بدأت الألفة تتسرب سريعاً بيني وبين الطلبة السعوديين ؛ إذْ إنّ الغريب هو للغريب نسيب ، فكيف ونحن جميعاً من نفس الجنس والوطن واللغة والدين .
العرب في المعهد كان تصنيفهم كما الآتي : السعوديون وهم – كالعادة دوماً – الأكثرية والأغلبية الساحقة ؛ فهم يكتسحون العالم بطريقة عجيبة ، تشعر منها وكأن عددهم ملياراً من البشر ، هؤلاء الشباب كانوا من مناطق مختلفة من بلادنا الحبيبة ، فيهم ثلاث فتيات سعوديات .
يليهم في العدد الإماراتيون ؛ وأغلبهم كانوا ضباطاً في بعثة صيفية على حساب دولتهم ، ومعهم كان شخص اسمه خالد ، ولهذا الولد قصص طريفة ، لا تعد ولا تحصى ، وسنفرد له – إن شاء الله – حديثاً من هذه السلسلة .
ثم يجيء البحارنة ، وكلهم شيعة ، ولذا فقد كانوا لا يحتكون بنا كثيراً .
ثم تجيء الجنسية السورية ، المقتصرة على اثنين فقط ، شاب اسمه عبدالله ، وفتاة اسمها غيداء .
ثم كويتي واحد ، وسوداني واحد .
حضرنا أول درس وثاني درس وثالثه ، ثم بدأت فترة الراحة ، وهي ساعة غداء بين الفترتين الدراسيتين .
لم تنته الحصة الدراسية حتى وجدت الشباب السعودي : الكريم – الشهم - الداشر – الوفي – الشجاع ( السعودي كوكتيل أخلاق دائماً ) ينتظروني ؛ قائلين لي : تعال معنا لنعرفك على المدينة ، وبعض ما قد تحتاج إليه .
ركبنا الحافلة ، وقطعت تذكرة لمدة شهر كامل ، أركب من خلالها لأي مكان أريده في أكسفورد ، وفي أي وقت – والبركة طبعاً في هؤلاء الشباب الذين نبهوني لذلك وأخبروني به .
تقدمنا قليلاً – كان معنا شاب فرنسي قد ربّاه السعوديون على يديهم ؛ فصار يستعرض بكلمات عربية بذيئة قد تحصّل عليها من تعليمهم الطيب وصحبتهم المباركة :) – ثم نزلنا إلى مطعم فلافل ( طعمية ) يديره شاب مصري .
أفطرنا ثم عدنا للمعهد ، وأكملنا يومنا الدراسي ؛ ومن بعدها نزلنا إلى وسط المدينة ( السوق ) ؛ فتسكعنا تحت مطر خفيف لطيف ؛ ومن بعدها ودعنا بعضنا ، ورجع كل منّا إلى عجوزه .
كانت العائلة قد أعطتني مفتاحاً للمنزل ، مع تحذير واضح وصريح بأنّه في حال ضياعه ستدفع خمسة جنيهات !
تفتح باب المنزل ؛ ثم تضع – كما الأوامر السوزانية :) – حذاءك خلف الباب ، يكون على يسارك دورة المياه – أجلكم الله – ويصير أمامك الباب المؤدي للصالة ( المجلس ) ؛ قمت بطرق هذا الباب ؛ فقالت صاحبة المنزل : يس .
دخلت ؛ فكانت المفاجأة ؛ لقد عاد الطالب الياباني .. هاي / هاي ، صافحنا بعضنا بحرارة ، وفرحت برؤيته ، لأني كنت محتاجاً لمن هو في سني ، ويشاركني الغربة والمشاعر والظرف .
جلسنا ، ثم عرفني بنفسه : اسمي " كاجني " ، عرفته بنفسي وقلت اسمي " أحمد " !
جاكني ياباني يعمل صيدلانياً في اليابان ، وله ثمانية شهور يدرس هنا ، ومع هذا فإنّ لغته كانت غير جيدة وضعيفة ، وهنا لفتة ومعلومة : اليابانيون يكتبون الإنجليزية بمهارة ، ويقرؤونها بسهولة ، ويفهمونها بوضوح ، ولكنهم عند الحديث تصعب عليهم ، ويظهر لي بأنّ السبب في ثقل ألسنتهم وبطء استساغتها للجديد من اللغات إنما هو يرجع للغتهم الأم التي قد قرأت عنها – قبل قليل - بأنها نادرة جداً ؛ فهي تعتمد المقاطع اللفظية وليس المخارج الصوتية !
صاحبة المنزل كانت ديكتاتورية ؛ أو لنقل نظامية وصارمة ، فهي تدخن ، ولكنها لا تسمح لـ " كاجني " أن يدخن في منزلها ، ولذا فإنه كان يخرج في البرد ليلاً ليدخن ويرجع ، ولذا كان يطرق بابي لنخرج سوية عند الباب ؛ هو يدخن ، وأنا أتحدث .
ذات عصر – وما أطول عصرهم – طرق كاجني باب غرفتي ، ودعاني للخروج إلى الحديقة المجاورة للمنزل والتريض بها .
لم تكن حديقة ، بل جنة خضراء يخترقها نهر جميل ؛ ظننته نهر التايمز ، فقال كاجني هذا جدول صغير متفرع من نهر التايمز وليس هو نفسه ، ولكني سآخذك غداً معي لأريك التايمز إن كنت ترغب بذلك .
حان الوقت لأخبركم بالموقف الطريف مع هذا الفتى الياباني ..
الآسيويون كان عددهم معنا كبير جداً ، وفيما أنا في المعهد أبحث عن فصلي الذي قد غيروا مكانه ، استوقفت آسيوياً ؛ فسألته عن فرقة الصاعقة ( الحضيض ) أين هم ؟ وأين هو فصلهم الجديد ؟ نظر إليّ هذا الآسيوي بأسىً شديد ، ولوعة كبيرة ، ثم قال : أحمد ! ألم تعرفني ؟ أنا كاجني ، صاحبك ، صديقك ، حبيبك ، أنا الذي أسكن معك عند مدام سوزي !! :)
اممم اممممم اممممممممممم !!
يلا بئا .. محدش يضحك .. شرق آسيا كلهم يشبهون بعض .. وأنا ما جلست معه إلا نصف ساعة بالأمس .. ( ترقيع ) :)
الخلاصة ؛ أخذني كاجني بيدي كما الأعمى ، وأنا حينها أسير وراءه فاشلًا محطماً ): لا أنبس ببنت شفة – ويعرف كل من مر بجانبي ورآني بأن خلف هذا الوجه مصيبة ما ): ... أقول : أخذني وأدخلني فصلي ، وقد شكرته بصمت دون كلام ؛ فإنّ الصمت في حرم " الفشيله " هو الحل الوحيد !!
أقول بس وين السعوديين !!
دخلت الفصل المزعج ؛ فوجدت السعوديين ! نعم إنهم السعوديون الذي يملؤون المساجد والملاهي ، ساحات الجهاد ومدرجات الكرة ، حلقات التحفيظ وميادين التفحيط ، إنهم كل شيء في شيء ، وشيء في كل شيء !! :)
جلست وكأن أمراً لم يحدث ؛ فالفشيلة في اليابان ، ونحن الآن في السعودية المصغرة ! :)
معنا إسباني كبير في السن ورائع ، يقول أنتم أيها العرب أجدادنا ، وأيضاً معنا فتاة تركية اسمها إيمي ، وأخرى إيطالية خلوقة جداً قد نسيت اسمها ، والبقية نحن والضباط الإماراتيون ، والشاب الكويتي !
بدأ الدرس ، وحضر الأستاذ " مارك " الذي قال لي أنت ذكي وخطير .. وسنعرف جميعاً لماذا قال هذا الشيء في الحلقة المقبلة .
آيـدن .