الصارم البتار على مسجد ضرار



قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 107 - 110].

 

وهذا تقرير القرآن الكريم، الذكر الحكيم، الكتاب المبين، لشين خلق المنافقين، وهذا إعراض الفرقان التبيان العظيم، عن ذكرهم؛ أنفة، وتأففا ههنا، وهذا ذم للمنافقين، ومن وراء النظم ألمحه، ونظير فعلهم هذا!

 

وكل ما أنف مما دل عليه تصدر آيتنا بالاسم الموصول وصلته معًا! ولما كانت صلته مضاعفة أيضا، ومن وراء تضعيف هذا المبنى ﴿ اتَّخَذُوا، وهو ذلكم تضعيف هذا المعنى أيضا، ولقولهم: إن زيادة المبني برهان زيادة المعني، ولقولهم أيضا: إن زيادة المبنى إفادة معنى أوسع، للحصول على معنى جديدٍ لم نحصل عليه من المجرَّد[1]، ومبالغًا فيه في آن، ويكأنه دال على الاجتهاد والطلب أيضًا![2]، وإذ أغرقوا أنفسهم، وأتعبوها، وأرهقوها، ونظير هذا التطالب والاجتهاد في العداوة، وقد كان من أيسر أن يسلموا بواطنهم، وكما قد تظاهرت ظواهرهم، وليس يكلف المرء نفسه هذا العناء كله!

 

وهذا التضعيف ماثل أمامنا، وليس من شأننا بحث عما جاء به، أو سببه، ومن إدغام المتماثلين الكبير، وحين من جذر (أتتخذ)، أو من جذر (ائتخذ)، أو من جذر (استخذ)، ولأن الناتج هو ذلكم التشديد، والتضعيف، وبما أسبغ على المفردة من قوة، وتمكين، وزيادة معنى.

 

وقال ابن جني: وفيه وجه آخر، وهو أنه يجوز أن يكون أصله أتتخذ، وزنه افتعل، ثم إنهم أبدلوا من التاء الأولى التي هي فاء افتعل سينًا، كما أبدلوا التاء من السين في ست، فلما كانت السين والتاء مهموستين، جاز إبدال كل واحدة منهما من أختها، وفي حديث موسى والخضر عليهما السلام، قال: لو شئت لتخذت عليه أجرًا[3].

 

وقال ابن الأثير: يقال: تخذ يتخذ يوزن سمع يسمع مثل أخذ يأخذ، وقرئ:

لتخذت ولاتخذت، وهو افتعل، من تخذ، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى، قال: وليس من أخذ في شيء، فإن الافتعال من أخذ ائتخذ؛ لأن فاءها همزة، والهمزة لا تدغم في التاء؛ قال الجوهري: الاتخاذ الافتعال من الأخذ، إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء، ثم لما كثر استعماله بلفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية، فبنوا منه فعل يفعل، قالوا: تخذ يتخذ، قال: وأهل العربية على خلاف ما قال الجوهري[4].

 

ولما كانت أفعال المنافقين، وكما حكى القرآن العظيم كثيرة كثرة ما في قلوبهم من غيظ، وحين كان من أمر اتخاذهم مسجدًا ضرارًا، وإذ ليس لعلة واحدة، وإذ كان كفاه أن يكون ضرارًا، وإنما لأسباب متعددة، وحين حكى النظم عنهم ما أنف، وكيما يتفق أصل التضعيف مع أصل تنوع ضرارهم، وإذ ليس ضرًّا واحدًا!

 

ولكن مجيء مفردة (ضرار) هكذا نكرةً، ومن معناه حصول المعاني من كثير الضرر وصنوفه، ومما أمكنهم كيده، ومما أوغلهم فيه نفاقهم، وما يمكن أن يجد من ضرر آخر لاحقًا!

 

ولكني أريد أن أبقي على نكرته، فلا أعرفه، وكما نكره، فأنكره القرآن العظيم أيضًا!

 

ولكن هذا التنوين الذي يسمونه تنوين التمكين، فدل أيضًا على سبق إصرارهم وترصدهم بضرارهم هذا، وهذه أسباب مشددة للعقوبة أيضًا.

 

وهذه لفتات لغتنا العربية الجميلة!

ولكن هذا الوصف لهكذا مسجد ضرار، ولما كان على وزن فِعَال، ولما كانت صيغة من صيغ جموع الكثرة، وإذ كان هذا الوزن حاملًا معه معنى الامتناع، وهو ما يدل عليه فعلهم أيضًا، وحين كان منعا لكلمة الله العليا، وأن تقال فيه! وكذا ولتحمل معها من المعاني الغلاظ الشداد، ما أداه هذا المشتق وزيادته معه أيضًا، وإذ أنتج المشتق معنى موازيًا، وحين كان ليس من وزن فِعَال وحسب، وإنما ومن تكرار حرف الراء أيضًا، ومن جنس واحد متماثل كبير، ومن بينهما هذا المد بالألف، وليمد معه معناه أيضًا، وحين جاء متراكبة منه هذه الأوصاف النكدة لهكذا مسجد ضرار أيضًا، وإن ومن حكمة وإحاطة ربنا الرحمن، واضع النظم، ومنزل القرآن، وخالق الأداء اللفظي الممعن إعجازًا وتحديًا، فدل على انعقاد كيدهم، وتراكب مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال! وكما قال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ [إبراهيم:46].

 

ويكأن الله تعالى مذهبه، ومميطه، ومدحره، ومبطله، كله، وعلى قدرته اللامحدودة بحد، وإذ ليس يرد عليها قيد! ولئن جاء ومن مثل هذا التزاحم في الأداء، ولو كانت أمثاله معه أيضا! وقد أكسبه زخمًا جميلًا جميلًا، وقد منحه معنى غزيرًا غزيرًا.

 

ولكن هذه المعاني المتراكبة المتضاعفة، وليؤدي عنها هذا الفتح المختوم به، صرفًا ونحوًا، ولينفتح الفم معها غير منغلق؛ ولاعتبارات المد الطبيعي، ولينفتح معه أيضًا سيل المعاني المتراكبة المتضاعفة، ومن هكذا كان وزن ضرار، ولما جاء مفتوحًا! وخاصة عند الوقف تراه أعظمَ!

 

ولكن هذا الفعل (اتَّخذ) وحين كان يحمل معه معني الصيرورة، فدل أيضًا على ذلكم الإعجاز حتى في اختيار المفردة، ومن مكانها هذا بالنظم القرآني الكريم! ويكأن المساجد وضعًا ليست تكون إلا وحين كان منعقد النية أنها تكون لله تعالى، ولما كان من شأن أغيار غير هذا الوضع، وإنما صيروها مما يجب أن تكون، وإلى ما ليس يجوز أن يكون! وإذ ليس ذلك فحسب أيضًا، وإنما ومما كان من عمل هذا الفعل (اتَّخذ) كونه ناصبًا لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر! فدل على تراكب المعاني أيضًا، وفرق بين أن ينصب فعل مفعولًا واحدًا، وأن ينصب آخر مفعولين! أصلهما أو ليس أصلهما المبتدأ والخبر! وهذا بحث آخر!

 

وهذا عمل الكلمة، ولما كانت من وضع خالق هذه الكلمة سبحانه!

وهذه من تفننات لغتنا الجميلة أيضًا.

 

وهذا فعل المنافقين أبدًا، وليسوا يكادون يهدأ لهم من بال، وإلا أن يريدوا أن يطفئوا نورًا الله بأفواههم، ولكن الله متم نوره، ولو كره المشركون.

 

وجميل هكذا صنع ربي! وأي فاه، بل أية أفواه شهد لها التاريخ يومًا أن لها أو بها مكنة إطفاء أو إخماد نور عم بهاؤه، أو أن لها طاقة إسكان أو إهماد فلاح وهدى وهذا بيانه؟! وحتى يمكننا أن نصدق قولا للمكذبين المنافقين، أو ألا نكذب مسعى للمرجفين المناوئين؟!

 

وهكذا يجب على الفئة المؤمنة أن تكون واعية للدرس تماما، ولما يمكن أن يحاك أو يدبر لها بليل، أو أن يحاق بها من زيغ ومكر ودهاء.

 

ولكن هذا مسجد ضرار، وحين بناه المنافقون، مرجع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم من تبوك، ونصرها، ومن يوم العسرة، وبذلها، وإذ رأوا أن هذا الدين ممتد، متسع، منفرج، وكما نهار قد انفلج من ليل بهيم، وكما نور قد انبلج من ظلام حالك عميم، ورغم ذلك لا يكادون يصبرون على شروق شمس يوم الإسلام وضحاها، أفلم يكونوا يرونها؟! وما يتركون نقيصتهم إلا اتبعوها، وليس يدعون عيبتهم إلا سلكوها، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

وبدل أن يسلموا، ومن بعد ما رأوا الآيات، وإذ بك تراهم يعرضون! وليتهم أعرضوا، ولكنهم عاندوا! وخططوا، وحاكوا، ونصبوا حبالهم، وأفردوا شباكهم! ولصيد حسبوه ثمينًا سمينًا! وحين كانت هذه طويتهم، يلوون على المؤمنين، ويكيدون للمسلمين، وفي كل مرة تجد ريحا زاكمة خبيثة، لما تنتهض دليلًا آخر على خسارهم، ولما يدبرون، وإذ بهم يغوصون كثور في الوحل، وهيهات أن يخرجوا سالمين، بل مكلومين مجروحين، ونظير فعلهم، وموجب ضغينتهم، وسوء سريرتهم.

 

ولست ناسيًا يوم حنين، وكما لم ينسه قارئ كريم أيضًا، ولأنه الأقرب ليومنا هذا، وإلا أن تاريخهم كله وَحِلٌ! وحين كانت غلبة ظاهرة لثقيف أول أمرهم، وحين كشفوا عما تكن صدورهم من غل، وإذ انكشفوا، وحين عبروا عما في قلوبهم من غيظ، وإذ ظهروا أول مرة!

 

وحين قال أبو سفيان بن حرب‏:‏ لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته، وحين صرخ جبلة بن الحنبل قائلًا‏:‏ ألا بطل السحر اليوم‏[5].

 

ولكن مسجد ضرار هذا صورة، ويكأنه مسجد! وحين سماه الله تعالى مسجدًا، وعلى تسميتهم له، ولكنه تعالى فصل بين المسجدين، مسجد في الصورة، وهو ذاك مسجد المنافقين، مسجد ضرار ذاك، وحين كان خاليًا عن معنى كريم، وإلا معاني أنفت! وكما بينتها آيتنا الكريمة محل البيان والكشف والتوضيح.

 

وثمت مسجد آخر في الصورة والمعنى، وهو ذلك الذي تقام فيه كلمة الله العليا، وحين كان يؤذن للصلاة فيه خمس مرات، يبدأها المؤذن بالتكبير، وأنه لا كبير إلا ربنا، ومن ثم يثني بالشهادتين، وحين يشهد بأنه الله تعالى، وكما أنه هو الخالق البارئ المصور، فإنه كذلك هو ذلكم الرب الإله الذي لا تصرف العبادة إلا له، إن في جلي، وإن في خفي، وهنا يكون الناس قد حقَّقوهما، ولما لم يأتمروا إلا بأمره، ولما ينتهون عن نهيه، وهذه هي خلاصة عقيدتنا في الله تعالى ربنا الخلاق العليم، وهذا هو تقديم هذه العقيدة صافية من كدر، وهذا هو بيانها خالية من عكر: (لا أمر إلا أمره ولا نهي إلا نهيه)، وكذا نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه المبلغ الأمين عن ربه الرحمن الرحيم سبحانه؛ ولأنه ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى.

 

ولكن المنافقين يريدونها سفلًا، بل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، وكما أن كلمة الله العليا، وقد أوجزناها في أنه لا أمر إلا أمره تعالى ولا نهي إلا نهيه تعالى، وحين تكون كلمته تعالى نظامًا عامًّا، يحتكم إليه الناس في أقضيتهم، وعن عبادة، وليس عن حاجة!

 

هذا، وحين تكون كلمة الله تعالى العليا هي المصدر، والمرجع، والأصل، والفرع، والقاعدة، والأساس، فثم الناس، ومن ثم الحق أيضًا تبعًا، وأما وحين يقع ما بين ذلك من خطأ عن اجتهاد، ولا عن قصد المخالفة، فإن ربنا لغفور رحيم: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25].

 

فكذلكم هذه هي كلمة الذين كفروا السفلى، وعكس ما رأيناه، وحين كانت لا أمر إلا أمر من كفر، ولا نهي إلا نهي من أدبر! وهذا هو إيجاز عقائد الكفر أيضًا!

 

ولكن أولاء المنافقين قفاهم عريض! وإذ كان مليحًا أن يروا نصر الله، وفتحه المبين على هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحين جاءت أباطرة الروم مصالحة، وللجزية دافعة، وإيذانًا بميلاد عصر جديد، تكون لهذا الدين فيه الكلمة العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولما كان الأمر كذلك، وها هم يبنون مسجد ضرار، فإن هذا صيد في الماء العكر!

 

وإن قفاهم لأعرض! وحين رأوا الأباطرة هكذا يسارعون خطاهم، وإذ تكاد وكجلمود صخر حطه السيل من علِ، وإلى هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا أن يصالحوه، فدل على كم هي قوة غامرة لهذا الكون مكتسحة ظلامه الدامس، وليحل محله نور الهدى، ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، والكافرون، والمرجفون، والمنافقون! وإذ كان عليهم، والطقس هكذا، أن يلملموا أوراقهم، ويتوبوا، وأن يراجعوا أنفسهم، ويعودوا، ولكنها القرائح الماكرة، النكدة، الناكرة، الأشرة، النكرة، المعاندة، وحين تسبح عكس تيار ماء يجرف كل مارد طريقه، ويدمر كل هالك سبيله.

 

وإن قفاهم لأعرض! ولما لم يعلموا أن رب هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما كان ليدعه لقمة سائغة في أفواه الذين كفروا! ولا الذين نافقوا أيضًا!؛ ولأنه تعالى لم يذره يوما، ولم يتركه، ولم يسلمه، ولم يخذله، وفي أقل أو أكثر من فعل المنافقين هذا! أَوَلَمَّا أرادوا ضرارًا بمسجدهم هذا، أيسلمه الله ها هنا؟!

 

وهذا درس مهيب، وحين يوقن أحدنا بمعية مولاه تعالى الحق المبين، ويكأن العبد يبحث أولًا عما يرضي ربه تعالى، ومن ثم فليس عليه من خوف، وما أنعم عبدا! وأسعده! وأهنأه! وأفرحه! وأزكاه! وأهناه! وحين يعرف ربه رخاءه، وكيما يعرفه ربه تعالى شدته. وهذا هو الذي جاءنا به حديث رب العزة والجلال سبحانه.

 

فعن عبدالله بن عباس كنتُ رديفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقال لي: يا غلامُ أو يا بنيَّ ألا أُعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟ فقلتُ: بلى، فقال: احفظِ اللهَ يحفظْك، احفظِ اللهَ تجدْه أمامَك، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ، إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاسْتعنْ باللهِ، فقد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، فلو أنَّ الخلقَ كلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقسمْه اللهُ لك؛ لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضرُّوك بشيءٍ لم يقضِه اللهُ عليك؛ لم يقدروا عليه، واعمل للهِ بالشكرِ واليقينِ، واعلم أنَّ في الصبرِ على ما تكرَه خيرًا كثيرًا، وأنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنَّ الفرجَ مع الكربِ، وأنَّ مع العسرِ يُسرًا[6].

 

ولكن الذي يلفت إليه النظر، هو ذاك القصد المعيب، وحين بنوا مسجدًا ضرارًا! وذلك لوصفه تعالى له. وإذ كان مسجدا، وأن نعم، ولكنه مسجد ضرار!

 

وإذ وما أقبح ضِرَارَهُ! وحين جاء هكذا وعلى وزن فِعَالٍ! ومما أنف، ولتنضم إليه ذمائم النعوت، وأسافل الصفات، وأدني المعائب، وأنكى المصائب، وشين النقائص، ورين النقائض! وإذ كان الله تعالى مهلكه، ومدمره، ومبطله، وما كان الله تعالى أبدا وليصلح عمل المفسدين! وكما قال الله تعالى أيضًا ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].

 

أما قوله تعالى: ﴿ ضِرَارًا فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء، وحين أسس على التقوى من أول يوم! وهذه هي النقطة الفارقة، وحين يكون إطلاق الاسم على المجاز، ولما تكون النية منعقدة على خلاف كونه مسجدًا، ولأنه ليس يكون المسجد مسجدًا معتبرًا شأنه، ووضعه، وقيمته، وهدفه، وغايته، وإلا حين تعلى فيه كلمة الله تعالى: وألا أمر إلا أمره، وألا نهي إلا نهيه، وأما غير ذلك فثمت مسجد ضرار، وحيثما شاركه وصفًا ونعتًا، وإما أصالة، وإما استصحابًا!

 

وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة، فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه[7].

 

ولهذا السبب فقد ثنى القرآن الكريم فاضحًا مسعاهم، ولما كان قصدهم المحادة لله تعالى ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وحين كان من وصفه مسجدهم كونه: ﴿ وَكُفْرًا بالله تعالى لا للإيمان به، ولأن الله تعالى قال أيضًا: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18].

 

وإن أسفًا وحين كان كفرهم واقعًا وبهذه المثابة، ولما كان تغطية لمعنى طيب هنيء مريء، وهو هذا الإيمان بالله تعالى رب الأرباب، وخالق الناس من تراب، وإظهارا لنقيصة الشرك بالله تعالى العلي الأعلى، ولما كان هذا هو الذي به نعى نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وحين جعل أعظم الذنب أن يتخذ الإنسان لله تعالى ندًّا، وهو الذي خلق هذا الإنسان! ويكأنه يرد جميلًا صنعًا، وبديعًا خلقًا، بقبيحٍ كيدٍ، ورينٍ مكرٍ! والله المستعان.

 

فعن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سَأَلْتُ أوْ سُئِلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أكْبَرُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ معكَ، قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: أنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةِ جَارِكَ، قالَ: ونَزَلَتْ هذِه الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [الفرقان: 68][8].

 

وحين يكون المسجد، وليس يكون إلا ولتعلو فيه كلمة الكافرين، فلا شك أنه سيكون ومن نعته هذا، ما انتصب القرآن الحكيم له، وحين كان من شأنه أنه ﴿ وَتَفْرِيقًا للجماعة عن مسجد قباء، وتفريقًا لشأن المسلمين عامة، وعلى مدار الزمان والمكان أيضًا؛ ولأن هذا القرآن، وإنما نزل لكل زمان، ولكل مكان أيضًا، ولأن الأمة المؤمنة لم ولن ترضى بذلكم مسلك معيب، وحين يُناصَبُ ربهم العداءَ، وها هم يرون، ويسمعون، وينظرون، ويبصرون! وإلا تراهم نفرة واحدة، وزأرة واحدة، وقومة واحدة، وعلى أنقى سريرة، ومن عين قريرة، وعلى أعلى بذل، وأقوم قيلًا.

 

وأما وحين يلبس على الناس، وحين تعلو الحناجر، وبغير ما كان هديًا سالِمًا من الشرك وعيبته، وما كان رشدًا خاليًا عن الكفر ونقيصته، فإن لدينا المنابر، وليست تكف، أو تسكت، أو تصمت عن بيان، وإلا أن يعلو صوتها، ومن برهان؛ إعلاء لدين الله تعالى الرحمن، وإن هذا أيضًا ما يحسن للأمة المسلمة الواعية أن تبصره، وأن تلمحه، وأن تدَّاركه، وأن تلفت أنظار الناس إليه، وكيما تكون محجة بيضاء ليلها كنهارها أيضًا!

 

وهذا محل الأمر، ورأسه، وأسه، وذروة سنامه، ولأن الأمة المسلمة لن تسكت، وما سكتت، وما سكنت، وحين يكون مسجد مواجها لمسجدهم، وحين يؤمر فيه بالمنكر، وينهى فيه عن المعروف، وحين يقال فيه بغير أمر ربهم، أو ينهى فيه بغير نهي ربهم، وإنهم لسوف تأخذهم النفرة، ومن غيرة طبعية جبلية، يرزقها المؤمنون، ولاتها، ورعاتها، ورعيتها، ودعاتها، وأفرادها، ورجالها، ونساؤها؛ ولمواجهة وسحق هذا الباطل المدلهم. وإماطة هذا الأذى، القاتم، المكفهر، المظلم.

 

وإذ كان من وصف مسجد ضرار هذا أنه ﴿ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وهو هذا أبو عامر الراهب الفاسق! وإعلانًا قرآنيًّا عامًّا بأن الله تعالى مخزي الكافرين، ولن يتر أهل الملة الحنيفية السمحاء من عملهم من شيء!

 

ولكن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وحين تبيَّن له سوء صنيع هذا أبي عامر الراهب، فكان قد دعا عليه أن يموت طريدًا، وقد كان! وعلمًا آخر ضافيًا من أعلام نبوة هذا النبي العربي الأمي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وليزداد الذين آمنوا إيمان، ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارًا وبوارًا، وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].

 

ولكن هكذا حِيَلٌ لا تنطوي، ولكن سبل كشفها ودحرها لا تنضوي، ولكن حياكها لا ينجبر، بل منكس منكسر، وحين يكون هكذا فعل المناوئين جلة هوس تحيط بهم، ولما تملي عليهم، بكرة وأصيلًا، أو أول النهار وآخره، كذبا وبهتانا وقيلا، أن إمكانا لهم أن تنطلي على دعاة الحق خططهم، أو أن ينخدعوا بهم وشباكهم!

 

وهذا الذي حدث يوم مسجد ضرار هذا، وحين جاؤوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه، على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم، وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: " إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله"[9].

 

وهذا تذكير القرآن الحكيم للأمة على مدار زمانها أبدا، وألا تؤخذ عن غفلة، وألا تفجأ عن بغتة، ولأنها يقظة، وحين يتخذ المنافقون مساجدها عرضة لتعظيمٍ من كُفرٍ، أو تنويهٍ من إدبار، وهنا سيكون من وصف مساجدهم ما به ينسحب عليه أوصاف مسجد ضرار تماماً بتمام، وهذا ملحظ جد مهم؛ ليعرف الناس أين هم من مسألة الأمر والنهي، وبكل إيجاز، وليس يمكننا إيجاز بأقل من ذلك.

 

وإنهم، ولسوف يحلفون، وإنهم لم يريدوا إلا الحسنى! والله يشهد إنهم لكاذبون!، وكما قال تعالى ﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

 

ولأن الحسنى هي أيضًا: لا أمر إلا أمره تعالى، ولا نهي إلا نهيه تعالى، وأما من يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون الأسماء بغير مسمياتها، فهذا الذي نبه عليه القرآن الحكيم، ولفت الأنظار إليه، وحين لم يكن المسلمون إلا على يقظة من أمرهم، ولما لم تنطل عليهم شباك قوم قد صنعوها وحبكوها، ولعداوة الله تعالى قد حاكوها، والمؤمن كيس فطن، ولِمَا يُحاكُ من حوله، ويعرف طريقه تمامًا.

 

ولذلك جاء النهي السماوي، وألا تقم فيه أبدا، حكمًا سماويًّا ساميًا، وقضاءً قرآنيًّا كريمًا عاليًا، وكما قال تعالى ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا.

 

وإنه لمسجد واحد، تقام فيه كلمة الله العليا، لهو أحق أن تقوم فيه، ومن هذا الذي بني لأجله مسجد ضرار هذا، ولما كان على وصفه آنفًا زاكمًا، وإن مسجدًا أسست قواعده، وقعدت أصوله، على تقوى من الله ورضوان خير، وإنه وربي لأحق من مساجد كثيرة، وحين كانت على وجه لا على هذا الذي قال الله تعالى لنا عنه، وكما قال الله تعالى: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.

 

وإنه وإن كان مسجد ليقام فيه دين الله تعالى الحنيف الخالد الإسلام، وإذ كان من صفته أن يزاحم مسجدًا آخر، وليقل بسببه مرتادو المسجد الآخر، وحين قرر هدمه، فإن مسجد ضرار هذا يكون أشد وأولى هدمًا، ولأسبابه التي قد خلت من قبل.

 

وهذا هو الذي قرره أهل سنتنا، وأصحاب عقيدتنا، وحنفاء ملتنا، وحين قالوا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرًا، إلا أن تكون المحلة كبيرة، فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ، وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه[10].

 

وهذا ثناء ربنا، وهذا إطراء خالقنا، ولثلة من المؤمنين، وإن قلت، ولطائفة من الموحدين، وإن نزرت، وحين كان أولاء متطهرين من الشرك أولًا، ومن ثم كانوا يتطهرون بالماء استنجاءً، ولما قد جمعوا بين اثنتين هما: طهارة أجسادهم من حدث، وطهارة قلوبهم من خبث.

 

وهذا مسألة غاية لمن وفقه مولاه، وعرف طريق بارئه وسناه وهداه.

♦♦♦♦♦


﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

 

وهذه مجابهة بين مسجد ضرار، ولأنه أسس على غير التقوى، ومن أول يوم، ولهذا السبب جاء أمره تعالى ألا يقوم فيه، وأن يفزع مسلم هكذا من مسجد تحقق أنه مسجد ضرار، وحين تقام كلمة الكفر في أروقته، وحين يلقى منه الكفر، ومن على منبره؛ وحين تتشعب بالناس السبل، وما من سبيل إلا سبيل واحد، هو سبيل الله تعالى العزيز الجبار المتكبر، ولما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

 

ولأن هذه السبل وإن هي إلا من صنع الإنسان، ولذا؛ فكان حريًّا أن تُرَد عليه، ولإعادته إلى صراط الله تعالى المستقيم وحده، وحين كان عليه به الهدى، ولما كان منه إليه الفلاح، والرشد، والاستقامة، والأمن، والسكينة.

 

ولأن الناس يقلدون، ومنه فقد كان حريًّا لدعاة الحق، أن يكونوا وعلى قدر ما استأمنهم عليه ربهم، من إقامة دينه، وتعظيم شعائره تعالى، وإذ كان من تعظيمها ذلكم، وألا تنطلي عليهم رغائب أهل الباطل وزبانيته، فيغرون بهم ويقدمونهم، وحين يكونون ذوي حاجة لتمرير باطلهم وزيغهم على الناس؛ ولأن المؤمن كيس فطن أيضًا، وحين يأبى أن يكون مطية باطل زهوق، ويكأنه عالم بصنعته، ومدرك لمهنته، وموقن بمهمته، ولما يكون خادمًا شرفًا لإعلاء حق كريم، ولأن المؤمنين هم خلفاء ربهم في أرضه، ولأنهم هم أمناء شرعه في كونه، وإذ يقولون من قوله، وإذ يؤمنون من منهجه، وسبيله، وحكمه، وأمره ونهيه، وما أودعه تعالى قرآنه، وما أوحاه إلى نبيه، وحين جعل ذروة الأمر وسنامه، وهو قوله تعالى ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18].

 

وكل مسجد أسس على التقوى، فهو الأحق أن يقوم الناس فيه، ويبطل أن يقوم الناس في غيره، ولما يتقرر ذلك من أولي العلم والنهي، في محلة كان نصبه فيها، ولما رأوه، وعلموه، وأيقنوه، ودرسوه، وفحصوه، ومحصوه وفلوه! وهذا الذي نفيده من عقد مواجهة بسيطة بين مسجدين هما:

 

مسجد ضرار: وحين كان على غير أساس من الهدى، بل محادة لله تعالى ولرسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإنه محادة، وعداوة لهما، وحين كان شأنه الخروج عن المنهج، والولوغ في الباطل، والولوج في الغي والضلال، ولما كان قائما على هكذا نعوت، لا يتبدى منها سوى الشر كله، لا بعضه، ولا جزؤه؛ ولما كان ﴿ مَسْجِدًا، ضِرَارًا، وَكُفْرًا، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ومن هذه الأسباب كان نهيه تعالى، وحين قال سبحانه ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا.

 

ومسجد قباء: وكذا مسجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين كانا مؤسسين على التقوى، وهي إقامة الدين فيه، وألا يقام فيه إلا العدل، والتوحيد، والهدى، والنور، والحبور، والسرور، والصلاح، والفلاح، وحين كان من شأنه، ووصفه، ونعته أنه ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.

 

ومن هنا فحسن، بل وجب البحث، والتأني، في أين يقيم العبد دينه وثمت! ولا اعتبار بتسمية مكان ما أنه مسجد! ولأنه يمكن أن يتحد الوصف، وكما أسمى الله تعالى مسجد ضرار بهذا الاسم الموجِبِ وحشةً، ونفرة، وافرنقاعًا عنه! ولكنه قام على غير توحيد، وكما أنف، بل قام على محادة وعداوة لمنهج رشيد، هو منهج الحق، والعدل، والنصفة، والسمو، والعلو، ولأنه الله تعالى الحق المبين، وحين كان من شأنه، ويكون أبدا أنه يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر، رحمة وفضلًا حسنًا.

 

وإلا أنه، ولأن العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب، فإنه ينسحب أمر الآيات على كل واقعة مماثلة، وبمعنى أنه وإن تحقق أن مسجدًا ما هو مسجد ضرار، فثم البعد عنه، وأنه وإن تحقق أن مسجدًا ما أسس على التقوى والتوحيد، والهدي المجيد، فثمت الصلاة فيه، وهذا هو الاعتبار القيم، وكيما يكون هذا الدين مرنا لكل زمان حل، وصالحًا لكل مكان ضم.

 

والمسجد المشار إليه في الآية هو مسجد قباء، وحين أثنى الله تعالى على أهله؛ ولأنهم أناس يحبون أن يتطهروا، فدل ذلك على أهمية الطهارتين الحسية منها والمعنوية.

 

وقد أنف بيان أن الطهارة المعنوية هي طهارة القلب من رين الشرك والنفاق، وتلبسه بلباس التقوى والتوحيد، ذلك خير، وأن الطهارة الحسية هي طهارة الثوب والبقعة والبدن، وإذ كان منه ما أنف أيضًا، ولأنهم كانوا يتطهرون بالماء من الغائط.

 

فعن أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك: يا مَعشرَ الأَنصارِ، إنَّ اللَّهَ قَد أثنى عليكُم في الطُّهورِ، فما طُهورُكُم؟ قالوا: نتَوضَّأُ للصَّلاةِ، ونغتَسلُ منَ الجَنابةِ، ونَستَنجي بالماءِ، قالَ: فَهوَ ذاكَ، فعليكُموه[11].

 

وقد صرح جماعة من السلف بأنه مسجد قباء رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير، وقاله عطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري، ونقله البغوي عن سعيد بن جبير وقتادة، وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسِّس على التقوى وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسِّس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى[12].

 

ولكن اشتراط أن يكون عقد النية عند إقامة مسجد ما وأنه ضرار، وإذ نرى أنه وإن كان وجهًا مليحًا وجيهًا، وإلا أنه ينسحب الحكم أيضًا، وحين كانت مساجد مبتناة، والأصل فيها هو هذه الصفة، وهي محادة الله ورسوله، وعداوة منهجهما، والوقوف حائط صد منيع عن أن تقال فيه كلمة الحق والصلاح والتوحيد والهدى والنور، بل وقول الباطل الذي فيه يعمهون.

 

وتنازع الناس بين المراد بمسجد أسِّس على التقوى من أول يوم، وعما إذا كان هو مسجد قباء، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يخرجنا عن عموم الكلام وإطلاقه، من أنه يراد به ديمومة أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

 

وقد أنف بيان أن كلمة الله العليا، هي توحيده، وأنه لا أمر إلا أمره ولا نهي إلا نهيه، وأن كلمة الذين كفروا السفلى، ولأنهم اتخذوا آمرًا سواه وناهيًا خلاه، سبحانه!

 

فعن أبي سعيد الخدري: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بنَ عبدِ الرَّحْمَنِ، قالَ: مَرَّ بي عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قالَ: قُلتُ له: كيفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ في المَسْجِدِ الذي أُسِّسَ علَى التَّقْوَى؟ قالَ: قالَ أَبِي: دَخَلْتُ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيُّ المَسْجِدَيْنِ الذي أُسِّسَ علَى التَّقْوَى؟ قالَ: فأخَذَ كَفًّا مِن حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ به الأرْضَ، ثُمَّ قالَ: هو مَسْجِدُكُمْ هذا، لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ. قالَ: فَقُلتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ[13].

 

ورواية للإمام ابن حبان رحمه الله تعالى أخص وأصرح وحين: اختَلَف رجُلانِ في المسجِدِ الَّذي أُسِّس على التَّقوى فقال أحَدُهما: هو مسجِدُ المدينةِ وقال الآخَرُ: هو مسجِدُ قُبَاءٍ فأتَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: هو مسجدي هذا[14].

 



[1] [كتاب شرح المفصل، ابن يعيش: 7/ 150].

[2] [معاني صيغ الزوائد، حسن غازي عكروك السعدي، مقال منشور على شبكة المعلومات].

[3] [لسان العرب، ابن منظور: ج 3 / 487].

[4] [لسان العرب، ابن منظور: ج 3 / 478].

[5] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج 4 / 894].

[6] [تفسير القرطبي: 8/ 335]، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[7] [تفسير القرطبي، تفسير سورة التوبة: الآية 107].

[8] [صحيح البخاري: 4761].

[9] [تفسير ابن كثير: ابن كثير: 2 / 402].

[10] [تفسير القرطبي، تفسير سورة التوبة: الآية 107].

[11] [صحيح ابن ماجه، الألباني: 290].

[12] [تفسير ابن كثير: 2/ 404].

[13] [صحيح مسلم: 1398].

[14] [صحيح ابن حبان: 1605]، خلاصة حكم المحدث: محفوظ.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/154824/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AA%D8%A7%D8%B1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF-%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%B1/#ixzz7TZ4nRxg7