مائتان وسبعة وأربعون يومًا وأنا لا أكلّم إلا نفسي!، مائتان وسبعة وأربعون يومًا وأنا أجمع الكلام فوق الكلام فوق الكلام حتى امتلأت به وما وجدت له مصرفًا، مات في نفسي شيء، والسؤال الذي لا أجد عنه فكاكًا: كيف يرثي المرء نفسه؟، كيف يحاول المرء الإمساك بصورة يذكُرها ويُنكرها، يراها تُماثله ولا يقدر أن يكلّمها؟، يقول: "هذا أنا، ولست أنا" في الوقت نفسه.

—*—

وردني في هذا اليوم اتصالٌ مفاجئ، يخبرني بموت أخي وصديقي، ومن يومها أنكرت نفسي، انقلبت حياتي، الآن أفهم تمامًا كيف يشعر من بُتر طرف من أطرافه، الحياة لا تعود أبدًا كما كانت، والتكيّف لا يكون أبدًا بتلك السهولة، والنسيان في عداد المستحيلات!

"نعم؟، لا أسمع؟ أشرف؟ ما به؟" 

"توفّي، وأريدك أن تأتي معي لنغسّله.." 

تخشّب جسدي تمامًا، عقلي أيضًا توقّف وأصبحت أتحرّك كإنسان آلي، تفعل هذه وراء هذه، الجورب قبل الحذاء، انزل وامشِ في هذا الطريق، المواصلات من هنا، العالم كله تحوّل إلى اللون الأبيض، لا أسمع، لا أرى، لا أتكلّم، لا أفكّر، ولا أدري..

كل ما حدث بعد ذلك لا أدري عنه شيئًا سوى أني كنت أتصرف وأنا لا أعي حقًا ما يحدث، أدخل إلى مكان الغسل، لأجد والده يخبرني "صاحبك مات يا محمد!"، وأنا لا أتكلّم!، لا أرى، لا أسمع، لا أفكّر، ولا أدري! 

يبكي والده، ويبكي الحاضرون، وهذا يعظ، وهذا يسترجع، وهذا يواسي، وأنا: لا أتكلم، لا أرى، لا أسمع، لا أفكّر، ولا أدري! 

تنادي أمه في الناس: أين صاحبه؟، وتقبل عليّ تسألني: حدثّني عن أشرف!، حينها فقط.. أبكي.. بدأت أدري!، لبرهة من الزمن حدثّتها بين الدمّوع ثم عدت ثانية: لا أدري! ولا أبكي! 

غسّلوه، وكفّنوه، وانطلقنا بجنازته، دفنوه، وقفنا على قبره زمنًا، وعدنا إلي بيوتنا!

وأنا لا زلت: لا أتكلم، ولا أرى، ولا أسمع، ولا أفكّر، ولا أدري!

أنام وأقوم، أصلي واستقبل المواساة، أتواصل مع هذا ومع ذاك، أتحرّك هنا وهناك، فقط كآلة.. 

لا أحسّ بشيء، كل شيء أبيض، كل شيء صامت، كل شيء متوقّف، كل شيء غريب، كل شيء ملغز.. العالم كما أعرفه، ونفسي كما اعتدتها، في عداد المفقودين!

—*—

أمّا صداقتنا فعمرها جاوز السنتين بقليل، فوجئت بهذا أول ما أدركته!، هل فعلًا لا أعرفه إلا منذ سنتين ونزر يسير؟، هل هذا الأثر العميق والاقتراب الشديد والتآلف المتين احتاج فقط لهذا القدر من الزمن؟، أول هذه السنوات حاضرٌ في ذهني كآخرها، بدأت في المسجد، أقبل عليّ وجلس ليتعرف عليّ، وأعجبه اهتمامي بمجموعة من العلوم "الغريبة" بالنسبة للصورة التي يحملها عن من هم مثلي!، ليبدأ بعدها نمطنا المفضّل من الجلسات الذي يسير بكل عشوائية ويبدأ بمكالمة لا تتجاوز الدقيقة الواحدة: "هأعدي عليك"، تعني كلمة "هأعدي عليك" تلك جلسة لا تقل عن ست أو سبع ساعات نتجاذب فيها أطراف حديث شتّى، بين أسئلة أعدّها هو ليناقشني، وتداول وتباحث في ما قرأه كل واحد منّا مذ ترك صاحبه آخر مرّة، مشكلة من هنا، مسألة من هناك، نشرّق ونغرّب ونروح ونجيء.. 

في أي يوم، وفي أي وقت، وفي أي ظرف، قبل أي وقت وبعد أي وقت، في أي وضع، في مجلس مغلق أو على البحر، حول مائدة أو في السيارة، في الطريق إلى حاجة له أو في الطريق إلى حاجة لي، أمرّ عليه وأنا قافل من حاجة لي، ويمّر علي بعد يومه الدراسي، في سفر معًا، في أي ساعة من ليل أو نهار، تغيّرت الأماكن باستمرار، تغيّرت المواضيع، تغيّر الإدراك كثيرًا، تغيّرت حتّى الاهتمامات، وبقي الشيء الواحد الثابت: الجلسات الطويلة التي يجتمع فيها كل هذا! 

نسيت فقط أن أقول: أنا شخص صموت للغاية، نادرًا ما أتحدّث أصلًا مع أحد أيًا كان لمدة طويلة، وغالبًا ما يصيبني الإرهاق بعد فترة طويلة من الكلام الجاد، وأنا أيضًا شخص نادرًا ما أكثر الحركة، كان هو الاستثناء الوحيد لكل هذا، ففي كل وقت يستطيع أن يستخرج منّي الكلام، وفي كل وقت يستطيع أن يجد طريقة يجذبني بها لقطع خلوتي الدائمة! 

 

هل تصدقّني الآن لو قلت لك أنني منذ ذلك اليوم لا أكلّم إلّا نفسي!، كل هذه الساعات الطويلة التي كانت تثوّر كل في ما نفسي وأشارك فيها آخر أفكاري وتطوّراتي الشخصية والقرائية، اختفت وأصبحت حبيسة نفسي لا أستطيع منها فكاكًا، تخنقني أشد الخنق، يمتلئ بها جوفي فإذا أردت أن أتكلّم ازدحمت على اللسان فاضطرب، فأعود إلى السكوت مرّة أخرى مُؤثرًا أن أحادث نفسي طول الوقت. 

 

خضنا معًا رحلة عميقة، كان كل واحد فيها مرآة صاحبه، وأمين سرّه، ومساعده الوفي، كل واحد يعيش رحلته الخاصة وتحديه الخاص، لكنه يعرف أن هناك على الطريق الموازية، سائرٌ سيلبي النداء لو ناديت!، أي شيء كان هذا؟، والله لا أقدر على الوصف، كان شيئًا شديد العجب!، في مرةٍ أخبرني: "أنا ممتنٌ لصداقتنا" فابتسمت وسألته: "لم؟"، فأجابني: "لأنني لا أحتاج أن أفكر كثيرًا فيها!" رحمك الله يا أخي!، كم فاتني أن أعبّر عن هذا الامتنان كثيرًا كثيرًا! 

 

كيف أصف هذه "الصداقة" والله لا أدري!، إلّا أنها كانت شيئًا لم أحظَ به في حياتي مع أحد!، أن تجد من يعينك في كل مطلوب لك، وييسر لك كل ما يقدر علي تيسيره، ومن يشدّ من أزرك في كل أمر تستصعبه، ومن يؤمن بما تفعله، من لا يستغرب أفكارك، بل من يوافقك في أفكارك، تقول الفكرة فتجد صداها عنده، تعزم على الأمر فتجده حاضرًا معك، يفكّر في شيء فيجاولك فيه، تأتيك الخاطرة فتشاركه إياها لتسمع رأيه، تقرأ كتابًا فتخبره عنه، يقرأ كتابًا فيخبرك عنه، يسألك عمّا يجب عليه أن يقرأ في كذا وكذا، يسمع منك باهتمام وحرص شديدين حول الكتب التي تتمنى أن تحصل عليها في المستقبل، ليفاجئك فيما بعد بها كهدية، تخبره أنك تكتب في كذا وكذا فينتظر ما ستنتج، ليقرأ ويناقش، تعيش فترة صعبة فيبذل لك كل مواساة ممكنة، "هذه الدورة جيدة لنحضرها" فيوافق بلا تردد وفي اليوم نفسه، "هذه المحاضرات ممتازة ما رأيك أن نسمعها؟"، "هيا بنا"، "لدي محاضرة في المكان الفلاني"، "أنا جاهز والسيارة جاهزة، هيا بنا"، "لدي لقاء حواري وأريد مكانًا"،"مكتبي جاهز، هيا بنا"، رسالة على واتساب:"أحضرت الكتاب الفلاني وأحضرت لك نسخة معي"، "اسمع لديّ صديقي في المكان الفلاني أريد أن نزوره"، "هيا بنا"، "أريد خطة للقراءة في الموضوع الفلاني؟"،  يسألني سؤالًا سأله من قبل، فاستنكر التكرار، فيخبرني أن "يحب" أن يسألني في نفس الموضوع على فترات متباعدة لأنه "يعجبه" كيّف أطوّر من إجاباتي وفقًا لحركة قراءتي!!، حتّى تطوّر إجاباتي كان يلاحظه!...

 

هل تصدقني الآن لو قلت لك أنّي فقدت قطعة من نفسي؟، لم أفقده كصديق وحسب، بل فقدت حياتي معه.. هل تصدقني لو قلت لك أني أحاول الإمساك بصورة من نفسي، أنا قبل هذا اليوم شخص، وبعده شخص آخر تمامًا، الفرق بينهما فترة من البياض والخواء والصمت والذهول.. 

—*—

أما هو، فلا أدري كيف أقدّمه، أم كيف أحكي عنه؟!، هذا الذي أحدثك عنه كان قبل معرفتي به بعام واحد فقط في مكان آخر تمامًا، كان يعيش حياته بطريقة مختلفة تمامًا، وعلى غير ما عرفته به الآن تمامًا، كان شخصًا آخر!، خاض رحلة شاقة كان مُعتمدهُ فيها توفيق الله ولا غيره ليكون على ما رأيت!، أخبرني أنه منذ ذلك اليوم قرر أن يكون غرضه وهدفه في الحياة أن يعين أكبر عدد ممكن من الناس على أن يسلكوا طريقه - لو جلستَ معه قليلًا من الوقت كنت ستسمع منه هذا الهدف بصيغة من الصيغ، فهو دائم الحديث عنه ودائم التذكير لنفسه به - وأنه يجب أن لا يدخّر جهدًا في ذلك ما بقي، وأن هذه هي الطريقة التي يصلح بها ما سبق منه!، ومذ عرفته ما رأيت منه إلا مصداق هذا العزم، وأحسبه والله حسيبه من الصادقين، فلا يطلبه أي أحد، كائنًا من كان، في مساعدة إلا وجده، يتعرّف على الناس في كل مناسبة، في كل مكان يدخله يلتفت إليه الجميع لأنه لم يترك واحدًا منهم أول مرة دخله إلا وتعرف عليهم جميعًا، أسماؤهم، من أين هم؟، ماذا يعملون؟، ما همومهم؟، وما يتركهم إلا بوعد بالعودة أو التواصل، وهكذا، لطالما تركني واقفًا لمدد طويلة لأنه يحدث هذا في المحل، وهذا الذي رأيناه في الشارع، وذاك الذي تعرّف عليه للتوّ، وآخر التقاه في الطريق، وهكذا.. 

لا أدخل معه مكانًا إلا ويتحوّل هذا المكان فجأة إلى: أشرف يتحدّث مع الآخرين وأنا أقف منتظرًا حتى ينتهي، قد يطول هذا الأمر لثلاثين وأربعين دقيقة. 

 

كان بالغ الكرم في المساهمة بوقته وبإصغائه، والكرم سَمته في كل شيء، فهذا صديق يحتاجه في مشكلة شخصية، وهذا يعاني مما كان يعاني منه فيطلب منه العون، وهذا لديه ما شوّش عليه إيمانه فيكلّمه، هذا عنده مشاكل في العمل فيجالسه ليخفّف عنه، آخر يعاني من صعوبة في الزواج فيعينه، وهذا يكلمه في شأن ولده، وهذا في شأن أخيه، وذاك في شأن ذنب اعتاده أو عادة لا يستطيع أن يتركها، وهذا وذاك، هنا وهناك، يكلّمه صديق له في محافظة أخرى طالبًا العون في أمر ما، فيذهب إليه من الصباح، يدعوه هذا لمناسبة فلا يتردد.. 

آتيه يومًا، فألحظ تغيّرًا في مزاجه، "ماذا هناك؟"، "أشعر بإحباط"، يخبرني عن تجربته مع أحدهم وكيف أنه لم يقدر على مساعدته وأن هذا جعله يعيد التفكير فيما يجب أن يقوله للناس وما لايجب أن يقوله، في العادة يكون الأمر معكوسًا، أنا داعية الإحباط وهو داعية الأمل، أنا الأشد تشاؤمًا، وهو الأشد تفاؤلًا، هو متحمس يتحرّك في كل مكان، وأنا مهموم أُكثِر التفكير، كانت هذه المرة من المرّات النادرة التي حدث فيها العكس، أثارت هذه المرّة مع مرّات متراكمة عنده أسئلة حول تغيير العالم وحول أوضاعنا فيه، أسئلة لحسن الحظ من نوع الأسئلة التي أنهمكُ في التفكير فيها كثيرًا، فكان ما كان بيننا من الكلام، إلّا أنني لم أنجح في رفع هذه الحالة عنه، بعدها نقرر أن نتحرك إلى مكان آخر لعلّ هذا يخفف عنه، ليعود فور أن يلمس الشارع إلى نفس الشخص الذي عهدته، حركة وطاقة وحديث مع الناس وكأن شيئًا لم يكن!

الهدايا هي لغته التي يُتقن، أول يوم تعرّفت عليه فيه، كان يلبس ساعة جميلة، أردت كسر الجليد وتحريك الكلام فأثنيت على أناقتها ومدحت اختياره لها، لأفاجئ به يخلعها حالفًا بالله أن لا أردها، هذا بعد أن تعرّفنا على بعضنا بعضًا ببضع دقائق!.

 

أما كرمه مع أقرانه ومعلميه فحدّث ولا حرج، فهذا يهديه كتابًا يدرسه، وذاك يهديه كتابًا سمع رغبته فيه أثناء الحديث، وكما عرَفتَه فهو يلتقط هذه الإشارات بانتباه شديد، يتأكد من أن كل شيء يسير على ما يرام، يطمئن على الجميع ويتحدث مع الجميع، يسعى في خدمة هذا بجاهه، وهذا بوقته، وهذا بماله، وهذا بقضاء حاجاته، ويبادر دائمًا بمقترحات. يذكره زملاؤه ومعلّموه بكثرة أسئلته واستشكالاته، وهو لا يدع مساحة للسؤال إلّا سأل ولا يترك السؤال إلا وهو ممتلئٌ من المعلومة فاهمٌ لها. 

 

وأما كرمه مع الفقراء والمساكين والضعفاء والمتعففين فقد رأيت من هذا عجبًا وما يمنعني من حكايته إلّا أنه كان يحبّ أن يُبقى هذا سرًّا فأنا أحفظه عليه واسأل الله أن يتقبله مخلصًا. 

 

كان آخر عهده بالدنيا، قبل وفاته بشهرين وأيام، أوحدنا في الاعتكاف، وأسبقنا إليه، وقد خرج منه يخبرني بأنه "يحتاج للعمل على قلبه"، وبالفعل، بدأ من حينها يحافظ على ورد ثابت من الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والنوافل، في آخر أيامه يخبرني أنه "اشتد حبه، وشوقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، يقرأ عنه كثيرًا، يصلّي عليه كثيرًا، يجمع كتب السيرة وكتب الشمائل ويجعل له فيها وردًا يوميًا، يحدثني عن شوقه لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته أن يسكن فيها ما أمكنه ذلك، لآخر يوم ينزل ليعين هذا، ويتفقد حال هذا، ويتصل بهذا ليرتب معه موعد اللقاء، وبهذا ليطمئن على تقدّمه، ويرتب مجلس علم هنا، وآخر هناك، ولا يزال: يتحرّك، ويتكلّم، بنفس الحماس الذي عهدته منه، حتى جاءه اليقين، واسأل الله أن يكون من أصحاب النفوس المطمئنة الراضية المرضية.

لتكون بداية عهدي به أيام مباركات هي العشر الأواخر من رمضان، ويكون آخر عهدي به أيام مباركات هي أيام التشريق من ذي الحجة. 

—*—

حدثتك عن أنا الأول، أنا ما قبل هذا اليوم، الآن أحدثّك عن أنا ما بعد هذا اليوم.. 

لم انتظر لمائتين وسبعة وأربعين يومًا اختيارًا منّي، فقد كنت طيلة هذه الأيام، لا أحاولُ كتابةً إلا عُدت بخفيّ حنين، لا تخرج مني كلمة ولا تتحرك يدي بحرف، ولا أود الكتابة إلّا ازدحم كل شيء على طرف اللسان واجتمع كل شيء في الرأس، وأحجمت اليد عن الكتابة، لا يمكن أن تكتب عن فقد لم تدركه بعد!، لا يمكن أن تكتب عن ألم أشد من قدرتك على المعالجة!، الآن أرى، وأسمع، وأدري، وأفكّر، إلّا أنّي لا أتكلّم، ما تقرأه الآن هو محاولة للكلام، إلّا أنني في النهاية لا أجد هذا الكلام الذي فقدته، ولا أظننّي أجده بعد الآن، يخبرني أحدهم عن مكالمة قضاها مع خلٍّ له بالساعات، فأذكر ما كان، آه، والآن أيضًا - نسيت أن أقول - الآن أيضًا، أنا أبكي، كان البكاء نفسه تحديًا عصيبًا، لا شيء يشبه الحزن المتصلّب، هذا الذي لا تسيل فيه الدموع وينكسر فيه القلب، لا شيء يشبهه في الألم، أفكّر الآن كثيرًا في الفقد، وفي حياتي وأهدافي، في الطريقة التي أحب أن أكون بها عند الموت، والأهم من ذلك في الطريقة التي أريد أن أكون بها في الحياة.

ليس أشرف رحمه الله هو أول صديق قريب أفقده بالموت، لكنه أول صديق يقترب مني لهذا الحد أفقده بالموت، كنت أعيش فترة شديدة الصعوبة في الوقت الذي ظهر فيه، جاء هو ليرى مني ما لم يره غيره، أفكاري لم أشعر أبدًا بغرابتها معه، لم يكن يقبلها كما هي، لديه أيضًا أفكاره، لكنه لم يكن يشعرني أبدًا أنني من كوكب آخر، تلك الطريقة التي كان يختبر بها "تطوّر" إجاباتي كانت شيئًا لم يسبق أن حدث لي مع أي واحد من الناس، حواراتنا الطويلة في كل شيء وحول كل شيء، نقاشاتنا واختلافنا في الأفكار والطباع وكيف كان يظهر في هذه النقاشات، حالاتي الشعورية كانت تجد مكانًا آمنا لتظهر فيه، شخصيتي بحلوها ومرّها، همومي وآمالي ومخاوفي، ما فقدته كان في الحقيقة مرآة نفسي.. ولذا لا زلت لا أدري، كيف يرثي المرء نفسه؟ كيف أرثي أنا الأول؟، كيف أرثي هذا العهد بكل ما فيه؟، كيف أعيش مع فقده وألمه؟، وكيف أعيش، أنا اليوم، بهذه الندبة التي تذكرني دائمًا وأبدًا أنه، في يوم ما، لفترة قصيرة من الزمن لم انتبه لقصرها إلا اليوم وأنا أكتب ما أكتب، مرّ بحياتي رجلٌ هو نعم الرجل، وأخٌ هو نعم الأخ، وصديقٌ هو نعم الصديق، ورفيقٌ هو نعم الرفيق.. 

إلّا أن كلّي طمعٌ أن يكون الله اختاره إلى جواره الكريم، الذي هو خير من كل جوار، وأن يكون الله تعالى قد أكرمه وأنعم عليه ونوّر له في قبره مدّ بصره، وأن يكرمه يوم القيامة بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وجواره في الفردوس الأعلى. 

أما أنا فأقول: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإني لفراقك يا أشرف لمحزون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.