بقلم: علي طه النوباني
قال لي أحد الأصدقاء: أنا محايد، لا أتعاطف مع روسيا، ولا أتعاطف مع أوكرانيا. فما الغريب في ذلك؟
رأيت أن الأمر يحتاج إلى جدل طويل فالتزمت الصمت، ربما لأني لم أكن أمتلك الطاقة الكافية لهذا الجدل في تلك اللحظة، فبدا الأمر وكأني فقدت الحجة، أو كأني مُنحاز عاطفيا دون مسوغ عقلي مقبول.
في البداية أؤكد على تعاطفي مع الشعب الأوكراني الذي وقع ضحية نخبة سياسية تواطأت مع مخططات الغرب التي تهدف للاستفراد بحكم العالم، والمحافظة على التخلف والتبعية في كل البلاد التي تقع خارج نطاقه؛ للاستمرار في نهب خيرات الشعوب ونهب مقدراتها وإخضاعها لمصالح الإمبريالية التوسعية التي لا حدود لجشعها.
منذ أن خرجت الدولة العثمانية من منطقتنا، بذلت بريطانيا العظمى جهودا جبارة لمنع منطقتنا العربية من دخول التاريخ بعد غياب دام ما يقارب أربعة قرون، ثم قامت بتسليم دورها للولايات المتحدة التي ما زالت تتفنن في الحفاظ على تخلفنا وفسادنا وفوضانا غير الخلاقة، وليس أدل على ذلك من الدعم غير المحدود للكيان الصهيوني المزروع في قلب بلادنا العربية بكل ما يمتلكه من عنصرية ووحشية وقدرة على تعطيل أي بادرة أمل لشعوبنا العربية في التنمية والنهوض والتحرر. وهكذا، فإننا نتحدث عما يزيد عن مئة سنة أخرى من عمر شعوبنا هدرتها الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية فيما يشبه رحلة سيزيف إلى قمة الجبل، فكلما خطونا خطوة للأمام؛ أعادونا عشرة للوراء.
ها هما الولايات المتحدة وبريطانيا تقودان الناتو الذي يسيد ويميد في العالم ضاربا هذا ومدمرا ذاك، وساعيا إلى الاستفراد الكامل بحكم العالم بتحطيم أي قوة تنافسه وخنقها بكل الطرق أخلاقية كانت أو غير أخلاقية.
يقابل قوة الناتو قوى أخرى تحاول أن تخلق توازنا في هذا العالم القلق وعلى رأسها روسيا والصين، وهما على أي حال لا يمتلكان التاريخ الاستعماري الإجرامي للغرب، ونحن بالمقابل نحتاج إلى من يعيد التوازن إلى عالمنا بعد أن استفردت به قوى متوحشة مخادعة ومجرمة ومنحازة ولاأخلاقية.
إذا كنت لا تقدر رومنسية الاتحاد السوفييتي عندما انحاز للمظلومين والفقراء في هذا العالم، وإذا كنت لا تقدر عمال الاتحاد السوفييتي الذين كانوا يكدحون ليوفروا السلاح والغذاء للثوار في أطراف عالمنا، وإذا كنت لا تعترف بأن الاتحاد السوفييتي هو الذي ضغط دوليا لتثبيت حقوق العمال في كل العالم حتى صارت حقا مكتسبا للجميع؛ فليس أقل من أن تنحاز للقوى الناشئة ليس بالضرورة محبة لها؛ وإنما من أجل عالم متوازن لا يستفرد بحكمه طاغية مخادع أفاق.
شخص آخر كتب على صفحته على فيسبوك عن ازدواجية المعايير لافتا النظر إلى مقارنة خاطئة بين ما حدث في سوريا وما حدث في العراق، وقافزا عن حقيقة أن الولايات المتحدة قد أسقطت الدولة في العراق، في حين أن النظام الشرعي في سوريا استعان بحليفه في مواجهة المرتزقة الذين يعرف الجميع مصادر تمويلهم، وكيف ينقلهم أسيادهم مثل الدُّمى من جبهة لجبهة وكأنهم روبوتات مبرمجة لصالح الولايات المتحدة والغرب؛ يخوضون المعركة نفسها في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، وها هم ينتقلون الآن إلى أوكرانيا، ولست أعرف تحت أي مبرر لحفظ ماء الوجه ينتقلون للحرب في أوكرانيا!
ناشط آخر تخصص في هذه الفترة بانتقاد اهتمام الناس بالانحياز لطرف دون آخر في الحرب الروسية الأوكرانية موحياً بأنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وكأنها تحدث في كوكب آخر يبعد عنا مئات السنوات الضوئية.
الحَيادُ السلبيُّ أسوأ بكثير من الانحياز للظالم، لأنَّ الأَخِير عَلى الأغلب مُضَلَّل أو انتهازي مكشوف، أما أنت فواحد ممن يقومون بفعل التضليل من موقعك كمثقف.
إذا كنتَ أنت على المستوى الشخصي بخير، ترتدي ملابس أنيقة، وتُحَصِّلُ دخلا جيدا، وتؤمِّن مستقبل أولادك، فالأمة - كما ترى - ليست بخير، واعلم أنك من القلة القليلة التي خدمتها الفوضى بمحض الصدفة، وأنك بحيادك تؤدي ثمن ما أنت فيه لمن صنعوا الفوضى عن وعي أو عن غير وعي. فإذا كنت تركن إلى حالك هذا؛ فتذكر، ليس بالضرورة أن تخدم الفوضى أولادك - كما خدمتك - لأنها ببساطة (فوضى): فكِّر بالأجيال القادمة، وحقها بعالم أكثر توازنا وعدلا.
الأرض بيتنا جميعا، وكل ما يحدث فيها يعنينا، والحياد السلبي هو انتهازية من ينتظر المنتصر ليكذب عليه ويقول: كنت معك!