بقلم: علي طه النوباني
قبل أن أشاهد فلم " صالون هدى"، تلقيت أكثر من استفسار؛ ليس عن الفيلم؛ ولكن عن مشهد ظهور "ريم" عارية بعد أن قامت الكوافيرة هدى بتخديرها ونزع ملابسها؛ ليتم تصويرها وابتزازها من أجل أن تصبح عميلة للموساد الإسرائيلي.
ويكفي أن نذهب إلى محرك البحث جوجل ونكتب كلمتي " المشهد المحذوف.." حتى يظهر لنا بقية العبارة على النحو التالي: من فيلم صالون هدى"، فأغلبية الجماهير التي تعلن احتجاجها على المشهد، تقوم بإغلاق غرفة ما، وتبحث عنه حتى حفظ محرك البحث سلوكهم معبرين بذلك عن واحد من تناقضاتنا المزمنة بين الشكل الصوفي الذي يفيض بالزهد والتقوى، والباطن العامر بالرغبات والحاجات (والدنيا الزائلة) التي لا يمكن إنكارها ذاهبين بهذا إلى ما قاله زهير بن أبي سلمى:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
هكذا استطاع مؤلف العمل ومخرجه إغفال المشاهدين عما بثه في الفيلم من أضاليل وخداع وركاكة درامية ظاهرة؛ وتزوير للحقائق؛ بحيث يمكن لكل من يتجاوز عن مسألة ظهور جسد "ريم" أن ينتبه للسقطات الكثيرة ويساعد الآخرين على النجاة من فخ الدراما الرخيصة غير البريئة التي تخدم مآرب العدو دون أن تتعمق بشكل متناسق في رؤية إنسانية تستحق المغامرة.
بعد أن قبضت المقاومة على الكوافيرة "هدى"، تقول "هدى" لمحقق المقاومة أنها تختار النساء اللواتي على خلاف مع أزواجهن لتساعدهن على الخروج من ظروفهن الصعبة، وهي بذلك تطرح رأيا غريبا مفاده أن الموساد الإسرائيلي يقوم بتمكين النساء الفلسطينيات اللواتي يقعن تحت قمع السلطة الأبوية للمجتمع (الأب، الزوج، الأخ، القبيلة، .....) من خلال الجاسوسية، وبالمقابل يبدو المحقق ضعيفا ركيكا وعاطفيا غير قادر على الرد على ما تطرحه "هدى"، بل إنه يقر بأن " مجتمعنا يحتاج إلى نفض" أي: تغيير شامل.
وتأكيدا لفكرة التمكين المزعومة؛ وفي الوقت الذي يكون مطروحا أمام "ريم" خيار إبلاغ المقاومة بأن ما حدث لها، حدث قبل يوم من القبض على "هدى"، وأنها لم تقم بشيء يجعلها عميله، فإنها تتجاوز عن ذلك؛ وتختار أن تتصل بمندوب الموساد لتطلب المساعدة من دولة الكيان، فيقول لها عميل الموساد "موسى" أنها لم تقدم أي معلومات بَعدُ للمخابرات الإسرائيلية وأنَّ دولة الكيان هي دولة قانون ومؤسسات، وهو بذلك إن عَنى أنه يتخلى عن "ريم" التي بَعد لم تُثبِت تعاونها، فهو يؤكد أنه يقدم الحماية لغيرها ممن أثبتن تعاونهن.
وحيث أن "ريم" تمتلك دليلا قاطعا على أنها لم تنخرط في العمالة، وهو أنها تعرضت للابتزاز قبل القبض على "هدى" بيوم واحد فقط، فإن تفضيلها الاتصال بمندوب الموساد على أن تتصل بالمقاومة هو إيحاء بأن المقاومة الفلسطينية غير عقلانية ولا تميز بين ظروف كل حالة على حدة. كما أنه يقول بشكل ضمني أن دولة الاحتلال بكل ما نعرفه عنها من إجرام وعسف أَرحمُ مِن المقاومة!
وفي مشهد غريب يقوم رجال المقاومة بالقبض على الشاب العميل الذي كان يساعد "هدى" في تصوير ضحاياها، ويقومون بإحراقه حتى الموت دون أن يخضع للتحقيق خلافا لما عرفناه عن المقاومة الفلسطينية من انضباط ووضوح في الإجراءات والعقوبات، فمن الموثق أن المقاومة تقوم بالتحقيق مع المشتبه بهم لأيام عديدة، وأنَّ عقوبة الموت تكون بالرَّميِ بالرَّصاص.
إذن، لماذا الحرق؟ إنها عملية ممنهجة في الفيلم للإساءة للمقاومة الفلسطينية، وكأن ضابطا في الموساد الصهيوني كتب السيناريو، وأخرج الفيلم!
تطلب "هدى" من المحقق أن يكون إعدامُها رَميا بالرَّصاص وليس شَبْحاً، وألا يكون الرصاص على وجهها. والعادةُ أنَّ الكلامَ في الدراما لا يكون عَفوَ الخاطِر، وأنَّ سكوتَ المحقق عليه يعني إقرارَه، فمن أين أتى صانعو العمل بفكرة أنَّ المقاومة تُعدم العملاء شبحًا أو رميا بالرصاص على وجوههم أو حرقًا؟
يعترف محقق المقاومة للكوافيرة "هدى" أثناء التحقيق أنه في طفولته ألقى حجرًا على سيارةٍ لشرطة الكيان، وقام بإرشاد جنود الاحتلال إلى بيت صديقه الطفل مُدَّعِيًا أنه هو من ألقى الحجر، فقاموا بقتل صديقه أمامه برصاصة في الرأس، أي أنَّه ضحى بصديقه لينجو بنفسه، وإذا ما تجاهلنا ركاكة فكرة اعتراف المحقق للكوافيرة هدى بحد ذاتها، فلن نستطيع أن نقفز عن سخافة فكرة أن تتبع سيارة الاحتلال طفلا صغيرا إلى بيته وتطلق النار على رأسه لمجرد أنه ألقى حجرا على السيارة، وإنما أراد صانعو العمل من هذه القصة الملفقة أن يصوروا المقاوم بأنه شخص ضعيف ومهزوز لا يمتلك منظومة قيمية ولا تقاليد راسخة.
تستغل "هدى" قصة المحقق لتجري مقارنة غير عادلة بينها وهي امرأة بالغة من جهة والمحقق وهو طفل من جهة أخرى فهي تضحي بصديقاتها من أجل أن تعيش، وهي مناوَرة أخرى من صانعي العمل لتبرير الخيانة بمقارنة غير محسوبة بين طفل صغير وسيدة يفترض أنها ناضجة من خلال قصة ملفقة توضع في فم المحقق.
تطلب "هدى" من المحقق أن يحضر لها ماء لتشرب، فيذهب هو شخصيا لإحضار الماء بينما تستغل هي الفرصة بإخفاء صورة "ريم" في صدرها، وعندما يكشف المحقق أمرها، تقول إن هذه السيدة بريئة دون أن توضح سبب براءتها مع أن السبب بسيط وهو أنه تم تصوير "ريم" قبل يوم من القبض على "هدى"، ولم يتضح أنها ستتعاون أم لا.
ومع ذلك، يتم تنفيذ الحكم بالموت على "هدى" دون أن تنطق بهذه الجوهرة!
هكذا، وكما هو الحال في الكثير من الأعمال الدرامية العربية، يتلاعب صانعو العمل بالشخوص كما يريدون هم، لا كما يريد منطق الأحداث وتفاعل الشخوص، إنهم يستخفون بالمُشاهد، ويسيئون إلى الدراما، ويقدمون مساهمتهم في تدهور أوضاعنا وصناعة الإحباط واليأس.
قبل خروج "هدى" لتنفيذ الحكم بالإعدام تمد يدها لتصافح المحقق، وهي مصافحة مقحمة على الموقف لا تعني شيئا على الإطلاق، فلا هي نالت تخريجا لأزمتها المعقدة بهذا اللقاء مع المقاوم؟ ولا هي اتفقت مع المقاوم فيما ذهب إليه؟ وإنما المصافحة هنا حركة مسرحية سخيفة لا تضيف شيئا إلى العمل سوى الإرباك والتشتت.
وكما هي الحال في الكثير من الأعمال الدرامية العربية يلجأ صانعو العمل إلى الصدفة، فعندما تنفد أسطوانة الغاز في اللحظة التي تحاول فيها "ريم" الانتحار بعد أن يتخلى عنها زوجها خوفا على طفلته من الطرفين: المقاومة والكيان الصهيوني في رسالة مبطنة تساوي بين المقاومة والكيان الصهيوني! وهي رسالة يختتم بها صانعوا العمل الفيلم إذ تتصل المقاومة بِ "ريم" مؤكدين لها أنَّهم أحرقوا الصورة، وأنَّهم يعرفون أنَّها بريئة، وأنَّ زوجها وابنتها بخير، ويريدون منها مساعدتهم في الوصول إلى عميل الموساد "موسى".
ينتهي الفيلم هنا موحيا بأن المقاومة تستغل أزمة "ريم" وما وقع عليها من ابتزاز وإساءة للوصول إلى عميل الموساد "موسى"، وموحِيًا أنَّ المقاومة في ذلك لا تختلف عن مخابرات الكيان مُسَلِّطًا الضوء على أزمة "ريم" التي تمَّ عَرضُها عَلى نَحو انتقائي تلفيقي مشوش، ومتغافلا عن أزمة شعب بأكمله يرزح تحت الاحتلال، ويمارس حقَّه المشروع في المقاومة.
هكذا إذن:
ريم تفضل أن تلجأ للموساد على أن تلجأ للمقاومة!
زوج ريم يخاف على طفلته الرضيعة من المقاومة!
المقاومة تحرق المشتبه بهم حتى الموت ودون تحقيق!
المقاومة تضغط على "ريم" للتعاون معها بنفس طريقة مخابرات الكيان!
لصالح مَن يحاول هؤلاء تشويه صورة المقاومة؟ وهل أبقت عجرفة الكيان الصهيوني وهمجيته لأي مثقف عربي هامشا ولو صغيرا للحديث عن خيار آخر غير المقاومة؟
هكذا هو فيلم صالون هدى: ظلمات بعضها فوق بعض، تَمَّ تصميمها مسبقا لتسريب عقل الهزيمة إلى المتلقي في ظل انشغاله بخرق تابو الجنس المسيطر على عقله منذ المشهد الأول. إنها تقنية مبتكرة ومحسوبة لصناعة عقل الهزيمة، وتفريغ المقاومة من كل بطولاتها وإنجازاتها لصالح عدوٍّ بات يغزونا من خلال صهاينة الداخل أكثر مما يستعمل أسلحته وقوته المباشرة.