بسم الله الرحمن الرحيم
صديقي الذي عاد الى رُشـدِهـم ؟!
دخل علي ذاتَ مساءٍ بارد ، قـدماهُ كانـتـا تـعـصـرانِ ماءاً ، و كذلك كان رأسُه ، الا أن رأسَهُ نجا من الوحلِ العالقِ بحذائِه ، و المـنـتـشـرِ على ملابِـسـِه الكالِحة .
جلس بجانبي كطيرٍ مُـشَـرَّدٍ يبحثُ عن مأوى ، كانـت عيناه زائِـغـتـان ، و وجهُهُ كان مُصفراً .
قربتُ اليه المدفـأة ، لم يُعِرها اهتماماً ، ثم بدأ يزحفُ نحوهـا ، ثم أمـسَـكها و قرَّبَها من قدميه و أوشك أن يحـضـنَهـا ... ثم اسـتـرخى ... و كعادتِه، لم يتكلم الا بعدَ أن سـألـتـه ... قال :
زرتُ القبورَ : سلمت على أهلها ، ناجيتهم ، ثم دعوت لهم ، ثم عدت ... ثم عدت ...
كانت تلك احدى رحلاتِه الـمـسـتـمـرةِ الى عالمِ الأموات : كان يبحث عن حـياته هناك ، بين القبور ، تماماً كما بحث سابقاً عن الحنانِ في أوساطِ تجارِ الـبَـشَـر ، و عن الحِكمةِ في ضبابِ الأفيون ! .
***
كان لصاحبي في صباه منزلاً لا أبوابَ له ،
و كان له في شبابِه عـشـاً لا فِـراخَ فيه ،
و كان له ، دائماً ، رفاقاً ، و لا أصحاب له .
***
انطلق صاحبي ، في رحلةٍ طويلةٍ شاقة ، باحثاً عن الأمان و الحنان و الرحمة ، بحث عنها في كلِّ مكانٍ ، و في النهايةِ ضَـيَّـعَ صاحبي نَـفْـسَـهُ ، او كاد ، ثم عاد .
قالوا : لقد عادَ الى رُشـدِه .
أما هو فقال : لقد عدتُ الى رُشْـدِكم أنـتـم ، أما أنا فلم أجد رشدي بعد :
قلتم : ان الأمانَ بين أهـلِـكَ و ناسِـك . فعدتُ الى أهلي و الى ناسي ، فما وجدتُ أماناً و لا سلاماً ، بلْ وجدتُ لساناً : وجدتُ "تـطبـيـلاً" و "تـزمـيـراً" و نفاقاً .
قـلـتـم : ان العلمَ في المدارسِ . فعدت الى المدارس ، فلم أجدْ علماً ، بل وجدتُ تـلـقيناً و حشواً ، و نسخاً و لـصـقـاً .
قـلـتـم : ان المساجدَ بيوتُ الله . فآويتُ الى المساجـد ، فَـرَرْتُ الى الله ، فماذا وجدتُ هناك ؟!
وجدتُ صراخاً و تنديداً ، و كُرهاً و تحريضاً ، وجدتُ اهتماماً بالأشكالِ و الطقوس ، و اهمالاً للجواهرِ و النفوس .
في المساجدِ يا سادتي وجدتُ الدينَ و قد أضحى مـشوهـاً بفضلِ أشباهِ المُـتَــعَـلِّمين ، و عدةً بأيدي علماء الـسَّـلاطـيـن ، و مادةً للـحـشـدِ في برامجِ الحِـزبـيـيـن ... ! .
في المساجد يا سادتي وجدتُ الدنيا وقد ارتَـدَتْ عباءةَ الشيخِ ، و تـزينتْ بِلِحـيـتِـه ، و تكلمت بلسانه ! .
***
كلا ، لم أعدْ الى رُشـدِي أنا ، لقد عـدتُ الى رُشـدِكُم أنتم ، و كـثَّـرتُ سوادَكُم أنتم .
أما أنا ، فلا أزالُ في رحلةِ بحثي عن رُشدي ، عن نَـفْـسـِي ، عن عـالمي .