رهف
تلك الفتاة، أية الجمال، عنوان الرقة والإحساس، التي كانت تعيش في كوخ صغير قرب بحر من أحلى البحار، المليئة بالسحر والأسرار. تحيى وحيدة يتيمة تغمرها الأحزان والألام، فأبواها توفيا في حادث أليم مريع، تتذكر تفاصيله، كلما رأت أما وأبا يتحلقان حول أبنائهم خوفا عليهم من نسمة هواء، ولو كان عليلا رائعا.
ذات يوم وككل يوم، ذهبت لتصطاد حاملة معها صنارة قديمة وسلة شبه ممزقة، وبعد ساعتين كانت في طريقها للعودة، فكانت تلم من قواقعه وصدفاته، الأروع والأروع، وفجأة لفت إنتباهها لقصر رملي، متقن في بناءه، بهي في منظره، صغير في حجمه، فأخذت تزينه بتلك القواقع والصدفات البحرية، وحدث ما لم يكن في الحسبان، القصر يكبر ويكبر ويكبر حتى أصبح حقيقيا، يلفه زرع عشب غريب من كل جانب،
فتح بابه تم وقعت الصدفات أرضا، فإلتقطتها رهف بهدوء، ثم بفرح وسرور وبهجة ظلت تفتح نوافذه، تجلس على أرائكه، تشم وروده، فهي كانت تستمتعأيما إستمتاع بكل أركانه. و ما هي إلا ثواني قليلة حتى سمعت صوتا لم تعلم من أين صدوره يقول:
(من من من بالمكان؟)
ثم صوتا أخر أكثر رقة وحنان:
(لا تخف، وليطمأن فؤادك، وإظهر أمامنا هنا في الحال، فستكون في ضيافتنا أربعة أيام، تمضي فيها رفقتنا وقتا لن تنساه)
بقيت الفتاة في حيرة من أمرها تم قررت التعرف على الصوتين، فكلام ثانيهما أشعل نيران الفضول بداخلها، وكانت هناك غرفة واحدة لم تزرها، وما إن فتحت بابها، حتى رأت إمرأة ورجلا، تبدوا عليهما راحة مالية جيدة، ويبدوا عليهما كذلك إرهاق نفسي شديد. وقال الرجل:
(نحن ملك وملكة إحدى الدول المرموقة والعريقة، ومدينتنا مطلة على البحر، وقد سحرنا سحر خبيث يمنعنا من الخروج والظفر بحريتنا. فلا بد أنك لاحظت عشبا قوية خضرته، تكون من حول قصرنا فجأة، فإن حاولنا الفرار، إلتف حولنا وخنقنا حتى الموت، وهذا هو ذلك السحر اللعين. وبما أنك عثرت على القواقع العجيبة، فستقطنين معنا لبضع أيام معززة مكرمة، نعدك بذلك رهف)
ردت رهف بتعجب:
(وأين أبناءكما لتحريركما من هذا السجن الأليم؟)
فردت الملكة، وشلالات دموع تغمر خدودها:
(أي أبناء؟ ليس لدينا أبناء؟ كفى، كفى يا إبنتي لا أريد الحديث)
ثم شاركتها رهف أحزانها حين قالت:
(وأنا منذ زمن، أعيش يتيمة وحيدة. فذات يوم كان أخي الصغير فراس مريضا، ولعلاجه تلزم أمي بضع طحالب بحرية، فذهبت مع أبي مبحرين على قارب متكسر، لقد كانت الأمواج أقوى منهما، فإلتهمهما المحيط، إلتهمهما المحيط، أما فراس فقد أشتدت أوهانه، وتركني مرغما، مثلما تركني الأبوان مرغمان خاضعان لشر المحيط)
فإحتضنتها الملكة إحتضانا، فغمرتهما تلك المشاعر الصافية النقية، التي تكنها كل أم لإبنتها، وتستقبلها الإبنة بشوق وترقب، وهكذا أصبحوا أسرة واحدة، أبوين حنونين وإبنة بارة.
وبعد تلك المدة بدأ الوالدان توديع رهف وداعا ظناه أبديا. ولكن رهف أثرت السجن على الخروج، لأنها أثرت دفئ الأسرة على الحرية. وبعد يومين إثنين، وجدت رهف ورقة وسط كتاب مهترأ، أوراقه متهالكة كتب عليها:
"أنا الملك وزوجتي، سجنتنا الساحرة غرور، طمعا في عرشنا، الذي تتقلده الأن بإسم الملكة سارة. وتحررنا ليس بالأمر اليسير، فيجب على فارسنا المغوار، إيجاد التعويذة المناسبة من كتاب غرور اللعين، التي تقتل العشب حول قصرنا هذا، من ثم أنطلق وسيفي بيدي للإنتقام منها، عن كل جرح بقلبينا، كل دمعة نزلت من عينينا، وكل يوم مر حزينا علينا، في هذا القصر الكئيب"
كان الملك يكتب مذكراته، ويخبأها تحت سريره، ولم يخطر بباله يوما أن رهف هي فارسه المغوار، فقد وجدت المذكرات بمكانها صدفة، وقرأت الرسالة صدفة، وقررت تحريرهما صدفة. وفي المساء قالت لهما بأسى:(منذ زمن بعيد، عشت وحيدة، أصحابي البحر والهواء والسماء. لقد إعتدت على ذلك الكوخ رغم صغره وتواضعه. وأنا أريد حريتي دائما أبدا الأن). كانت تتحدث محاولة السيطرة على نبرتها وصوتها فيظهرانوكأنهما فعلا للحياة القديمة إشتاقا تارة، وتارة أخرى لألا يحس الأبوان بسر هذا القرار الجديد.
في اليوم التالي، إستيقظت باكرا، متمسكة بذلك البصيص المشرق. فتنكرت بزي خادمة، وذهبت تطلب عملا من الساحرة، في قصر عرش أبويها، وكانت كل يوم بلا كلل ولا ملل تبحث عن كتاب تعاويذ غرور، غير مكترثة بالعنف والألم، اللذان تتلقاهما منها مرارا و تكرارا.
وذات يوم، بينما كانت تنظف غرفة نوم الملكة الكاذبة، وجدت كتابا غريبا، مهترأة أوراقه ومصفرة إصفرارا يقول أنا قديم والزمان جار علي. فبدأت تقلب صفحاته، الواحدة تلو الأخرى، حتى وجدتها، وجدت التعويذة، حقا وجدتها. وكانت تقول
"ماجيك ماجيكو، من ما كان لما أريد أنا حاملة الكتاب، ماجيك ماجيكو، ماجيك ماجيكو"
وفور خلود الشمس لسباتها، هربت بإتجاه القصر الرملي، وما إن وصلت، حتى أمسكت الكتاب إمساكا بين يديها، وبدأت تلقي التعويذة، مرة ثم مرة ثم ثالثة فرابعة وخامسة، حتى ذبل العشب المسحور، وغذى رمادا أسود سواد الليل، وبإبتسامة مشرقة على شفتيها طرقت الباب، ففتحته أمها وقالت لها رهف:
(أماه، أماه. لقد وجدت مذكرات أبي. وعندما رحلت، كنت في طريقي لتحريركما الحرية الأبدية. أماه أريد حضنك حبيبتي أماه)
فنادت الملكة زوجها وهي تقول:
(فارسك المغوار رهف إبنتنا الغالية، تعال وأنظر العشب أصبح رمادا نستطيع الخروج، نستطيع نستطيع، رهف أنقذتنا، والحرية أهدتنا)
فجاء وحملها بين ذراعيه إفتخارا وإعتزازا ثم قال:
(أدخلا القصر وإختبئا، الأن دوري، سآخذ سيفي وأذهب لقتل من دمرت حياتي، لكنني كذلك سأشكرها، فلولا سحرها، ما عرفنا رهف ولا شعرنا بما نشعر الأن، أبوتي وأمومتك أنت)
وبكل شموخ وقوة وشجاعة، إنطلق بخطاه نحو هدفه، وكانت ترافقه دعوات زوجته وإبنته، والذكريات الجميلة معهما منذ أن أصبحت رهف بنتهما، فكانت تقويه إن إستسلم، تقوده لبر الأمان إن خاف وإرتعب.
بعد ثلاث ساعات من المشي المتواصل وصل، فإقتحم عليها القصر وقال:
(غرور تحررت وأصبحت أبا، ورغم كل الأذى الذي تسببت به لي، أشكرك جزيل الشكر فأنت سبب في أبوتي، والأن ستموتين، ما هي إلا ثواني حتى تفارقين كوننا، فيغدوا مليئا بالأمن والأمان، السلم والسلام)
وهكذا كانت نهايتها. فعاد الملكين لحكمهما وقصرهما وحياتهما، لكن مع بسمة فتاة جميلة، أصبحت أميرة، هي الأميرة رهف، وعاشوا بسعادة وهناء في بيت الأسرة المليء بالدفء والحنان٠