Image title


قبل أن تُباشر القراءة تذكر، أنا لا أزكي نفسي ها هنا، ولكن كل ما في الموضوع أني أُعجبت برأي، ورأيت فيه واقع الانجراف الذي نعيشه.. فما هذا إلا رأي، فهو ليس بالحقيقة المطلقة، وحتماً ليس بالكذبة، أعتذر إن بدا الموضوع طويلاً، ولكن السياق لم يحتمل أي تقصير - دين


(١)

في أحد برامجه المميزة عن التجديد الديني أثار الدكتور \ عمرو خالد ( @amrkhaled ) موضوع في صميم المشكلة العربية الإسلامية وفي أعمق مشاكلها التي لا يرى الكثيرون أنها مشكلة .. ألا وهي : " الأخلاق " .. نعم، عنوان "مُستهلك" حين يتمثل أمامك لا يتمثل إلا في الكلام "الروتيني" الذي مضغناه حتى مللناه : "الصدق الأمانة الإحترام ... إلخ" ، ولست هنا أقلل من قيمة الصدق والأمانة والإحترام، بل هي أخلاق مهمة، ولكننا فقدنا مفهوماً أعمق وأقوى، فقدنا جوهر الأخلاق وجوانب كثيرة منها، فقدنا الإنسانية والرحمة والتيسير واللين والتسامح والتفهم ومنح الفرص والتعايش والمبادرة والهمة وقائمة لا تنتهي من الأخلاق التي هي الإسلام بكل بساطة، لقد فقدنا الأخلاق وبدأنا نفقد معها الدين، وما الدين إلا الأخلاق؟ وكيف لا ومحمد لم يُبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق، وكيف لا وأن الثناء حين أتي له من سابع سماء أتاه في أخلاقه، "وإنك لعلى خُلقٍ عظيم" !!


Image title


(٢)

ذكر الدكتور عمرو خالد ملحوظة مثيرة، وهي أنه في السنوات الأخيرة ارتفع خط التدين بشكل ضخم، بينما انحدر خط الأخلاق لأسفل السافلين، وقد يبدو الوضع متناقضاً، فكيف يزداد عدد المتدينون والمثقفون وتنحط الأخلاق؟ ولكن أليس هذا الواقع؟ فالواقع أن مواقع التواصل الاجتماعي اليوم فتحت لنا "النافذة القبيحة" بكل تجلياتها، فأصبحنا نرى الكثير من المتدينون والمثقفون وطلبة العلم اليوم وممن نحسبهم من علماء الدين وأصحاب الثقافة تطاولت "ألسنتهم" على بعضهم البعض بطريقة مخجلة وأصبح إختلافهم خالٍ من أي خُلق قرآني أو خلق نبوي مليئٌ تماماً بالإسقاطات والإتهامات والتلميحات، فأصبحت رؤيتنا لـ شيخ "فاضل" يقدح في شيخ آخر أمر عادي، بل أصبح يلقى قبولاً بيننا، وأصبح من "الروتيني" أن نرى بعض طلبة العلم والمثقفون وصفحاتهم ممتلئة بالهمز واللمز والدخول فالنوايا، حتى أن الأمر قد يمتد إلى التكفير على مسمع ومرأى من الجميع، بل أن الوضع تخطى التلميح للتصريح وتهاوى صرح الأخلاق العظيم الذي كان من المفترض أن يكونوا هم أشد تمسكاً به من غيرهم، فما عُدنا نرى " فجادلهم بالتي هي أحسن "، وما عدنا نرى من يدعو " إلى سبيل ربه " بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم نعد نرى إلا تقسيمٌ يُقسم العباد، يُفرق ولا يجمع، فلا موعظة حسنة نسمع، ولا جدالٌ إلا بالتي هي أسوأ إلا من رحم ربي .. فإذا كانت هذه أخلاق المثقفين وطلبة العلم فكيف ستكون أخلاق الشارع؟


(٣)

الكارثة العُظمى التي يندى له الجبين هي أننا كأسر ومجتمعات في بيوتنا ومؤسساتنا التعليمية لم نعد نربي حتى على الأخلاق إلا من رحم ربي، نغضب حين نشاهد أبنائنا متخلفين في الفيزياء والكيمياء والرياضيات ولا ننبس ببنت شفة إن شاهدنا تدنيهم في الأخلاقيات، لا نغضب حين نراهم يفشلون في مسارهم الأخلاقي بقدر غضبنا على مسارهم العلمي إن غضبنا له أصلاً .. الأخلاق، أصبحنا نرددها ولا نفهم معناها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فنحن نملي على نفسنا وعلى من يهمنا أمرهم : "كن محترم وصادق وأمين ومطيع و و و و "، ولكننا لا نعيها حقاً، لا نقدس قيمتها، لا نربي  عليها عملياً، بل نظرياً، أصبح الحديث عنها روتين يأتي ويذهب، أصبحت كالعادات اليومية، كنومك، وأكلك، ،وشربك، ولم نعد نربيهم على التعايش والرحمة وتقبل الآخرين وإحترام الإختلاف وعدم الإنجراف خلف كل مغري والصبر والتضحية وقيمة الإعتراف بالخطأ، وإن ربينا فكما أسلفت، نربي نظرياً فقط ولا نطبق .. والواقع بدأ يعري شيئ من هذا الزوال للأخلاق حين أصبح الشارع شيئ فشيئ يستمد أخلاقه من "سناب شات" و "إنستغرام" ومن مشاهيره " ونقلدهم ونتخذهم القدوات المشرعين المُعلمِين .. إلا من رحم ربي" .. حين نرى العالم من منظور الآخرين، وحين نسمح بتجاوز الأخلاق والحدود العامة لأننا لا نرى في تجاوزها خطئاً تحت ستار التطور والتمدن وعدم التخلف، فستخرج لنا أجيال فالمستقبل لا تعرف معنى  الأخلاق وتراها من إرث الجيل القديم المتخلف، موجودة شكلاً غائبة مضموناً، ذلك أننا لم نعد نقدس قيمة الأخلاق ولم تعد إلا الروتين وأصبح الشارع والناس يستمدون أخلاقهم من غير أماكنها، ولم يعد لهم ضمير إنساني حي، بل هم كالآلات يتلقون وينفذون ولكن من الأماكن الخطأ، لا يعون حجم المشكلة لأنهم في نظرهم لا زالوا متمسكين بالأخلاق ولا يرون أن هناك مشكلة،   فهم لا زالوا يرددون نفس التعلميات، كن صادق وأمين ومطيع ومحترم، يحملون في جيوبهم القرآن ولديهم مغرد آلي في تويتر يغرد قرآناً وحكماً أخلاقية دينية آناء الليل وأطراف النهار، ولكنهم لم يعرفوا بعد أنه "ليس من المهم أن يكون في جيبك القرآن، المهم أن تكون في أخلاقك آية"!!


- اجلس مع نفسك وفكر ولست أزكي نفسي فأنا بشر مثلكم، قد أقع في مثل هذه الأخطاء، كم حساباً في اليوم ترى فيه من التناقضات الأخلاقية في مواقع التواصل؟ كم شاب في إنستغرام اليوم يرقص ويغني؟ كم فتاة تعرض صورها؟ كم شخص يسخر من معاناة الآخرين؟ كم شخص لا يهتم لها أصلاً؟ كم شخص وكم شخص وكم شخص نضعهم كقدوات وهم لا يقدمون لنا سوى الإنحدار الأخلاقي؟


(٤)


Image title

Image title

يضيف أيضاً الدكتور في برنامجه أحد الحقائق التي يعزي إليها سبب التدهور الخُلقي الذي نتجرعه  وهي أن "الأخلاقيات" تصدرت أسفل القائمة الدينية .. نرى كل عام وكل سنة مئات البرامج التي تتحدث عن الفقه والأحكام الشرعية ولم نرى برنامج يتحدث عن الأخلاق رغم أن الأخلاق هي الدين جله، ففي كتاب المستصفى للإمام الغزالي ذكر الإمام أن عدد آيات القرآن ٦٢٣٦ آية، الأحكام الفقهية فيها ٣٠٠ آية، أي ما يقارب ٧٪، أما البقية فهي آيات عن أخلاق مرتبطة بالعقيدة (٩٣٪) !! تخيل!!! ٩٣٪ من آيات القرآن تتحدث عن الأخلاق، بينما الحديث في عصرنا الحالي عن الدين لا يخرج من إطار الفقه؟ لم نعد بحاجة في الوقت الراهن لعلماء دين يحدثوننا عن الوضوء والطهارة والزكاة كأحكام فقهية فقط، (ولا تفهموني بشكل خاطئ، فأنا لا أقلل أبداً من قيمة هذه الأشياء أو قيمة الأحكام الفقهية)، ولكننا بحاجة لعلماء ومجتمع يجدد قيمة الأخلاق ويعيد إحيائها ويخصص لها أكثر من الأحكام الشرعية والفقه، بل المثير للدهشة أكثر أن كل حكم شرعي خلفه قيمة أخلاقية عظيمة، ولكننا ركزنا على الحكم ونسينا الخُلق، فما الزكاة إذا لم تجعلك تشعر بغيرك في هذا العالم ولم تكن بدافع التعاطف الإنساني؟ ما الوضوء والطهارة إن لم تعلمك أن الحفاظ على النفس وصونها من أساسيات الدين؟! لقد انشغلنا كثيراً بجانب الفقه والأحكام والروحانيات، ونسينا الأخلاق، فنتجت لدينا أجيال مشوهة من المسوخ الأخلاقية، بعضهم انحرف أكثر مما تسمح به الحدود، حتى أصبحنا نراهم اليوم في "داعش" بلا أي خُلق إنساني يجتثون الرقاب، منزوعين الرحمة والتعاطف والتفكير العقلاني والتعايش، لعلنا لم نقصد ولم نتعمد، ولكننا بطريقة أو بأخرى نتحمل المسؤولية ..


Image title
اليابان، قديماً والآن.


(٥)

أما لمن يرون بأن الأخلاق اليوم أصبحت هي العملة المستهلكة والتي لن تنهض بالأمم نهضة إقتصادية حضارية فيالهم من مخطئون يتبعون الأمثلة الخاطئة لا يفرقون بين "الضاد" و"الظاد"، وبين الشر والخير .. والرد على هذا الإدعاء سيكون جوابه بسيط في كلمة واحدة : "اليابان" .. هل تعرف كيف أصبحت اليابان هذا العملاق الذي عليه اليوم تغزو كل منازلنا وتطور حياتنا بأجهزتها وتكنلوجياتها المتطورة رغم أنها دولة لا تملك موارد طبيعية ولا بيئة جغرافية مساعدة؟ ببساطة لا يوجد علم يجعل من الأمم ناجحة، ولكن يوجد عامل يفصل بين كل شيئ وهو الأخلاق .. لماذا تجد الياباني يقدس العمل، دؤوب فيه، يحترم الوقت، منضبط، إنها ببساطة الأخلاق، أخلاق الإلتزام بالعمل والإجتهاد، أنها جزء من قائمة طويلة، تتضمن العدل الإجتماعي، الإبداع، الإتقان، العمل الجماعي، التعاون، التضحية .. وهذا أمر ليس وليد الصدفة، بل هو منتوج التربية فالمنزل والمدرسة والمجتمع، إنها ثقافة مجتمع جعلت الفرد الياباني يحس بالذنب ويتحسس مواطن التقصير، وقد لا تصدق أن اليابان لديها مادة دراسية بعنوان : السلوك والأخلاقيات أدخلتها بتناغم ضمن كل المواد والنشاطات، بجانب ساعة كل أسبوع تقدم فالأخلاق على مدار العام لكل المراحل الدراسية (من مقال د. حسن الباتع عبدالعاطي : التجربة اليابانية، نموذج الترقي بعد التردي ) .. المحزن إن هذه الأخلاق كلها موجودة في ديننا، "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" (إعلاء قيمة العمل)، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (الدقة والأمانة والنزاهة والإخلاص) ، "وأيم الله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (العدالة الإجتماعية والمساواة) .. كلها كلمات من عمق ديننا، ولكننا طفقنا نتناول الدين في جانب واحد مؤخراً، والدين أكبر من جانب واحد ..


يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وأخلاقنا اليوم ضلت عن الهدف الذي وضعه الرسول وباتت بحاجة لأن "تُرمم" و "تتُمم" .. نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، وما هو الإسلام إلا الأخلاق، فإن لم تكن تعلمت من الإسلام الأخلاق، فأي درسٍ   تعلمت؟! وإن لم تكن تحمل أخلاق الإسلام، فماذا تحمل؟

 


دين