معظم الناس يُفكر ثم يُقرر ، فيما أني قد تمر عليّ حالات أقرر فيها ثم أُفكر !
في صيف عام ( ... ) قررتُ أن أقوي لغتي الإنجليزية من خلال السفر إلى بريطانيا والدراسة في أحد معاهدها .
قرار جميل أظنه .. إلاّ أنّ لهذا القرار خطوات بعيدة في دروب الجرأة ، والإقدام ، والخجل !
صعوبة هذا القرار تبدأ من أن أجد رفقة تصحبني في هذا السفر الجريء ، وتثنيته في عرض هذا الموضوع أمام والدي - ومن بعدها نيل موافقته - فيما كان تثليثُه – بعد ذلك - مع وحيدٍ يخترق مجهولاً !
بدأتُ أكلَ العنقود حبةً حبة ، فابتدرت صِحاب العمر ، ورفاق السوء ، أعرض عليهم الفكرة الجميلة ، لأجد منهم استطعامها دون ابتلاعها !
مثلتُ أمام والدي – لما يئست منهم - وأبديت له رغبتي المُلحة ؛ فصدرت الموافقة بعد استجواب طويل لأهداف هذه الرحلة ومراحلها ونتائجها .
جاءت بعدها مرحلة التنفيذ ، وكانت صعوبتها تكمن في شاب لأول مرة يسافر وحده خارج هذا الوطن ، ودون معيةٍ لغير الله تصحبه – وكفى بها من معية - .
دلّني أحد أقاربي على رجل مهنته كانت استخراج القبولات من المعاهد البريطانية والتنسيق معها دون أجرٍ يصله على ذلك ؛ إذْ هو يتقاضى أجره من تلكم المعاهد مباشرة ( سمسرة ) .
اتصلت به – وكان نعم الرجل والله – فأبديت له رغبتي الدراسة الصيفية في بريطانيا ، وأوضحت له رغبتي لأن يكون موقع المدينة التي سأدرس بها في جنوب بريطانيا ، وعلى مقربة من لندن ، وأيضاً ألا تكون صغيرة أو مملة ؛ إذْ إني أُحب الحركة والصخب وتلون الحياة .
بعد عدة أيام أخبرني أنه قد تحصّل لي على قبول في مدينة " برايتون " الواقعة جنوب بريطانيا .
لعلي أعرف عن لندن ولكني أجهل غيرها ؛ فطفقتُ لذلك أبحثُ عن قصّة برايتون ومزاياها .
برايتون هي أجمل مدن بريطانيا في الجنوب ، وتمتاز بحدائق غلبا ، وشواطئ ساحرة ، وأسعار باهظة !
هذا كله جميل أو مستساغ ؛ ولكن الآخر المزعج في " برايتون " هو أنّها مدينة المثليين الشواذ – عافانا الله وإياكم - ، ولذا فقد انكفأت نفسي عنها واشمأز خاطري منها ، فألححتُ على " الوسيط " استبدالها بأخرى .
كان ذاك الوسيط ( السمسار ) شخصاً رائعاً بحق ؛ لأسباب سأذكرها لكم فيما بعد ، ولذا فإنه قد تجاوز أمرَ رفضي للمعهد الذي كان يتعامل معه ومن ثم قد تقبلني عن طريقه ... أقول : تقبل ذلك بروح جد رياضية ، وتعامل سَمْح .
الخلاصة .. أنّ الرجل قد استشارني فيما بعد بمدينة أخرى اسمها " أكسفورد " ، تقع في شمال لندن ، وتبعد عنها مدة أربعين دقيقة ، ويدرس فيها ابنُه .
وافقت فوراً ؛ لعلمي المُسبق بمكانة هذه المدينة العلمية والأكاديمية ، كما أن من رغبتي أن أُقْسم للناس صادقاً – إذا رجعت فيما بعد - بأني أحد خريجي أكسفورد العريقة :) ( المعهد وليس الجامعة ؛ وهذه تقية أدبية تنفع ولا تضر ) .
بعد يومين من رفضي مدينة برايتون كان الوسيط قد أرسل لي – بالفعل - ورقة الموافقة من المعهد الجديد في أكسفورد ، ودفع لي من حسابه الشخصي المصاريف الأولى لتكلفة المعهد والعائلة التي سأسكن عندها ، وأيضاً فوق ذلك قد دفع عني إيجار المبيت لليلة واحدة في أحد فنادق لندن المجاورة لحديقة الهايد بارك الشهيرة - على أن أضع في حسابه هذه المبالغ فيما بعد - ( هل رأيتم سمساراً يفعلُ مثل هذا ؟ ) .
بدوري بدأتُ مرحلة استخراج التأشيرة الدراسية والتي كنتُ قد أوكلتها إلى أحد المكاتب السياحية فاستخلصتها لي ، ومن ثم حجزتُ تذكرة طيران الرحلة ؛ لأسافر عليها وحيداً غريباً ، ولأقطعُ رحلةَ عمر لا أعرف غيبها ، ولكني بالتأكيد كنت أعرف محطتها الرائعة ؛ والتي هي دون ريب: الجميلة الرزينة " أكسفورد " .
وفي أكسفورد كانت لي أيام !!
يـتـبـع فيما بعد ..