حطّت بنا الطائرة في مطار " هيثرو " الشهير ، وكانت قبل ذلك قد استدارت أكثر من مرة تطلب الإذن بالنزول !

غنيٌ عن الذكر بأنّ مدارج هذا المطار تقلع منها طائرة كل دقيقة ! ومما يجدر ذكره بأنّك لا ترى لندن إلا عند الاقتراب من الهبوط فيها ، والسبب يكمن في السحب والغيوم التي تلفها صيف شتاء ؛ ولذا فإنّ الأجواء العربية تُعتبر مثالية ومفضلة لدى خطوط الطيران العالمية ؛ نظراً لصفاء الجو وقلة السحب .

بدأتُ بعدما توقفت الطائرة في النزول منها ، ومن ثَمّ رأيتُ الجميع يركض مهرولاً في ممرات هيثرو الطويلة جداً ؛ وكل هذا اللهاث هو لحجز فرصة من الطابور الطويل الذي سينتظرهم .

ركضتُ مثلهم ( مع الخيل يا شقرا ) بالرغم أني من الصنف غير المستعجل في أمور كهذه ، ولا أدري حتى الآن : لماذا الناس في الطائرات يقفون قبل توقفها ، أو يصطفون قبل فتح بابها ( خُلِقَ الإنسانُ من عَجَل ) !

هذه المرة أذهلني ما قد رأيته في صالة الجوازات من عدد كبير ومهول لشتى الجنسيات ومن أماكن إقلاع مختلفة (الهند ، الشرق الأوسط ، شرق آسيا ) !

في الطابور كانت أمامي سيدة سعودية مع ابنتيها الشابتين ، وسمعتها تقول لهما : " لأول مرة طيلة عمري أرى هذا الزحام في هيثرو " !

أكره الانتظار لطبعي الملول ، فحالي حال ذلك الأعرابي الذي قيل له : ألا تتزوج ؟ فقال : " لو استطعتُ أن أُطلق نفسي لطلقتها " ! ( أشك بأنّ هذا الأعرابي هو جدي ؛ إن كان قد تزوج ) :) !!

مما زادني ضجراً أنّ الأمر لا يخلو من نقص في الديناميكية المفترضة لمثل هذا الوضع ، فماذا سيكون بوسع ستة من موظفي الجوازات أن يفعلوه تجاه آلاف قد اصطفوا أمامهم بطوابير حلزونية ، وهؤلاء الآلاف – بدورهم - قد وصلوا للتو من رحلة شاقّة !

على أية حال ؛ فإنّ الأمر قد استغرق مدةً ليست بذاك الطول بالنسبة إلى العدد المهول في الصالة ، إذ إني وصلتُ إلى الموظف في وقت أحسبه مقبولاً مع حسبتي الشخصية للوقت المفترض .

قام موظف القدوم بالختم على الجواز ، ثم أشار لي بيمناه - مع ابتسامة إنجليزية صفراء – بأنّ أسلك هذا الطريق إلى حيث تكون أمتعتي .

وبالمناسبة ؛ فالكثير من بني جلدتنا تأسرهم ابتسامات الإنجليز التي لا تفارقهم أثناء الحديث ! في الحقيقة أني محلول العقال تجاه هذه العقدة ، والسبب هو أنّ الابتسامة حينما تنبعث دون روحٍ تبعثها فهي عندي ليست بأكثر من حركة وجه ، وطبيعة مهنة ، وأخلاق مؤقتة .

مما يؤسف له بأنّ التبسم هو خلق إسلامي أصيل أرشدنا له ديننا الحنيف ولكننا قد تركناه من جملة ما تركنا !

على أية حال ؛ فقد مضيت إلى حيث أرشدني الموظف ، ونزلت إلى صالة الأمتعة أنتظر فيها وصول حقيبتي ، وبعد أن حملتها انطلقتُ فوراً إلى القطار ( هيثرو إكسبريس ) فقطعت تذكرته إلى لندن .

الحديث عن وسائل المواصلات في أوربا عموماً هو حديث شيّق ومؤلم في نفس الوقت ، ولكني سأرجئ الحديث عنه إلى ما بعد - خاصةً بعد نظام " ساهر " الذي أنتقده بشدة لعدم حصول المواطن على خيارات متعددة من وسائل النقل والمواصلات ، ولأخرى سيجيء ذكرها .

عوداً على بدء .. فأنت في بلاد الغرب لا تنتظر القطارات أو الحافلات كثيراً ؛ إذْ هي على مدار الدقيقة والساعة متوفرة حاضرة ، ولذا فإني قد مكثت مدة قصيرة بعد نفاذ أول قطار ، ليصلني الآخر بعده على الفور .

الوقت كان قبيل العصر ، والنهار هناك طويل جداً ، وفي أقل من ساعة بعد ركوبي للقطار كنتُ قد وصلت محطة بادنجتون ، لأقوم بالتنزه قليلاً في صالتها قبل أن أستأجر سيارة إلى الفندق !

خرجت بعد تريض لم يكمل الساعة في تلكم المحطة المعروفة إلى ممر تصطف به سيارات الأجرة ، لأستقلّ منها سيارة كان يقودها رجل زنجي .

الأديب الراحل غازي القصيبي كان قد تحدث في أحد كتبه عن مكانة سائق الأجرة في بريطانيا وعن مزاياه . الحقيقة بأن سائق الحافلة هناك : هو عندي أكثر مزية ولفتاً للنظر ، كما سيجيء – أيضاً - فيما بعد .

أثناء الطريق أخرجتُ الكاميرا لألتقط بعض الصور ، وبعد أن وصلنا إلى الفندق أحب سائق التاكسي – مشكوراً - أن ينزل بنفسه ليتأكد : أهو هو !!

عاد إليّ مؤكداً العنوان ، ثم طلب مني أن أسامحه ببقية المبلغ الذي أعطيته ، وبالطبع فإني قد وافقت كما يفعل دوماً العرب الكرماء !

ولجتُ الفندق ، فاستقبلتني فتاة عشرينية اسمها " باربارا " محيية ومرحبة بفتى فتيان العرب !

وفيما هي تكمل إجراءات تسجيلي افتقدتُ " الكاميرا " الخاصة بي ، ولستُ أدري إلى ساعتي هذه أين ذهبت ، ولكني توقعت أنها في سيارة الأجرة .

طلبت مني باربارا جواز السفر فأعطيتها ، وبطاقة الصراف الآلي فأهديتها ، والحمد لله أنها قد توقفت على هذه الطلبات التي اكتفت بتصويرها فقط – ومن ثم أرجعتها لي !

على أية حال ؛ فقد مضت معي هذه الموظفة إلى حيث كانت غرفتي المحجوزة أصلاً من السعودية ، وأعطتني بعض التعليمات مع ابتسامة توديعية !

سألتها أين جهة الشرق ، وكان غرضي أن أعرف القبلة لأصلي الظهر والعصر جمع تأخير . بطبيعة الحال أن هذه الموظفة قد تعودت مثل هذه الأسئلة ومن ثم عرفت مغزاها ؛ وفوراً قالت وهي تشير بيديها مضمومتين تحت دقنها : تريد الصلاة ؟ فأجبتها : نعم ، فأخبرتني فوراً عن جهة الشرق .

في طفولتنا تعلمنا من الجغرافيا أصلاً يقول : إذا عرفتَ جهةً واحدة ؛ فإنك قد عرفت باقي الجهات !

أخرجت سجادة الصلاة ، ومن ثم توضأت وصليت الظهر والعصر ، وبعدها استلقيت على السرير قليلاً ، ثم خرجت أتريض أخرى .

أكثر العرب هناك يتوجسون من العرب ، ولذا فإني قد تفاجأت حين أقبلت على أحدهم لسؤاله عن كيفية استرجاع " الكاميرا " من سائق الأجرة ... أقول بأنّه مضى في طريقه كأنه لا يسمعني !!

على أية حال ؛ فإن الجميل في ذلكم الفندق الذي قد سكنته بأنه مجاور لحديقة الهايد بارك الشهيرة ، ولذا فإني قد ذهبت إليها مستمتعاً بجمالها ، ومستوحشاً من وحدتي ، فظللتُ أثناءها أقطع الوقت أنتظر المغيب ، وهذا كله استعداداً مني لرحلة أخرى تنتظرني في الصباح ، ولذا فإني قد عدت بعد العشاء مكدود الجسد ، خالي الذهن ، فألقيت بتعبي كله على السرير ، ثم نمت ... تهيؤاً لأكسفورد الجميلة ، وسوزان اللئيمة !

يتبع ..

آيدن .

ـــــــــــــــــــــــ

الصورة لمدخل مدينة أكسفورد .