ثمَّةَ حريةٌ هائلةٌ تُنعِش أرواحَنا مع كل بدايةٍ جديدة.
الأول من يناير للعام 2022، الساعة الثانية فجرًا، قليلٌ من حماس البدايات الجديدة ومشاعرَ متضارِبة أنْ ها قد بدأنا دربًا جديدًا، ألوحُ بِالوداع لِلمحطات التي سبقت بِمواقفها ولحظاتها.
في غرفةٍ مُعتمةٍ صغيرة، بدأتُ لِوهلةٍ أشعر أنّ كل ما فيّ مدعاةٌ لِلهدوء، أغمض عينيّ مُستحضِرةً قولًا حملته في قلبي، ولطالما مدّني بِالشغف والطاقة كأنّه غيمٌ مِعطاء، "وأنا التي لا يستطيع أيّ مكانٍ أنْ يُبقيها في داخله أكثر ممّا تريد"، أسمعها تضجّ بِداخلي فأبتسم، أُقلع نحو أولى محطات رحلتي -وأنا التي لها في كل يومٍ محطة- وفي رأسي أسئلةٌ بِحجم الكونِ بل أكبر.
كم مرة يحقّ للإنسان أن يُعيد تجديد ذاته، أنْ يزرع محاولاته في أراضٍ جديدة، ومدنٍ بعيدةٍ عن وسائدِ راحته وأمنه، مغادِرًا دائرته المألوفة نحو المجهول، نحو وجهةٍ جديدة الوجوه والأصوات والمشاعر؟ كيف سَتبدو طقوس فصولِه وأيّامه القادمة، هل سينجح في نهاية رحلته أنْ يكون أنضجَ وأقوى ممَا بدأها؟
ما الذي تفعلهُ الكارثة حين تحلّ على شخصٍ ما؟ تضطرّه للتَحول من شخصٍ يعرفه إلى شخصٍ يجهله، ينظرُ إلى ملامحهِ في المرآةِ فَيرى شخصًا قد ألِفَهُ، لكنّ داخلهُ أصبح شيئًا آخر، شيئًا مختلِفًا البتَّة.
أعرفُ أنَّ الإنسان يمكنُ أنْ يتغير، بل هو مُحالٌ ألَّا يتغير، وها أنا ذا أسافرُ من رِحلةٍ لِرحلةٍ لِوحدي، لا أدري أهُو هروبٌ لِلأمام من كوارث حفرتْ بِعمقٍ داخِلي، أمْ محاولاتٍ حثيثةٍ منّي لِلتعافي والانطلاقِ بِخفّةِ طيرٍ من جديد؟
لطالما تمنّيتُ أنْ أمتلكُ القدرةَ على المغامرةِ من جديدٍ وبِقوة، أنْ أمُرّ على أيّامي بِأُلفةِ المُقيم لا عجلةِ الزّائر، أفكّ شيفرات أحداثها بِتمهَُل، أكشِف دروسها بِرَوِيَّة، أنْ يصبح لي صندوقيَ الأسود الخاص، بِأسراره التي لا يُدركها أيّ عابرٍ مهما بلغَ ارتباطه بِالحياةِ حوله.
رحلةٌ جديدةٌ من الحياة، أبدأها كَمسحةٍ ربَّانيةٍ تُحيي جذوةَ الشغف داخلي، وتعيدُ ترميم هذه الذاتِ المُبعثَرة، أخطو أولى خطواتي بِها، في لحظةٍ أشبهَ بِمشهدَ من فيلمٍ أو فصلٍ من رواية، ألتقطُ أنْفاسي بِبُطء، وبِمزيجٍ من الحماسِ والرغبة، الانتماءِ لِهذا العالم والغُربة، الثّقة والشّك، ينتابُني شعورٌ مُربِك بِأنّني لستُ أهلًا لها، هذا ما يعيشه الإنسانُ في أولى خطواتِه بِكل ما يحملُ من لهفةٍ للتجربةِ والبحث عن الإجاباتِ والمُفردات.
تتّسع الهُوّة وتتمدّد المسافة الفاصِلة بيني وبيني مع كلّ ضيف سؤالٍ حاضرٍ في رأسِي، أحاولُ أنْ أشقّ طريقي بِثقةٍ نحو الأمام، دون أنْ أستمرّ بِالوقوف دونَ حراك، وثمّة ما يُقيّدني ويجعلني عاجزةً في وجهِ أصواتي الداخليّة، تلك التي تضعُني تحت وطأةِ رصاص تساؤلاتٍ كثيرة، مَن أنا؟ مِن أين أتيتْ؟ ولماذا اخترتُ أنْ أسلُك هذا الطريق؟ هل أستحقّ أنْ أكونَ هنا؟ أنْ أكون ما أنا عليهِ اليوم؟ هل سَيرى العالمُ يومًا حقيقة أنَّني أقلّ شجاعةً وجُرأةً ممّا أبدو عليهِ، وأنّني قمتُ بِخداعهم، فَتتحطّم ال(أنا) أمام ناظِريّ؟
اليوم، وقد تغيّرت الحياة مِن حولي دُفعةً واحدة، أتساءل كيف يمكنني أنْ أتعرّف على هذا العالمِ بِعينِ الساكِن، أُصافحه بِيد المُقيم المُتأمِّل لا العابِر، فَأنْ تحطّ في هذا العالم سائحًا تمشّط شوارعَه، تزورُ معالِمه، ثمّ تودّعه عائدًا لِدائرةِ راحتِك، فَإنَّه لَأمرٌ سهلٌ يسيرٌ تعتادُه، ولكن أنْ ترى العالمَ بِلا أقنعتِه البرّاقة، وتقبَلهُ بِحسناته وعيوبِه، بِحدّةِ مزاجِه وعنجهِيّة غُروره، وبِكل ما يحملهُ من مفاجآتٍ ومجهول، هو حتمًا أمرٌ مختلفٌ ورحلةٌ فريدة.
كيف يُمكن لِلإنسان أنْ يخلُق الأُلفة في هذا العالم، أنْ يرسم خريطة بهجتِه ويصنع طقوسَ مزاجِه، إيمانًا منهُ بِأنّه سيعثُر على مكانِه حالما يعثُر مزاجُه الرّوحيُّ على مكانه؟ فَيبدأُ بِالبحث عن ذاته، عن نقطةِ ارتكازه وثباته، الجزء القوي منها والضّعيف، الواثق والخائف، البالِغ والطّفل، تاركًا كل شعورٍ يعتريهِ يتدفّق كالسّيل لِكي لا يختنِق، مُتنبّهًا لِلتفاصيل الصغيرة، مُمسكًا بِرفق بِذلك الخيط الذي يربطُ تجاربهُ بِبعضها رغم تنوّعها، مُغرَمًا بِعادةِ ربط الأحداث بِبعضها البعض، غيرَ مأخوذٍ بِفكرة الخلود الدّائم هنا، باحِثًا -كما كان البشر على مرّ التاريخ- عن شهودِ عيانٍ لِرحلة نمُوّه وقصة عبُوره خطّ سيْرِ الحياة.
لا تزالُ الرحلة في بدايتها، والحكايةُ في مَطلعِها، نجدِّفُ في محيطٍ جديد، ونتعاطى مع مدِّه وجزْرِه، لكن ثمّةَ سحرٌ يختبئُ في البداياتِ الجديدة التي نختارها بِأنفسنا، نختارها بِلذَّة أنْ نعانق آفاقًا تُقناها، أنْ نُعيدَ تعريف أنفسنا بِطريقةٍ جديدة، ونمنح ذواتَنا فرصةَ تقديم ما يعبّر عنها لِهذا العالم دون خوف، أنْ ننظُر لِأنفسنا ونحن نُدركُ أنَّنا أصبحنا أشخاصًا آخَرين دون أنْ نشعر بِالسُّوء حِيال ذلك، ذاكَ لِأنَّنا ننمو، ولِأنّ ثمَّةَ حريةٌ هائلةٌ تُنعِش أرواحَنا مع كل بدايةٍ جديدة.