استكمالاً لهذه الدراسة الأسلوبية لقصيدة (الخير والشر) لأبي العتاهية فقد قمنا بدراستها على المستوي النحوي والآن نتناولها على المستوى الإنشائي البلاغي:

الجمل الإنشائية:

الجمل الإنشائية مبحث من مباحب علم المعاني في البلاغة العربية وتنقسم إلى (إنشاء طلبي – وإنشاء غير طلبي) فالإنشاء غير الطلبي هو الذي عرفه البلاغيون فيقولون: “هو ما لا يستدعي مطلوباً غير حاصلٍ وقت الطلب” وله صيغ كثيرة وعديدة منها: (التعجب – والمدح – والذم – والقسم – وأفعال الرجاء وصيغ العقود…إلخ).

والذي يعني به علم المعاني هو الإنشاء الطلبي ويعرفه البلاغيون فيقولون: “الإنشاء الطلبي هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصلٍ وقت الطلب” وينقسم الإنشاء الطلبي إلى أقسام وهي: (الأمر – والنهي – والاستفهام – والتمني – والنداء)

وقد ورد الإنشاء بنوعيه الطلبي وغير الطلبي في القصيدة ولم يكن له الحضور البارز إلا أنه كان موجوداً ولعل السبب في ذلك أن الشاعر كان في وضع النصح والإرشاد وفي نفسه الوقت يغلب عليه التواضع فهو يتحدث أيضاً عن أخطاءه الشخصية فناسب هذا المقام قلة الجمل الإنشائية بنوعيها.

1- الإنشاء الطلبي في القصيدة:

نرى أن الإنشاء الطلبي لم يكن متمثلاً إلا في بيتٍ واحد وهو قول الشاعر:

يا بعد من مات ممن كان يلطفه (7) قامت قيامته والناس أحياء

فالإنشاء الطلبي هنا تمثل في قوله: “يا بعد” و(يا) هي حرفٌ وأداةٌ من أدوات النداء والنداء يعرفه البلاغيون فيقولون: “هو طلب الإقبال بحرفٍ نائبٍ مناب أدعو” وحرف (يا) من حروف النداء التي تستخدم لنداء البعيد إلا أنه في هذا البيت لم يستخدم في معناه الأصلي ألا وهو النداء وإنما خرج إلى معنى مجازي آخر.

والبلاغيون يذكرون أن النداء يخرج من معناه الأصلي إلى معانٍ أخرى تستفاد من القرائن كالزجر والتحسر والإغراء وهذا بعينه ما وجدناه ظاهراً في هذا البيت فالشاعر يظهر معنى التحسر والتوجع على حال الذي يموت فهو قد ابتعد عمن كان يعامله باللطف واللين في الحياة مثل الأبوين والإخوة والزوجة والولد وصار الآن مكروباً في وضع الحساب على ما قدم في حياته فلا شفيق لديه ولا رفيق إلا العمل الصالح.

2- الإنشاء غير الطلبي:

وقد تمثل الإنشاء غير الطلبي في القصيدة في هذين البيتين بغرض المدح والثناء على الله -عز وجل- وطلب المغفرة فنراه يقول:

الحمدلله يقضي ما يشاء ولا (5) يقضى عليه وما للخلق ما شاءوا

فنرى الشاعر في خضم ذكر الحقيقة الإيمانية التي تقول أن الله -عز وجل- هو الذي يقضي ويقدر الأمور في هذه الحياة بحكمه وعلمه نراه يثني على الله -عز وجل- فيحمده على تقديراته التي لا تخلوا أبداً من حكمة فيها الخير للإنسان واستخدام الشاعر لهذا المدح في خضم ذكر هذه الحقيقة من شأنه أن يرفع الحسن الديني الإيماني لدى المتلقى فيكون استقبال المتلقي أيسر وأشد في نفسه وقعاً.

أستغفر الله من ذنبي ومن سرفي (10) إني وإن كنت مستورا لخطاء

وهنا في هذا البيت يثني الشاع