مع نهاية مساء الأمس، و في لحظة بين غروب شمس النّهار و انبثاق سادة الظّلام لعمل اللّيل – و ما أشقّ عمل اللّيل – حملتُ أمتعتي و تركت لخُطاي حُرّ اختيار المساق، فشقّت بي على مهلٍ ممرّات المشفى.. و إنّ لي حالة ألفتها أكتسيها في ختام كلّ يوم : المشيُ مطأطئة الرّأس، خالية البال، صارفة النّظر عن كلّ ما يحيط، لأنّ الاعياء يكون عادة قد بلغ بي المبلغ العظيم، فأحاول قدر استطاعتي أن أنصرف عن الخلق و ألّا أقف على أحد لتجاذب ثرثرات لا أطراف لها.
إضاءة ممرّ هذا القسم مزعجة، لا تكاد بها تفرّق بين نهار و ليل، أهو ليل بضوء نهار يسطع و ينطفئ من ‘‘أنبوب نيون‘‘ يضرب بأزيز غير منقطع على أعصاب حارس القسم الذي حَوَّق السّهر عينيه و أفرغت السّجائر التي يئدها في رئتيه، شفتيه من حمرة الدّم حتّى استحالت سوداء كالفحم.. أم نهار ما حسمت شمسه أمرها بعد هل تغرُب أم مازال في النّور بقيّة؟ فهي ترسل أشعّة ساطعة، جاهرة ثمّ تخفيها..يُشاعُ أنّ في الأمر حكمة: هذه الاضاءة ذات فائدة جليلة إذ تساعد على خداع عقل عامل اللّيل لتوهمه بالنّهار فلا يصرَعَه سلطان النّوم.. تلك إضاءة المصابيح العاديّة أمّا مصابيحنا فهي تهيّج النّظر لا إلى ظلمة و لا إلى نور، و تثير السّمع فيكاد من لا ينتبه لشيء سواها، كصاحبنا حارس القسم، أن يفقد عقله... يذكّرني طنين أزيزها بالعذاب النّفسيّ الذي يُمَارَسُ على المساجين المعارضين للنّظام – أيّ نظام؟ ..كلّ نظام – تلك الحنفيّة التي يتنزّل ماؤها قطرات بإيقاع رتيب، دوريّ مثير للسّخط، مدرّ للّعنات
أقف – ككلّ امرأة مُتمتّعة عن جدارة بمُستَحَقَّات وجودها كامرأة – أمام مرآة الممرّ، أسوّي من حقيبتي، أرتّب أقمشتي، و أذكّرني : ‘‘ مهما يكُن من أمر، اسعَدي ..فأنتِ عنصرٌ مقلق. تلك النّظرات التي ترميك بسهام حقدها الدّفين بين الحين و الحين لا يهمّها شخصك فهي لا تعرفك، هذا السّمت الذي – بدقيق لطف ربّانيّ أحاطكِ- اخترته لنفسك، يهدّ أبنية أقاموا عليها حيواتهم، صنعوها لأنفسهم من وهن قناعات و سَقطِ أفكار يسمّونها باطلا وبهتانا : حضارة و رقيّا..أنت كنفحة نسيم نكثت غزل أرملة العنكبوت، [و إنّ أوهَن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون]، أنت كشوكة انغرست في اصبع أحدهم، لم تقتله لكنّها حرمته هناء النّوم.. أنت عنصر مقلق‘‘.
نفضتُ عنّي ما تيسّر من شعث اليوم ثمّ عدت أستكمل طريقي مشتاقة لمعانقة هواء نقيّ خارج صروح هذا المكان..رفعت رأسي، على حين غفلة وعي، فلاقت عيناي عيني امرأة أربعينيّة، هممتُ بصرف ناظري عنها وفاء لقاعدة : لا تفاعل انسانيّ في نهاية اليوم..لكنّ شيئا منها لمس مضغة في القلب خلّصه من فظاظته و صبّ عليه الأُنس صبًّا..ارتمى القلب ليعانق سماحة ملامحها و بادرتها بتحيّة السّلام : السّلام عليكم..شحيحة هكذا.. احْتَضَنَتْهَا باشراقة ابتسامة و كأجمل و ألطف ما يكون عليه الكرم أجابت : و عليكم السّلام و رحمة الله و بركاته ابنتي..حفظك الله و سترك..
حبَىَ الله بعض خلقه بالقَبولِ في الدّنيا، و أحسب صاحبتي هذه ممّن رُزقوا هذي العَطيَّة، فما لانت عريكتي لأحد بذاك اليسر و ما انشرح قلبي لكائن كما انشرح لها في جزء من اللّحظة أنارت فيه سُويْداءَ النّفس..أحسبها و الله حسيبها نفسا طاهرة أردت أن يذكُرَها الكَلَم فيّذكّرنيها متى آيستُ من حسن في الخلق، و إن كنت على قناعة لا يقطعها شكّ أنّ اللّفظ يخون جمال معنى لم أدنُ قيد أنملة من تقييده.