مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد النبيين وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
إن المنهج الأسلوبي في النقد الأدبي من المناهج التي يطلق عليها النقاد مناهج ما بعد الحداثية أو مناهج ما بعد البنيوية وهو منهج يعده النقاد الوريث الشرعي للبلاغة العربية القديمة المتمثلة في علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع ولذا أطلق عليه البعض اسم البلاغة الحديثة وهو منهج يدرس النص الأدبي ويحلله على عدة مستويات وهي (المستوى الصوتي أو الموسيقي – المستوي الصرفي – المستوى النحوي – المستوى البلاغي – المستوى الدلالي).
القصيدة وتحليلها:
قال أبو العتاهية:
الخير والشر عاداتٌ وأهواء (1) وقد يكون من الأحباب أعداء
للحكم شاهد صدق من تعمده (2) وللحليم عن العورات إغضاء
كل له سعيه والسعي مختلف (3) وكل نفس لها في سعيها شاء
لكل داء دواء عند عالمه (4) من لم يكن عالما لم يدر ما الداء
الحمدلله يقضي ما يشاء ولا (5) يقضى عليه وما للخلق ما شاءوا
لم يخلق الخلق إلا للفناء معاً (6) تفنى وتبقى أحاديث وأسماء
يا بعد من مات ممن كان يلطفه (7) قامت قيامته والناس أحياء
يقصي الخليل أخاه عند ميتته (😎 وكل من مات أقصته الأخلاء
لم تبك نفسك أيام الحياة لما (9) تخشى وأنت على الأموات بكاء
أستغفر الله من ذنبي ومن سرفي (10) إني وإن كنت مستورا لخطاء
لم تقتحم بي دواعي النفس معصية (11) إلا وبيني وبين النور ظلماء
كم راتع في رياض العيش تتبعه (12) منهن داهية ترتج دهياء
وللحوادث ساعات مصرفة (13) فيهن للحين إدناء وإقصاء
كل ينقل في ضيق وفي سعة (14) وللزمان به شد وإرخاء
المستوى النحوي:
على المستوى النحوي فإننا نبحث في القصيدة عن التراكيب التي تضامت نحوياً ثم التعمق فيها وبيان دلالتها على المعنى وهذه التراكيب كالآتي:
1- الضمائر المتنوعة:
تنوعت الضمائر في القصيدة وتعددت وانتشرت في سائر أرجائها وقد تواجدت في الأبيات التالية
للحكم شاهد صدق من تعمده (2) وللحليم عن العورات إغضاء
كل له سعيه والسعي مختلف (3) وكل نفس لها في سعيها شاء
لكل داء دواء عند عالمه (4) من لم يكن عالما لم يدر ما الداء
يا بعد من مات ممن كان يلطفه (7) قامت قيامته والناس أحياء
يقصي الخليل أخاه عند ميتته (😎 وكل من مات أقصته الأخلاء
لم تبك نفسك أيام الحياة لما (9) تخشى وأنت على الأموات بكاء
أستغفر الله من ذنبي ومن سرفي (10) إني وإن كنت مستورا لخطاء
كم راتع في رياض العيش تتبعه (12) منهن داهية ترتج دهياء
فكما نلاحظ فقد تنوعت الضمائر ما بين ضمائر غياب وضمائر تكلم وضمائر خطاب وكان لضمير الغياب الحضور الأبرز في القصيدة فنرى الشاعر يقول: (تعمده – سعيه – عالمه – يلطفه – أقصته – تتبعه) بينما كان حضور ضمير المتكلم قليلاً مقارنةً بضمير الغائب فنرى الشاعر يقول: (الياء في ذنبي – الياء في إني – تاء الفاعل في كنتُ) ولم يكن لضمير الخطاب إلا حضور خفي فنرى الشاعر يقول: ( الكاف في لم تبكِ – أنت على الأمواتِ).
وهذا التنوع الواضح في الضمائر المذكورة في القصيدة يدلنا على أن طغيان ضمير الغائب على أجواء القصيدة له دلالة وهي أن الشاعر قد أقام نفسه مقام الناصح الأمين الذي خبر الحياة بتجاربها المتعددة المشفق على غيره ممن ألهتهم هذه الحياة في الصراعات الدنيوية والشهوات النفسية وأعمتهم عن رؤية الحقيقة فصاروا غائبين عن الحق والحقيقة التي لا مناص منها وهي الموت ثم الحساب.
والحضور لضمائر التكلم الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد ضمائر الخطاب يدلنا أن الشاعر لديه إحساس عميق من الندم على التفريط في الذي مضى من أيامه في غير ما يرضي الله عز وجل وبما أنه قد أقام نفسه مقام الناصح الواعظ المشفق فهو أيضاً يخاطب نفسه بمثل هذا النصح الذي يوجهه لغيره ويتكلم عن تجربته الشخصية.
أما الحضور الضعيف لضمائر الخطاب في القصيدة فلعل ذلك يدل على أن الشاعر كان حريصاً في وعظه ونصحه على تعميم وشمولية قوله وأنه لا يقصد به أحداً بعينه وذلك مراعاةً لحال من يتلقى الموعظة فلا يشعر بالحرج فكان ضعف الحضور لضمائر الخطاب مناسباً لهذا المقام.
