استكمالاً لهذه الدراسة حول قصيدة (الخير والشر) للشاعر أبي العتاهية نبين الجوانب النحوية المرتبطة بالمعاني الواردة في أبياتها:

2- الجملة الفعلية:

لقد تعارف علماء اللغة على أن الجملة الفعلية هي التي تشتمل فعلاً أو تبدأ بفعل والفعل هو الذي يدل على حدوث شئ مقترنا بزمان فإذا كان قبل زمان التكلم كان الفعل ماضياً وإذا كان في نفس زمان التكلم يكون الفعل مضارعاً وإذا كان بعد زمان التكلم يكون الفعل أمراً.

وقد تنوعت الأفعال في القصيدة ما بين أفعالٍ ماضية وأفعالٍ مضارعة ولم يكن لفعل الأمر أي ظهورٍ في القصيدة وهذا التنوع يدلنا دلالة واضحة على التجدد والاستمرارية ففي الأفعال الماضية نجد الشاعر يعبر عن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان ومن ثم يأتي دور الأفعال المضارعة التي تفيد الحدوث والتجدد وتدلنا أن الإنسان لا يعتبر من أخطاءه ويكررها مراتٍ أُخَر والتاريخ يكرر نفسه.

وقد انقسمت الجملة الفعلية في القصيدة إلى قسمين: ( جمل منفية – وجمل مثبتة).

أ‌-الجملة المنفية:

الجمل المنفية هي التي تحتوي على أسلوب من أساليب النفي مثل حروف النفي (لا ولم ولن) وقد أستخدم الشاعر هذا الأسلوب في قصيدته بشكلٍ واضح وذلك يتجلى في الأبيات التالية:

لكل داء دواء عند عالمه (4) من لم يكن عالما لم يدر ما الداء

فالشاعر في هذا البيت ينبه إلى ضرورة التعلم والرجوع إلى أهل الذكر والعلم والتخصص في كل فن فليس كل إنسان يستطيع مزاولة مهنة الطب ويشخص ويصف علاجاً لأمراض الناس ومرض الناس هنا هو الغفلة والإلتهاء بالدنيا ونسيان الموت والحساب والعرض على الله -عز وجل- فمن لم يكن لديه العلم الذي ينبهه لمثل هذه الغفلات فلن يدري ما هو المرض الذي يوشك أن يفتك به وبالتالي لن يستطيع علاجه.

الحمدلله يقضي ما يشاء ولا (5) يقضى عليه وما للخلق ما شاءوا

وفي هذا البيت يؤكد الشاعر القناعة العقدية الإيمانية الراسخة في مسلم أن الله -عز وجل- هو الذي يصرف هذا الحكم ويقدر أقداراً لعباده حسب ما اقتضت مشيئته وحكمته وأن الخلق مهما كانت لهم مشيئة تختلف عن مشيئة الله فلن يحدث إلا ما قدره الله وليس في هذا شك.

لم يخلق الخلق إلا للفناء معاً (6) تفنى وتبقى أحاديث وأسماء

وفي هذا البيت يواصل الشاعر التأكيد على الحقائق الإيمانية التي ربما تساعد الإنسان في التنبه من غفلته الدنيوية وسعيه خلف الشهوات الدنيئة وهذه الحقيقة هي أن الخلق مهما طالت أعمارهم فنهاية الجميع الموت والفناء فلم يبق لنا من الخلق السابقين إلا الأخبار والأسماء وكذلك نكون نحن بالنسبة لمن يأتي بعدنا فعلى الإنسان أن ينشغل إلا بما ينتفع به من علم وعلم وإعمارٍ لهذه الأرض وطاعةٍ لله ورسوله.

لم تقتحم بي دواعي النفس معصية (11) إلا وبيني وبين النور ظلماء

يبين لنا الشاعر في هذا البيت أنه قد أقام نفسه مقام الواعظ المشفق الأمين وأنه يوجه وعظه ونصحه لنفسه قبل غيره حتى لا يأخذه الكبر وحتى يعتبر المستمع إليه عند علمه بالخطأ الذي ارتكبه الشاعر فيتجنبه فيقول مؤكداً هذه الحقيقة أنه لم يعصِ الله -عز وجل- إلا وجد بينه وبين نور الهداية والإيمان حُجُزاً من الظلام وكل ذلك بسبب دواعي النفس ورغباتها الدنيوية التي يكون فيها مخالفة لشرع الله -عز وجل- .

ب- الجملة المثبتة:

الجمل المثبتة هي الجمل الخبرية التي يريد الشاعر فيها أن يخبر فيها المتلقي لقصيدته ما يريد بدون توكيدٍ ولا شرطٍ ولا نداءٍ ولا نفي وهذا الأسلوب استخدمه الشاعر في قصيدته في الأبيات التالية:

الخير والشر عاداتٌ وأهواء (1) وقد يكون من الأحباب أعداء

في هذا البيت نرى الشاعر يريد أن يخبرنا عن حقيقة هي نتاج تجربته التي صقلتها السنين الأيام بغرض النصح والتعليم والإرشاد لمن يتلقى منه هذا القول فهو يقول أن صدور الخير والشر من الإنسان شئ نسبي غير ثابت فقد يكون صاحب الخير صاحب شر والعكس فعلى الإنسان أن لا يركن إلى الظاهر دوماً في كل إنسان فلا يحكم على أحد بخيرٍ ولا شرٍ ولا يضع ثقته الكاملة في أحد فقد يكون من الأحباب أعداءُ.

كل له سعيه والسعي مختلف (3) وكل نفس لها في سعيها شاء

يريد الشاعر أن يقول أن كل إنسانٍ له سعيه وهدفه المختلف في هذه الحياة وكل نفسٍ إنسانية لها في سعيها طريقة ومشيئة في تحقيق هذا السعي وهذه هي طبيعة الأنفس البشرية.

يا بعد من مات ممن كان يلطفه (7) قامت قيامته والناس أحياء

إنها الحقيقة المرة التي لا مناص منها وهي أن كل إنسان سيموت ولكن ماذا بعد موته ما الذي يحدث له؟ يحدث له بعد ذلك أن قيامته قد قامت فها هو يحاسب على ما قدم من حياته وها هو يرى مقعده من الجنة أو النار كل ذلك وغيره من الناس ما زال حياً يكابد هذه الحياة ويتأمل آمالاً ويقدر أحوالاً.

كم راتع في رياض العيش تتبعه (12) منهن داهية ترتج دهياء

يخبرنا عن الشاعر عن حقيقة ثابتة عن طباع البشر أنه كم من أناسٍ في هذه الحياة يرتعون في نعيم الحياة المؤقت ولكنهم لا يدركون أن هناك دواهي تتبع كل إنسان لا يدري عنها أي شئ فعلى الإنسان أن لا يركن إلى نعيمٍ قد يراه من الدنيا.

وللحوادث ساعات مصرفة (13) فيهن للحين إدناء وإقصاء

ويقول الشاعر في هذا البيت أن حوادث الدهر متقلبة غير ثابته فتارةً تنعم على الإنسان وتارةً تغمره بالمصاعب فعند مجيئ ساعات المصاعب والمصائب نراها تقرب وتدني لنا الحين أي: وقت الموت وعند النعيم نراها تقصي وتبعد عنا هذا الحين.

كل ينقل في ضيق وفي سعة (14) وللزمان به شد وإرخاء

والحقيقة الثابتة عن الحياة أنها متقلبة وغير ثابتة وقد أتت كل هذه الجمل الخبرية لتثبت لنا ذلك فكل إنسان تنقله الحياة ما بين ضيقٍ في معيشته وسعة وللزمان مع الإنسان أحوال فتارة يشتد عليه