثة لا تأمنهم : المرأة والطقس والوظيفة !

بعيداً عن هذا ...

كانت علاقتي مع صاحبة المنزل جيدة ، وقد بدأتُ أتقبل أنظمتها الصارمة ، لأنها كانت سيدة مرتبة ، ومنظمة ، ونظيفة !

تصحو باكراً – ولا أدري لماذا تصحو باكراً ؟ - فتارة أستحم أنا قبلها ، وأخرى بعدها !

تدخينها منضبط ، لا تشرب الخمرة ، أو لنقل لم أرها تشربها ، كما أني لم أرَ في ثلاجتها أي زجاجة لهذا من ذاك .

نظيفة جداً جداً .. بيتها مليء بالملطفات والمنظفات ، كل شيء فيه مرتب بحرص ، ومنظم بدقة .

قالت لي ذات مرة أنها كادت أن تخابر المعهد لتطلب منهم ألا يرسلوا لها أي طالب سعودي ، تعجبت وقلت : لماذا ؟ قالت بأنه قد سكن عندها ذات مرة شخص سعودي اسمه " مبارك " لم يستحم طيلة شهرين !! :)

قلت في نفسي : جاءك من يستحم في اليوم ثلاث مرات !!

أعتقد بأنّ سبب انكفائي المبدئي عنها يرجع لكوني قد لمست في هذه المرأة قوة شخصية ، وصرامة نفسية واضحة ، رأيتُ كل هذا في عينين كانتا تقطران حدة وذكاء - بالرغم من مجاملتها وابتسامتها الصفراء !

لم يحصل بيني وبينها أي مشاكسة ، فأنا كنت منضبطاً معها ، وهي أيضاً تعرف حدودها .

زوجها كان متزوجاً في ألبانيا – أو ما زال - ، ولديه أولاد وبنات يعيشون هناك ، ويذهب دوماً لزيارتهم ، وذات مرة قد جاءوه وسكنوا عنده في منزل سوزان !

سألته : هل تضايقت سوزان ؟ فقال : لا ، لم تنزعج !

كنت أرتاح لزوجها جداً ، وأشعر بشيء ما يجعلني أحبه ، ولكني لا أدري ما هو ( هذا السراء الروحي بيننا قد عرفته عندما أوصلني إلى موقف الحافلات ، وأنا حينها أغادر أكسفورد وأودع هذه العائلة ) !

بينا نحن جلوس في الصالة ، سألته عن عمره ؛ فقال : أنا وسوزان بنفس العمر ، واحد وخمسون عاماً !

كانت سوزان في المطبخ ؛ فجاءت تركض ؛ وعقدت حاجبها ، ثم قالت : لا ؛ هو أكبر مني بستة أشهر يا أحمد ( يعني فرقت يا سوزان ) :) !!

أقرّ زوجها ما قالته – إذْ ليس له غير الإقرار والتوقيع والبصم ؛ فهذه سوزان " ما تلعب " ‏‎:)  !!

على أية حال ؛ فيبدو أن هذا الثالوث ( المرأة والعمر والكذب ) : بينه علاقة ارتباط ومحبة وانسجام – فيما أظن وأزعم !!

لا أقول الآن بأن سوزان سيئة ؛ بل إني أراها المنزل المناسب لمن أراد أن يتعلم اللغة الإنجليزية ؛ فهنا يكمن الهدوء ، والنظافة ، والانضباط !

غرفتان فقط في منزلها للطلاب ، فيما أن غيرها قد يستقبل أربعة طلاب دفعة واحدة !

لا أعيب منزلها شيئاً سوى أن غرفتي كانت صغيرة جداً ، فيما أن غرفة الياباني واسعة وكبيرة ، ولو كانت لي ما تذمرت حينها أبداً .

قلت لسوزان ذات مرة : لو كان عندك غرفة ثالثة فتكسبي أكثر ؟ قالت : أنا بالكاد متحملة وجود طالبين ؛ فما بالك بأكثر !

أحد زملاء المعهد لما عرف مزايا هذه العائلة ، عرض علي مبادلته السكن ؛ إذْ هو لدى عائلة يسكن فيها – معه – أربعة طلاب !

سألته عن جنسيات الطلبة ، فقال فتاة إسبانية ، وأخرى برازيلية ، وطالب إفريقي !

لم أرتح لهذا العدد ؛ فرفضت !

بالمناسبة ؛ تستطيع تغيير العائلة إذا لم تعجبك ، وهذا يكون من خلال التنسيق مع المعهد الذي تدرس فيه ، ولذا فيحصل باستمرار أن يغير الطلبة العائلات التي يسكنون لديها – إذا لم يرتاحوا عندهم - .

على أية حال ؛ فقد ظلت علاقتي بسوزان رسمية جداً ، وجيدة بشكل عام ، وبدأت هي – مع الأيام - تتأكد بأن هذا الطالب محترم وخجول ومنضبط ، فبدأت تنتقل العلاقة بيننا إلى شيء من الثقة والألفة .

ذات ليلة ويك إند ؛ خرجت إلى السوق ، فقررت أن أشتري لها ولزوجها هدية ، فعلاً اشتريت لها وزوجها زجاجتي عطر ( خل هالشياب يستانسون وينبسطون الليلة ) !

طرقت الباب ؛ فقالت : يس .. كمان !

حييتهما ؛ وقلت لهما : يسرني أن تتقبلا هذه الهدية مني !

لم أتوقع إطلاقاً ردة الفعل التي استقبلت بها سوزان هذه الهدية ؛ لقد كادت أن تبكي من شدة الفرح !

صدقوني ليس طمعاً ؛ ولكن الهدية عند هؤلاء القوم لها أثرها البعيد في نفوسهم ونفسيتهم !

وهنا همسة لكل طالب مبتعث : جرب ؛ واشتر هدية مهما كانت متواضعة لمن أنت تسكن عندهم ؛ وانظر بعدها إلى ردة الفعل ، وتغير المعاملة !

الحقيقة أن سوزان تستحق التقدير  ، فهي – كما أسلفت - منضبطة ونظامية ونظيفة وراقية ، ولا أذكر بأني جئت فوجدت ملابسي غير متهيئة ؛ فهي تغسل ملابسي باستمرار ، مع نظافة عالية ، وكي يظهر عليه الإخلاص الشديد .

بدأت سوزان – بعد الهدية – تعاملني بحنو شديد .

ذات مساء عدت من المعهد وملابسي مبللة بالكامل من المطر ، دخلت المنزل وكانت هي خارجة من غرفة الجلوس ، فلما رأتني بهذه الحالة الرثة ؛ تألمت بحزن ثم هتفت بي : قلت لك خذ مظلتي ؛ وأخبرتك البارحة أن الأرصاد ذكرت أن هذا اليوم سينزل مطر على أكسفورد .. اصعد الآن فوراً بدل ملابسك ؛ لئلا يصيبك البرد ، وأنا حالاً سآتيك بفيتامين !

لم أنته من تنشيف جسدي ، وتبديل ملابسي ، إلا وهي تطرق الباب ، وتقدم لي الفيتامين ، ثم تؤنبني قائلة : خذ مظلتي عندما أطلب منك ذلك ( روضتها صح ) .

تطورت الألفة بعد ذلك ، فأخذتني معها بسيارتها إلى زيارة والدتها في الملجأ ( عقوق الغرب ) !

مسكينة والدتها ، كبيرة في السن ، ولا تستطيع المشي ، وتزورها ابنتها بين فينة وأخرى ، ويعتبر هذا العمل من سوزان عظيماً وقديراً - مقارنةً بغيرها من بني جلدتها الإفرنج !

سألت سوزان عن أبنائها ، فقالت الأول يعيش في مدينة أخرى مع زوجته ، والآخر هنا في أكسفورد يعيش مع صديقته ، ويزورها كل ثلاثاء ، ثم أشارت إلى صورهم ، وقالت هؤلاء أحفادي من ابني الكبير ، وأيضاً صوره يوم زفافه ، وأيضاً صور هؤلاء الأبناء .

وقفت ، ونظرت إلى صورة ابنها يوم زواجه وبجواره زوجته ، وأمامهم ثلاثة أطفال أعمارهم من السابعة إلى الثالثة عشرة !

سألتها : من هم الأطفال الذين يقفون أمام ابنك وزوجته يوم زواجهما ؟ فقالت : أبناؤه ( يا عيني ) !!:)

نعم ؛ فلقد حضر الأبناء زواج أبيهم على أمهم ( جنون الغرب وانحلاله الأخلاقي ) !

أنتقل الآن للمعهد بعد أن أشبعت الحديث عن هذه العائلة : المعلمون في الصيف ليسوا من المعلمين الرسميين ؛ فهؤلاء يأتون خارج دوام ( تعاقد ) ، وأولئك في إجازة .

مارك شخصية بغيضة عندي ، شاب إنجليزي يتأفف باستمرار ، وشرحه لا إخلاص فيه .

متعجرف جداً ، ولكنه بعد أن تعود علينا قد صار خفيف ظل نوعاً ما ، يشرح لنا نصف الدرس ، ويحذف أشياء من المقرر ، ثم يقول : لا تخبروا أحداً عن هذه الفوضى الشرقية التي أجبرتموني عليها يا ملوك الفوضى !

ذات يوم ؛ دون مقدمات ، قلت له : مارك ؛ أنت تتكلم العربية !

تلعثم ، صمت ، ذُهل ، انبهر ! ثم أكمل شرحه ولما انتهت الحصة الدراسية قال لي : تعال ؛ أريدك !

خرجت ؛ وجئته إلى مكتبه ، ابتسم ثم بادرني قائلًا : لِمَ قلت لي ما قلت ؟!

- أجبني أولاً : هل تتحدث العربية وتفهمها ؟!

- أجابني بلغة عربية : شويا .. شويا !

- حسناً سأخبرك كيف عرفت :في نفس الحصة قال أحد الطلاب عنك كلمة عربية سيئة ، كنت يا مارك حينئذ ملتفتاً إلى النافذة تتأمل المطر ، فجأة ولما قالها الشاب أدرت وجهك إليه فوراً ، ثم تشاغلت بعدها كأنك لم تسمع ما يغيظك !:)

قال لي - وهو يشير بإصبعه إلى جانب رأسه - : أنت خطير .. وذكي ! أنا يا أحمد عشت في لبنان ستة أشهر ، وأعرف العربية سماعاً ، ولا أجيدها كلاماً ! ولكن لا تخبر الطلاب ، لأنهم سيتحدثون معي بالعربية ، وحينها لن يستفيدوا من المعهد !

لا أدري الآن : هل أنا ذكي وخطير كما قال مارك ، أم أن الموقف كان واضحاً ولا يحتاج لأي ذكاء أو فذلكة ؟!

تبقى الكثير ، ولكني سأكتفي بحلقة أخيرة .. ودمتم بخير .

آيدن .