جلسنا ثلاثتنا – أنا وسوزان وأفرايم - ، وقد كان أفرايم ينظر لي بحنان كبير ، ومجاملة شديدة ، ويردد لكل شيء أقوله " إن شاء الله – ما شاء الله " !
الثقافة تحرمك من أشياء سعيدة وبلاهة أسعد ، مثل أن تكون " سبهه " أو " دلخ " أو " دجاجة صقعاء " ! ولأني قارئ جيد منذ نعومة أظافري ؛ فقد استوحشت من أن يكون " أفرايم " يهودياً !
نعم ؛ فأفرايم اسم سبط من أسباط بني إسرائيل ، ويعني هذا الاسم " الأثمار المضاعفة " ؛ كما أن ملامحه الشرقية توحي وتدل وتشي بأن ثمة قرابة بيننا في جدٍ من الأجداد – لعله إبراهيم عليه السلام - .
بعيداً عن هذا ؛ دلفنا للمنزل ، وجلسنا أخرى ( ما غير نقوم ونقعد ) ، وبدأت سوزان تسألني : ماذا أحب ؟ وماذا أكره ؟ وماذا آكل ؟ وبقية المكروهات والمحببات ..
اختصر أفرايم الطريق كثيراً ؛ فقال : لا يأكل الخنزير ، لا يشرب الخمرة ، أليس كذلك يا آيدن ؟ قلت : نعم ؛ وأيضاً الأكل فإني لا أريد أن يُطهى بــ" ـون " !
الـون ، هو كحول يطبخون بها - أحياناً - أطعمتهم ، فقال عندئذ أفرايم لا تخش شيئاً ، أنا أعرف أنك مسلم ، ولعلمك لا يوجد لدينا كلب ، فأنت ستكون مرتاحاً عندنا .
الطريف في الأمر بأني أصلاً لم آكل عندهم إلا مرة واحدة فقط .. يعني أتعبتهم بالشرح والكلام فقط .
كان أفرايم يسألني أشياء كثيرة ، ثم يقول بعد ذلك : " Do you understand " ( هل فهمت ) ؛ فتهز رأسها زوجته وتجيب نيابة عني وبسخرية مضحكة ومستفزة ؛ قائلة : نو ( لا ) !!
كأنّها – اللئيمة - تقول بصيغة أخرى : " يا رجّال اغسل يدك ما فيه رجاء " !!
مع بطء هذا الاستيعاب مني ؛ فقد كان لدى هذا الرجل ( أفرايم ) صبر طويل ، فهو لا يتعب مطلقاً ولا يسأم أبداً من استخدام جميع الأساليب والطرق الكفيلة بإيصال المعلومة لي ، نعم ؛ فقد يقف ، قد يجلس ، قد يُمثل ، قد يُقلد أصوات ... المهم أن أفهم !!
وحينما يرى على وجهي بوادر الخجل أو الإحباط فإنه يبتسم لي بدفء وحنو ؛ ثم يقول : Slowly .. Slowly.. ، أي شوي شوي مع الأيام ستفهم اللغة !!
أيضاً ؛ فإنه فوراً إن بدا أو قد ظهر من زوجته شيء لم أستسغه ؛ فإنه يعالج هذا الموقف بسرعة فائقة وطريقة لبقة ؛ فيبتسم لي ابتسامة خجل أو لطف أو تأسف واعتذار !
على أية حال ؛ فمع هذا كله فإني قد أحسست بأن أفرايم هو شيء هامشي في المنزل .. شعرت أنه مجرد ضيف مثلي ؛ ولهذا سبب ما : زواج أفرايم من سوزان كان زواج منفعة ومصلحة ؛ هو ألباني ، وهي إنجليزية مطلقة ، هو يبحث عن مكان يأوي إليه ، وهي مطلقة قد رحل عنها ابناها ومن ثم قد تركاها وحيدة - كما هي عادة الغرب البغيضة - ، فكان هذا الزواج السعيد !!
أمرَت سوزان – المشغولة حينها بالكمبيوتر – أفرايماً أن يبدأ عمله الذي يعرفه جيداً مع الطلاب الجدد ؛ وهو باختصار أن يطلعني على المنزل بطابقيه ، وأيضاً على التنبيهات والواجبات المتعلقة بي : بدأنا خطوة خطوة ، كيف أدخل المنزل ، أين أضع حذائي – أجلكم الله – ثم كيف أستحم !! ؛ ثم صعدنا إلى الأعلى لرؤية غرفتي ، ونبهني عندئذ بأن أصعد الدرج دون أي صوت لأقدامي ؛ والسبب أن سوزان يزعجها وهي نائمة الصوت المرتفع ... الآن قد ازداد شكي – الذي تأكد فيما بعد - من أن " أفرايم " ليس أكثر من إيناس وحشة ، وقضاء وطر .. لا هو أكثر ولا هو أقل ... وأنه يخاف من سوزان ، ومن أن تطرده من المنزل في أي وقت أو في أي لحظة !
صعدنا إلى الدور العلوي ، وكان يحمل حقيبتي ويرفض أن أقوم بحملها ، ومن خلال سلم خشبي ضيق جداً ، وصلنا للدور العلوي ؛ إذ كانت أربع غرف تنتظرنا : المواجهة للسلم تماماً هي غرفتي ، على يسارها كانت تلاصقها غرفة سوزي ، بجوارها غرفة الطالب الياباني ، أما الرابعة فكانت على اليمين ، ولا أدري حتى الآن ما هي هذه الغرفة وما قصتها ( بين هذه الغرف الأربع ممر لا يتجاوز نصف متر ) !!
دخلت غرفتي ؛ فصدمت جداً ! غرفة لا يتجاوز طولها مترين ونصف ، فيما أن عرضها لا يتجاوز المتر إلا قليلاً ! لا يوجد إضاءة في السقف ، وإنما لمبة ( اباجوره ) يمين السرير .. ما هذه الزنزانة !!
على أية حال ؛ طلب مني أفرايم أن أفرغ حقيبتي ، وأن أضع ملابسي في الخزانة ، ثم هو بدوره سوف يحملها إلى المستودع الخارجي ؛ نظراً لصغر مساحة الغرفة الشديد الذي لا يحتمل أي زيادات .
نزل ( الرخمة ) للأسفل ، ولما أتممت ما قد طلبه مني ، حضر مرةً أخرى ؛ فأخذ الحقيبة إلى حيث لم أرها إلا يوم سفري ( يوجد مستودع في الفناء الخلفي ؛ كأنه بيت شعر ) !
حسناً .. أين الطالب الياباني ؟!
أجابني أفرايم : هو في رحلة إلى إسبانيا مع المعهد ، وسيحضر غداً .
عدت إلى الجلسة المباركة ( مسلم ومسيحية ويهودي .. وغداً بوذي ... يا فرحة أبوي بي ... ثم يا له من حوار أديان مصغر ) ؛ فوجدت سوزان ترسم " كروكي " للمعهد على ورقة ، ثم بعدها طلبت مني أن أذهب – أو أذلف - الآن إلى المعهد لرؤيته وتحديد موقعه ؛ وذلك حتى لا أتعطل في الغد بالاستدلال عليه ، وعندما أعود سيكون طعام الغداء في انتظاري .
كان الرسم واضحاً وسهلاً ، اخرج من المنزل ؛ خذ يمين ، إلى أن ينتهي الشارع ( T ) ؛ خذ يسار ، ثم امش ، وامش ، وامش ... إلى أن تتكسر قدميك ؛ فتجد حينئذ المعهد على يسارك ( الله يا خذك يا عجوز قريح ) .
فعلت ونفذت الأمر ؛ خرجت ، ثم مشيت ، ومشيت ، وطال بي المسير ، حتى كلّ متني ، وتكسرت قدمي ، وتفلت العافية ، والعجيب الغريب أني كلما سألت أحداً عن هذا المعهد ؛ قال لا أعرفه ! هل هو معهد " أبو ريالين " !!
أحد الذين سألتهم اكتشف الخطأ اللغوي الذي كنت أقع فيه حين سؤالي للمارة ؛ فإني كنت أنطق اسم المعهد بالقاف المخففة ، فيما أن صواب النطق هو " جيم " !
الخلاصة ، وصلت المعهد ، فوجدت سيدة ثلاثينية داخل باحته ، تتحدث مع أحد الأشخاص ، فلما أنهت حديثها ، تقدمت فحييتها " هاي " ؛ فردت عليّ التحية بمثلها ، ثم أخبرتها بأني طالب جديد في المعهد هنا ! تغير حينها الاستقبال 360 درجة ، وطارت هذه الموظفة من الفرح ، وأشعرتني كما لو أني أول طالب يمر عليهم ( ما هذا ؟ هل المعهد فعلاً من نمونة أبو ريالين ) !!
دعتني الموظفة فوراً للولوج إلى داخل المعهد الذي كان خالياً من الطلاب حينها ( إجازة ) ، ومن ثم قدمتني لعدد من الموظفات ؛ اللائي كن جلوساً على مكاتبهن ؛ فلما أخبرتهن بأني طالب جديد ، تجددت الأفراح ، وعمت البشائر ؛ فصار الكل يردد : " هاي .. هاي .. هاي .. هاي " كدنا أن نخرج بمظاهرة إلى الشارع ونحن نرددها !
الحقيقة بأنّ الحفلة لم تنته بهذه الزفة ؛ بل إنّ الموظفة قد قالت تعال معي إلى مديرة المعهد " سارا " لتتعرف عليها وتفرح هي برؤيتك كما فرحنا ؛ الصدق أني " تشققتُ كثيراً " :) ، ونسيت - تماماً - الريبة من أنّ هذا المعهد من صنف أبو ريالين !
ذهبت معها إلى " سارا " ، فبشرتها بالطالب الجديد ( كأني ولدهم ) ، فأبدت سارا الفرحة الشديدة بهذا المولود الذكر !
ودعت هذا الجمع الطيب المبارك ، على أمل اللقاء به في الغد ، وكل غد ، إلى أن أعود إلى وطني !
لحقت بي الموظفة – مشكلة الحب من أول نظرة – وقالت : خذ هذا الكرت للمعهد ؛ فشكلك يوحي أنك " سبهه .. وأخشى ما أخشاه إنك تفهي بكره وتضيع المعهد" . ( لغير الناطقين بالسعودية ؛ فإنّ سبهه تعني دلخ ، ودلخ تعني فاغر ، وفاغر تعني فيك بلاهة ما تطمن ) !
عدت إلى منزلي أقصد منزل سوزان ؛ فقدمت لي أكلة ( مرقوق بالبريطاني ) ؛ تناولتها ، ثم سألتني هل هي لذيذة ؟ أجبت نعم جداً جداً ( المرأة في كل الدنيا تريد أن تكون جميلة الشكل .. شهية الطبخ ) !
في الحلقة القادمة أول أيامي في المعهد ، والموقف المأساوي والمحرج والمضحك مع الطالب الياباني .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة هي الطريق المؤدي للمعهد أبو ريالين .. بعد زيارتي لهذه المدينة فيما بعد .