كان جرجي زيدان من أدباء وكتاب الشوام الذين استقروا بمصر وأنشأوا بها العديد من الصحف والمجلات وشاركوا في النهضة الأدبية المصرية بنصيبٍ وافر وكان له العديد من المؤلفات الثقافية والإبداعات الأدبية وكان يتكئ على التاريخ في أعماله الأدبية الإبداعية كرافد تاريخي ويقوم بتغليفها بغلافٍ رومانسي وكان هذا بادياً في كل رواياته كما أنه كان مشغولاً بقضية من قضايا مجتمعه ضمنها إحدى هذه الروايات.

وهذا هو مقتضى وغاية هذا البحث وقد اخترت لهذا البحث (رواية صلاح الدين الأيوبي) وقمت باستخراج الروافد المستندة على أحداث تاريخية واستخرجت كذلك مشاهد الرومانسية التي تضمنتها الرواية والقضية التي احتوت عليها وأراد المؤلف أن يناقشها.

أولاً: الروافد التاريخية و الرومانسية

1 – في تمهيد الرواية أورد المؤلف تسلسلا تاريخيا يوضح أحوال الدول الإسلامية في المنطقة العربية وما جاورها من الدول وخص فيها مصر وتسلسل الحكم فيها.

وذلك أنه بعد أن بادت دولة الطولونيين والإخشيديين من بعدهم تولى حكم مصر المعز لدين الله الفاطمي الذي سار إلى مصر بجيشه وعلى رأسه وزيره جوهر الصقلي وتملك زمام الأمور في مصر ثم بنى المسجد الذي عرف فيما بعد بالجامع الأزهر ثم مدينة القاهرة ولم تعرف بهذا الاسم إلا بعد أن سماها المعز بنفسه هذا الاسم.

ثم توالى حكم الفاطميين في مصر وكان يستعينون بالعرب والبربر فكانوا هم وجهاء الدولة ثم انقلبت الأمور بعد أن ازداد العنصر الأسود والعنصر التركي فأصبحوا هم وجهاء الدولة ثم ضعفت سلطة الحكام الفاطميين وكان الحكم الفعلي في أيدي الوزراء الذين كان منهم أسد الدين شيركوه الذي بعثه نورالدين محمود زنكي على رأس الجيش استجابة لطلب الوزير شاور حتى صار شيركوه هو الوزير ثم خلفه بعد وفاته ابن أخيه يوسف المعروف بصلاح الدين الأيوبي.

2 – استخدم المؤلف الأسلوب السردي ووصف من خلاله بعض صور المجتمع في الزمن المذكور في الرواية من تعليم وأزياء وعادات حيث قام بوصف اثنين من العامة يشاهدان موكب الخليفة الذي خرج ليستقبل نجم الدين أيوب والد الوزير صلاح الدين الأيوبي وصار يصف هذا الموكب وكيف أن يلبسون ملابس من الحرير والقصب والديباج وأن الوزراء يركبون أحصنة محلاة بالذهب والجواهر أما الخليفة نفسه فكان يسير مظللاً من الشمس بمظلة من الديباج ومحلاة بالذهب والجواهر وقربوس فرسه محلى بالذهب والجواهر كذلك وعلى عمامته جوهرة نادرة المثال اسمها اليتيمة وفي قوائم فرسه خلاخيل من الذهب.

3 – من الجوانب الرومانسية في الرواية عندما صارحت سيدة الملك خادمتها بحبها لعماد الدين الذي هو من خواص صلاح الدين ذلك أنه حينما حصل اعتداء على قصر والدها في فترة حكمه حاول أحدهم الاعتداء عليها وكاد أن ينجح في اختطافها حتى أتى فارس قام بقتله وأنقذها ثم تركها وذهب.

وقد أخبرها ذلك الفارس أنه من رجال صلاح الدين وأنهم قد أتوا لنجدتهم ثم علمت سيدة الملك أن هذا الفارس البطل الذي أنقذها من خواص صلاح الدين المقربين واسمه عماد الدين فأعجبت بشهامته وعفته وما تزال تسمع عن أخباره حتى هامت به حباً.

4 – من الروافد التاريخية في الرواية أيضاً المشهد الذي كان العاضد يستمع فيه إلى الوزير قراقوش وهو يقترح عليه الاستعانة بالباطنية لقتل صلاح الدين وذكر سيرة مؤسس هذه الفرقة الحسن الصباح وأنه كان في عصر جد العاضد منذ مائة وخمسين سنة وأن هذه الفرقة قد اغتالت العديد من الشخصيات السياسية الكبيرة مثل نظام الملك وزير السلطان السلجوقي ملكشاه.

وذلك أن الحسن الصباح كان من المقربين جدا للوزير نظام الملك فقد كان له معه صحبة قديمة وعهد بالصحبة والوفاء فلما تولى نظام الملك الوزارة استقدمه وجعله من خواص مجلسه وكان الحسن الصباح هذا ذكياً ألمعياً تعلم العلوم الشرعية وتعمق في علم الكلام ثم تتلمذ خفية على يد عبدالملك بن عطاش صاحب الدعوة الباطنية الإسماعيلية.

ثم تولى الحسن الصباح بعد ذلك زعامة الباطنية وأنشأ من داخلها فرقة الحشاشين وهي فرقة اغتيالات خاصة مستميتة في طاعة سيدهم الملقب بالإمام وذلك أن الحسن الصباح قد استخدم نبات الحشيش المخدر ليتلاعب في عقولهم وأوهمهم أنه أدخلهم الجنة ورأوا الحور العين ثم عادوا إلى الحياة ليتموا مهمتهم في الحياة وهي خدمة الحسن الصباح وبعد وفاتهم يعودون إلى هذا النعيم المقيم

5 – أشار المؤلف إلى حادثة تاريخية حيث ذكر العاضد نكبة المستنصر بالله والكنوز التي سرقت من قصره وخزانة الدولة في حديثه مع شقيقته سيدة الملك التي عادت في صباح اليوم التالي لتطمأن على أحواله الصحية وذلك أنه في عهد الخليفة المستنصر بالله ألمت بالبلاد ظروف عصيبة.

فقد انخفض منسوب مياة النيل جدا وفسد الزرع ونفقت البهائم وجاع الناس وهلكوا حتى خزينة المستنصر نفسه لم توف قد حاجته الشخصية فضلاً عن حاجة الناس ووصل الحال بالناس أن أكلوا الكلاب والقطط وصارت تباع بأسعار خيالية حتى أن الناس قد أكلوا بعضهم حرفياً فكان من يموت من الناس يتغذى الآخرون على لحمه.

وظلت هذه المحنة تفتك بالبلاد سبع سنوات عجافٍ طوال حتى استعان المستنصر بابن الجمال وعينه وزيراً فقمع الناس بالقوة وأصلح نظام الري والزراعة وعدل بين الرعية حتى انتهت المحنة على يديه وفي ظل هذه الأزمة حصلت اعتداءات وسرقات لقصر الخليفة حتى يجد الناس ما يسدون به جوعهم.

6 – من الجوانب الرومانسية أيضاً في الرواية الحديث بين سيدة الملك شقيقة العاضد وخادمتها ياقوتة حينما أخبرت ياقوتة أن شقيقها العاضد ينوي تزويجها بأبي الحسن الذي يدعي بأنه ابن عم للعاضد ثم طلبت من ياقوتة أن ترسل لعماد الدين تطلب منه الحضور إليها.

وفي هذا دلالة كبيرة على العشق والمحبة فالمرأة التي يتعلق قلبها بشخصٍ آخر وترى أنها ستكره على الارتباط بغيره يضطرب قلبها وتنقلب حياتها وتظل معلقة بأي أمل للنجاة وتود لو أن الذي تحبه يأتيها ويذهب بها بعيداً حتى لا تواجه هذه الحياة التي هي مهددة بها.