أزيْزٌ يصمُّ أذنيّ..
الليل طويل, وعيناي تأبى الإطباق.
صور شتى تزخر بها ذاكرتي .. حوارات عقيمة تشبه العويل.. تداخلات لوجوه أعرف بعضها ولا أعرف الآخر. فوضى الذكريات ترعد وتبرق حتى ينهمر المطر ويُغرق وسادتي.
لمن أدين بهذا الصمت المطبق إلا من نشيجي.
ولِمن أدينُ بهذا الفراغ الموْحش من حولي؟
أ لأمي التي تخلتْ عني زهدًا في "زوجٍ عاطل فاشل" كما تصفه ؟
أم لأبي.... الرجل الذي نعى حظه من الدنيا مبكرا...
أبي الذي فَقَد سُبل الإعاشة حين راوده طموحه باعتلاء الغيم وقرر ترك وضيفته وباع أرضه التي تركها له أسلافه ليبني ذلك الصرح.. صرح أحلامه كما كان يُسميه, سقط الصرح بجدارة وأخذ معه كل شيء.. حتى رحيل أمي كان أحد تداعياته.
وكأنه راق للحظ أن يخالفه في كل شيء, فما وضع رجله على بقعة إلا وتشققت من الظمأ, وما أمسك بأخضر إلا يبس. ومع هذا لم يتُه في عتمة الأماني وظل متأزرا ببُردة الجلد, متشبثا بصولجان الجد.. جادا في الوصول إلى بقعة ضوء.
ولكن دون جدوى...
ربما أخطأ الوسائل؟!
لا أعرف.
كل ما أعرفه؛ أنه توقف عند نقطة غمرها إخفاق خنق أرادته وأورثه الزهد في كل شيء وأرداه قعيدا تمضغه أنياب الحاجة والوقت بتريث مميت.
راوده الاحتياج على الانحناء فاستعصم, حتى أرهق الاحتياج صبرنا استنفاذا, فأصبحنا كشبحين بالكاد تعكس ظلنا المرآة.
ولأن للقتر ظلاله الثقيلة, فقد بعثرت أوجاعه ملامح أبي ووسمتها برسمها الكئيب, أما أنا فبرغم سنيني العشرين ووسامة محياي, إلا أن يدا لم تطرق بابي سوى يد كهلٍ عرف مقدار حاجتنا فأبرز أمامنا كل ما ينقصنا من زخرف الحياة, ومع هذا فقد أقصاه أبي حين عرف مبتغاه.
غير أن عين ذاك الكهل الصائد ظلت تتربص بي, وظل يزايد على افتراسي, ويحاصر أبي بالكثير من الندى ويحاوره بحلاوة اللسان وجميل البيان حتى خر أبي راضيا, فتناولني الرجل كوجبة سريعة, بعقد مسيار لشهور عدة , ثم لفظني فعدت إلى بيداء أبي كسيرة حزينة.
كيف وافق أبي على تلك الزيجة وكيف رضيت أنا؟ تلك هي المأساة التي تضاءلت أمامها كل مآسينا.. تلك هي المأساة التي ظلت تزداد بشاعة في نظري كل يوم؛
إذ كيف يبيعني أبي؟
كيف ؟ ولمَ ؟ ولماذا؟ ولا أجرؤ على طرح كلمة واحدة أمامه؛ ربما لمعرفتي بحزنه, فكأنما عافت نفسه ماجرَّه علي, فطفق يحذرني من الإفصاح عن هذا الزواج, ولبثت أطمئنه وأؤكد له حرصي على الكتمان. ومع هذا فقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت, وكأن زواجي كان القشة التي قسمت ظهر البعير.
أعتل يوما بعد يوم حتى لاقى ربه في ذلك العام.
أمي التي نجت حين خرجت من خرائب أبي, استقبلتني في منزلها بمزيد من الود والترحيب, ولم يكن بأقل منها ترحيبا زوجها ولا ولديها..
ولكني امرأة مهشمة مبنى ومعنى وقد أحسنت خرائب أبي تربية الذعر في نفسي, فلم أتُق إلى مخالطتهم وتمنيت, بل وأصررت على أن تهبني ركنا منزويا في منزلها.
وافقت أمي على مضض.
وبين الحين والآخر كانت تحضر لي صورة لرجل تتمناه زوجا لي. وكنت أسرد عليها حكاية الحسناء والوحش, فتضحك وتقول:
• من أين أجلب الوحش؟
لا تعلم أنني أنا الوحش الذي ينبغي أن يحرره الحب.. نعم, أنا بحاجة إلى حب رجل يحررني من لعنتي حين يعلم كل ما وصمتني به الظروف ويتقبله ويرضى به. عندها فقط ستسقط اللعنة. تؤكد لي أنها لا تفهم عن أي وحش وأي لعنة أتحدث, وأؤكد لها أنها ستفهم كل شيء يوما ما, فتصمت إلى حين.
زخات من ألم تجود بها سماء حزني كلما انفتحت مغارة ذاكرتي ليبرز منها وجهك يا أبي.. زخات ألم تستميت أمي لمقارعتها؛ بفتح نافذة مشرعة على سماء حبلى بالغيث, فأوصدها وتفتحها وأوصدها وتفتحها حتى حل ذلك الليل..
ليل منهك كأنما مل تكرار نفسه. ليل يختال القمر فيه بشحوب كئيب, والأشجار تحت نافذتي خاشعة, هي الأخرى, كأنها تنصت لهدير ذاكرتي, كل شيء كان صامتا,خاشعا, وكئيبا, إلا من صوت عربة قادمة من أديم المجهول أخذ يمزق سكون ليلي ويقترب حتى أستكان تحت نافذتي.. اُرهف السمع قليلا, أتشاغل بالإنصات لصوت المحرك. تغلق ذاكرتي أبوابها,فتغمرني سنة من نوم.
ضوء يغمر المكان, أفتح عينيّ, أرى أمي وبجانبها رجل, تسارع أمي إلى سحبي من السرير, وتهمس لي:
• هذا مراد أخو زوجي وربيبه, وهذه غرفته.
علمت فيما بعد أن المنزل كان إرثا تقاسمه مع أخيه ,زوج أمي, وأن علي مغادرة ركني الموحش بصمت. ودون أن أنبس ببنت شفة.. تقبلت الأمر!.
متى كان لي حق التمسك بشيء لأتمسك بمكان ليس لي؟ّ!
كان يحضر لي أشيائي المبعثرة هناك وكنت أشكره لجلبها, وهو لا يعلم أني تركتها لحين عودتي, فهو كما قالت أمي: نورس؛ ديدنه الترحال, وأنا انتظر رحيله بفارغ الصبر. أما أمي فتنفرج أساريرها عندما تجود لنا الصدفة بتبادل حديث مقتضب, وأما أساريره هو فلا تُقرأ, برغم ملامح الود الظاهر على محياه, إلا أن هذا الود لم يرقَ لأخذي إلى شاطئ الخيال.
أترك أمي تمتشق رؤاها لتبارز بها خيباتها المتتالية بي. وأعود إلى ركني البعيد..
إلى هنا, حيث الصمت المطبق..
حيث يبدأ وميض لا يهدأ
وأزيزٌ يصم أذنيّ
وليل طويل.. طويل.. طويل
يلوح بين جنباته وجه مراد ووميض أمل قد يصدق.
amal