هنيئاً مريئاً قد تناولت الغداء ، ثم بدأت عندي حساسية زائدة قد بُليتُ بها ؛ إذْ إني أحسست بأن هذه المرأة بخيلة – كما الإنجليز – وأن عليّ كذلك أن أكون أكثر ذوقاً فلا أُكثر من الجلوس مع العائلة ، وأن أعطيهم فرصة الخلوة ببعضهم ، ولذا فقد أصدرت مرسومين عاجلين : الأول عدم الأكل عندهم ؛ فأنا ميسور الحال ولله الحمد – وإن كان ثمن أكلي قد قبضته سوزان ( من زين أكلها عاد :) ) .
الآخر أن أكتفي يومياً بساعة أو أقل منها في الجلوس معهم والاستفادة من لغتهم .
هذان القراران شعرت نفسياً بأنّ سوزان سترحب بهما أشد الترحيب ، فيما أن أفرايم كان بعد ذلك يتمرد عليهما ؛ فهو يحنو تجاهي بحنان لا أفهمه ، يُلح دائماً أن أجلس معهم ( بالنسبة للقرار الثاني ) ، وأيضاً فهو لا يخسر شيئاً ( هذا بالنسبة للقرار الأول ؛ وهو عدم الأكل عندهم ) .
عوداً إلى بدء ؛ فإن الكرم لا يعرفه الإنجليز ، وتقريباً لا تعرفه معظم شعوب الأرض باستثناء العرب ، وكم رأيت كثيراً في مطاعمهم أن يصدف فيلتقي صديق بصديقه الذي كان يأكل على طاولة – فلا يدعوه الأخير لتناول الطعام معه ، ولا يقول له بهذا الخصوص شيئاً أبداً ؛ بل إنهما يتحدثان بمنتهى التلقائية ، وكأن شيئاً لم يحدث :) !!
كرةً أخرى .. العرب هم خير أجناس الأرض ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، وكذلك هم خير من وطأ ثراها ، ومشى فوق أديمها " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ، فنحن – دون شك لدي – شعب الله المختار ( المختار للرسالة ، ونشر القيم الخلقية الفطرية ، ولذا ؛ فنحن الأمة التي غرس الله في معدنها خصال الخير والسمو والجمال ؛ بخلاف بني إسرائيل الذين قد لعنَ الله نفسيتهم ؛ فجاء خلُقهم يستوحش من الفطرة ، ويأنس للشذوذ ) !
أعود بعد هذه الجلالة العربية التي قد توشحت بها رغماً عني :) ؛ فأقول بأنّ أمارات الوحشة قد بدأت تلفني ، وبت لا أدري ما أصنعه بهذا النهار الطويل ، والوحدة الانفرادية !
خرجت مرةً أخرى إلى سوقٍ كنت قد شاهدته أثناء سيري إلى المعهد ، فجلست إلى مقهى في وسطه ..
جاءتني النادلة فقدمت لي الطلبات ، فأخذت أتفحصها بحرص شديد !
نعم ؛ فلدي توجسات من الخمرة ومشتقاتها ؛ وهؤلاء الملأ لا يسلم حتى الآيسكريم عندهم من هذا الأمر ! كما وأني قد لاحظت أمامي سيدة تشرب .. وتشرب .. وتشرب .. شراباً أصفر معصفراً .. يستحيل أن يكون زعفراناً !
دخلت إلى المقهى ؛ فوجدت زجاجات الخمرة مصفوفة معتقة ، فطلبت حينئذ – للخروج من الخلاف :) - قهوة فرنسية .
أزعجونا بحرية المرأة السعودية ؛ فهل الحرية ما أراه من ابتذال الفتاة الغربية ، وتقديم جمالها ورونقها بعملها نادلة لكل الناس !
بالمناسبة ؛ لفت نظري عند الفتيات البريطانيات أمران : التدخين الشديد ، وظاهرة الوشم على الجسد – وهما الآن قد وصلا إلى بعض مجتمعنا ؛ بكل أسف شديد - !
ولفت نظري أيضاً العلائق الوجدانية – أو لنقل الجنسية – لدى هؤلاء الإفرنج ، وهي علاقة غريبة ، تبدأ سريعاً ، وتنتهي سريعاً ، ولا يهم فيها نوع الجنس أو العرق ، أو الشكل واللون ، أو الديانة والمذهب ، فالمسألة خليط في خليط !
ثمة أمر مهم ومفيد : مع ما ذكرته ، فإني أعتبر بريطانيا محافظة عند المقارنة بهولندا أو أمريكا ؛ وفساد الإنجليز في أكثره وأغلبه إنما هو محصور بينهم ، وهم أيضاً غير مهووسين بالجنس - بخلاف الشعب الأمريكي الذين تبدو ظاهرة الهوس الجنسي طافحة عليه ، وسهولة الحصول في أرضهم على Girl friend هي مُيسرة للغريب .
نعم ؛ فأمريكا بلا تاريخ ؛ وهي كشكول العالم ، ولذا فهم أكثر أريحية في تقبل الغرباء ، بخلاف الإنجليز الذين هم شعب عريق ، ولهم أصول وتقاليد ، وعندهم أسر تاريخية ضاربة في قرون التاريخ أطنابها .
كذلك فإن موقع بريطانيا من كونها جزيرة محروسة بالمياه من جميع الجهات .. أقول : هذا قد جعل لدماء أهلها نقاوة خاصة حتى يومنا هذا .
وقد أخبرتني سوزان حين سألتها عن ظاهرة التنوع العرقي في العلائق الوجدانية بين شبابهم الآن ( شرق آسيوي مع إنجليزية – أو أبيض إنجليزي مع إفريقية سمراء – أو العكس لكل هذا ) وأنها متنوعة ومثيرة للانتباه ، فقالت سوزان : في شبابي لم يكن هذا الأمر موجوداً ، ولكن الآن بعد وصول المهاجرين ، وتقبل الثقافات ، صار ما تشاهده الآن من هذا التنوع في الوجدانيات .
لعلي سرحتُ قليلاً ... على أية حال ؛ فقد عدت بعد المغرب إلى المنزل ، وأنا أشعر بشيء من الملل يتسرب إلى داخلي ، فتوضأت وصليت المغرب ، ثم نزلت إلى العائلة ؛ فجلست قليلاً معهم على التلفاز ، إلى أن حانت صلاة العشاء ، وبعد ذلك ذهبت إلى النوم .
بمناسبة الحديث عن الوضوء ، الإنجليز معقدة أشياؤهم ، بدءاً من القيادة يساراً – يقولون نحن على صواب والعالم كله على خطأ – التي تجعل رأسك يُصاب بالدوار ، فتجعلك تتحرز فتلتفت يميناً ويساراً حين عبورك للشارع !! وأيضاً ؛ فإن المغاسل عندهم غريبة ومضحكة في نفس الوقت ! يوجد صنبور للماء البارد ، وآخر للحار ! حسناً .. ما الفائدة ؟!! لماذا لا تضعون خلاطاً لهما ؟!! لقد صرتُ محتاراً : هل أتوضأ بزمهرير ، أم بالماء الحميم ؟!
خلدت إلى النوم ، وصحوت على سماع آذان الفجر يشق الفضاء ( استخرج الكذبة من القطعة السابقة ) ؟! :)
اغتسلت وتعطرت ؛ ومن بعد لبست ملابسي ، وأخذت دفاتري ، وخرجت ... لحقت بي سوزان عند باب الشارع ، وسألتني : ماذا تريد أن يكون الغداء ؟ أجبتها بأني سآكل خارج المنزل ، فرحت " الدبدوبة " جداً ، وأشارت لي بإبهامها علامة الرضا ، ولسان حالها آنئذ : " أحسنت صنعاً ، وكثّر الله من أمثالك " :) .
كان الجو منعشاً ورائعاً ، غمائم بيضاء ، تجود بهتان يتقاطر من أحشائها ، وأنا حينها أغسل روحي ووجهي بجميل صنع الله .
دخلت المعهد متأخراً ، والطلبة كانوا بين أروقة الفصول يتسكعون ، وأنا لا أدري من أين أبدأ أو أنتهي .
المعهد فيه طلبة وطالبات من كل جنس ولون وديانة : عرب ، وأتراك ، وأفارقة ، وطليان ، وفرنسيس ، وروس ، وآسيويون !
حسناً ؛ لم يكن معهداً من نمونة أبو ريالين إذن :)
مشيت أتحسس خطوتي بخجل وتؤدة - كما كل غريب على أرض . رأيت سحنة ( طخة ) خليجيين ، فحيّا الله هذه الوجوه الكالحة :)
تقدمت إليهم ، فأخبرتهم بأني جديد ( منذ دخلت بريطانيا وأنا أردد : تراني جديد .. أظن حتى إليزابيث وصلها الخبر :) ) فقالوا : لا خوف عليك ولا حزن ، فتعال معنا إلى سارا ( صديقتي أمس ) !
تبسمت لها – تراني خويك أمس :) – فقالت نعم ، اذهب إلى الصندوق الله لا يهينك ولا يكسّر مواعينك ؛ وادفع المبلغ المستحق ، وبعدها خذ جدولك ( بالمناسبة .. الإنجليز يعبدون الباوند عبادة إخلاص وعمل وعلم ) .
ذهبت ، ودفعت لهم حقهم المستحق ، ثم قالوا انتظر فسيأتيك بعد قليل أحد المعلمين ليختبر قدرتك اللغوية ، ومن بعدها سيحدد أي مستوى دراسي تستحق ، قلت في نفسي : لا داعي ؛ في الحضيض !! :)
جاء أحد المعلمين ، وأخذني إلى غرفة مستقلة وأغلق الباب لاختباري ، ثم أمطرني بعدة أسئلة ( اسمك – سنك – لماذا تريد دراسة اللغة الإنجليزية - عشاك الليلة عندنا ) :) !!
لا أظنه كان بحاجة إلى نباهة زائدة ولا لذكاء خارق ليعلم بأن ما في الحمض أحد :)
أرسلوني بعد اختبار قدراتي اللغوية إلى الفرقة الرابعة عشر بلاهة ، سلاح العباطه :( ، وفعلاً قد وجدت جمعاً خيّراً مباركاً من هذه العينة ، أكثرهم كان من بني جلدتي الأذكياء أو من يعز عليهم ( أتراك – طليان – فرنسيس ) .
كانت تدرسنا فتاة " مش مضبوطة " ! ومش مضبوطة هذه لها جلسة :)
وأيضاً مارك ؛ الذي قال لي : " أنت خطير " !!
وثالث لا أذكر اسمه ، ورابع اسمه جون .
انتهت الحصة ، وخرجنا إلى حديقة المعهد ، فجاء السعوديون من كل حدب وصوب للتعرف على شخصي المتواضع ، وفوراً تكونت الصداقة والمحبة ولم يبق إلاّ أن نعزم بعضنا بعضاً على سوزان وأمثالها ممن كنا نسكن عندهن :)
همسة : هي ميزة إيجابية وسلبية في نفس الوقت !
الميزة الإيجابية من هذه الألفة العربية تعرفونها وتدركونها بلا أدنى شك ، ولكن السلبي يقع بأن الفائدة من اقتناص اللغة ستتضاءل بسبب التصاقنا الشديد ببعضنا ، وغني عن الذكر بأن حديثنا مع بعضنا سيكون بالفرنسية :)
ليست هذه مشكلة العرب فقط ، فالمعاهد مشكلتها الأساسية هي في تكون الشلل أو القروبات الوطنية ، وأعني التي تكون منتمية لنفس الوطن الأم للمبتعثين أو الراغبين بدراسة اللغة .
على أية حال ، كان أكثر هذه الشعوب انسجاماً معنا – نحن العرب – في المعهد هم الفرنسيون ، وأكثرهم بغضاً لنا هم الأتراك !
.
أعتذر لعدم الاختصار ؛ الذي قد جعلني لا أصل بكم إلى قصتي الطريفة مع الطالب الياباني .
ولذا ؛ ففي الحلقة القادمة – إن شاء الله – ستكون هذه القصة ، ومعها قصة المعلمة التي ( مش مضبوطة ) ، وقصة الإماراتي الوفي ..
وأخيراً فـ : ( متى ما أحسستم بأن المتعة قد تسربت وهربت من هذه الذكريات ؛ فأخبروني لأتوقف عن الكتابة ) .
دمتم والجميع بخير .
آيدن .
______________
الصورة للكرسي الذي كان يتأوبه الفتى العربي بجوار بيت سوزان !