في صحيح مسلم (1066) يَحكي زيدُ بنُ وهبٍ الجُهَنيُّ (أنَّ الحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ، وَهو مع عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالوا: لا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، قالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بهَا بَاطِلٌ...)، ومن هذا القبيل قوله تعالى(فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) سورة الكهف 29، يَسْتَدِل بها البعض جهلاً أو خبثاً على حرية أن الإنسان مخير بين الكفر والإيمان، ويحملونها أقوالا باطلة من عندهم، يدسون السم بها في العسل، وفي الإسلام لا يُجْبر الكفار على الدخول في الإسلام، حيث قال تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فلا نكره أحد على الدخول في الإسلام حيث (أن الآية لا تعني إجبار الناس على الدخول في دين الله قهرا وقسرا ، ولكن تعني أن الإسلام سهل بيّن لا إكراه في الدخول فيه ...) (الإسلام سؤال وجواب رقم 178756)،و( دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته ، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه ، دون إكراه)( (التسهيل 135)) لكن ما هو التفسير الصحيح لآية الكهف؟
لو أن شخصاً مرض ابنه فذهب به إلى مهندس جوالات لاتَّهمَ الناس عقله، فالأطباء هم الأعلم والأعرف بالأسقام وأدويتها، مثل ذلك إذا أردنا أن نعرف تفسير آية من كتاب الله، فالمفسرون هم أهل الشأن في ذلك، والله تعالى أرشدنا إلى ذلك بقوله: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ولذا لم يقل أحد من المفسرين أن الآية للتخيير والإباحة، وجاءت عباراتهم على أنها للتهديد وعليه يدل سياقها، حيث قال تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا).
كما أن تفسيرها بالتخيير، يلزم منه تناقض القرآن، واتهام الله تعالى بالظلم (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا)، إذْ كيف ينهى الله تعالى عن الكفر ويتوعد عليه بالعذاب، وفي نفس الوقت يخير عباده بين الكفر والإيمان، ويبيح لهم الكفر، فهل سيعذبهم على شيء أباحه لهم وهو سبحانه يقول:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)،(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)،( الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ)، والآيات في هذا كثيرة، وقد ذم الله من نسب إليه الأمر بالفحشاء فضلاً عن التخيير في الكفر فقال:(قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) والآن نرى ماذا يقول أهل العلم بالتفسير عن هذه الآية:
- تفسير ابن كثير:(هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ)
- يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أَيْ: أَرْصَدْنَا {لِلظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أَيْ: سُورُهَا.
- تفسير الطبري:( وَلَيْسَ هَذَا بِتَرْخِيصٍ وَتَخْيِيرٍ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ)
- وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِنَا: أَيُّهَا النَّاسُ! مِنْ رَبِّكُمُ الْحَقُّ فَإِلَيْهِ التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ، وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَالُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُؤْمِنُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَكْفُرُ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذلك شيء، فَاللَّهُ يُؤْتِي الْحَقَّ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَيَحْرِمُهُ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا غَنِيًّا، وَلَسْتُ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لِهَوَاكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَآمِنُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَاكْفُرُوا. وَلَيْسَ هَذَا بِتَرْخِيصٍ وَتَخْيِيرٍ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ. أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَقَدْ أَعَدَّ لَكُمُ النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.
- تفسير البغوي:( هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ).
- مَعْنَاهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِنَا أَيُّهَا النَّاسُ الحق من ربكم وَإِلَيْهِ التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَالُ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ .... (وذكر قولا آخر بالطبع ليس التخيير والإباحة).
- تفسير الجلالين(تَهْدِيد لَهُمْ):
- {وَقُلْ} لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هَذَا الْقُرْآن {الْحَقّ مِنْ رَبّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} تَهْدِيد لَهُمْ {إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أَيْ الْكَافِرِينَ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقهَا}.
- تفسير القرطبي: وَمَعْنَى الْآيَةِ:( وَلَيْسَ هَذَا بِتَرْخِيصٍ وَتَخْيِيرٍ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ)
- قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِنَا: أَيُّهَا النَّاسُ! مِنْ رَبِّكُمُ الْحَقُّ فَإِلَيْهِ التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ، وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَالُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُؤْمِنُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَكْفُرُ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذلك شيء، فَاللَّهُ يُؤْتِي الْحَقَّ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَيَحْرِمُهُ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا غَنِيًّا، وَلَسْتُ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لِهَوَاكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَآمِنُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَاكْفُرُوا. وَلَيْسَ هَذَا بِتَرْخِيصٍ وَتَخْيِيرٍ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ. أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَقَدْ أَعَدَّ لَكُمُ النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.
- فتح القدير للشوكاني:( وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ... ثُمَّ أَكَّدَ الْوَعِيدَ وَشَدَّدَهُ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ...)
- ... وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَبَعْدَ أَنْ تَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقَكَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَيُكَذِّبَكَ فَلْيَكْفُرْ. ثُمَّ أَكَّدَ الْوَعِيدَ وَشَدَّدَهُ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أَيْ: أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا لِلظَّالِمِينَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَالْجَحْدَ لَهُ وَالْإِنْكَارَ لِأَنْبِيَائِهِ نَارًا عَظِيمَةً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها...
- التفسير الميسر: ... وفي هذا وعيد وتهديد شديد لمن أعرض عن الحق، فلم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعمل بمقتضاها.
- تفسير ابن عثيمين :( للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد)
- (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) والأمر في قوله: (فَلْيَكْفُرْ)) للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد كما يهدد الإنسان غيره فيقول: "إن كنت صادقاً فافعل كذا"، ويدل عليه قوله تعالى بعده: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)، يعني من كفر فله النار قد أعدت.
- تفسير السعدي:( وإنما ذلك تهديد ووعيد)
- وليس في قوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الإذن في كلا الأمرين، وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام، كما ليس فيها ترك قتال الكافرين.
إذن فالآية كما وضحها المحققون من أهل العلم والتفسير للتهديد والوعيد وليس للإباحة والتخيير، وسبحان القائل: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
وكثير من يفسر آية الكهف بالتفسير الباطل، يريد بذلك إسقاط ( عقوبة الرِّدةَّ ... ومع أنَّها ثابتة بالكتاب والسُّنة وإجماع الأمَّة، إلَّا أنَّه وُجِد من ينكرها, ويحاول إلغاءَها؛ إمَّا بالطعن في مصدرها كحُكم شرعي، بالزعم أنَّ القرآن يخالفها, وإمَّا بالاستدلال بآيات من القرآن تدعو إلى حريَّة الاعتقاد المنافية لها, أو بالطعن في الأحاديث التي تنصُّ بوضوح على ثبوتها، أو تأويلها، أو غير ذلك من السُّبل والطُّرق التي مؤدَّاها إنكارُ هذه الشريعة الثابتة!*) فالآية دليل ضد هؤلاء وليست لهم كما ذكر المفسرون والحمد لله على ما بيَّن وهدى.
* قراءة وتعريف: عقوبة المُرتدِّ في الشَّريعة الإسلاميَّة، وجواب معارضات المنكِرين، موقع الدرر السنية على الرابط:https://dorar.net/article/1752