(1)

في منزل تقليدي وروتيني، نرى النظام الأبوي يقوم كالتالي:

الأب يقدّم كل شيء (المال والوقت والجهد والنصيحة والعقوبة والتصحيح)، ولكنه يستثني المشاعر.

وبالمقابل، لا ينتظر الأب من عائلته رد المال بالمال ولا النصيحة بالنصيحة، ولكنه يطلب الحب والبرّ والتقدير، التي هي في دائرة المشاعر.


يحمل الأب في قلبه الكثير من العواطف، بسببها يقدم الكثير من الخدمات لعائلته. وبالمقابل.. يحمل الابن الكثير من العواطف، ويشعر بثقل المنّة على عاتقه، وينتظر اللحظة المناسبة -حين يكسب المال- ليرد بعض الجميل لوالديه. من الواضح أننا نتعامل هنا مع مستويين مختلفين من اللغة: (1) لغة العطاء المادي،  (2) لغة العطاء المشاعري.

إننا خُرسٌ في لغة القلوب، بلغاء في لغة البذل والجد والكد. إننا نتمنى لو أن لغة العطاء المادي تعفينا من التحدث بلغة المشاعر، نتمنى -حالمين- أن يترجم الطرف الآخر عطاءاتنا المادي إلى عطاء شعوري:

مشوار سيارة المدرسة 30 دقيقة = أنا أحبك وأهتم لمستقبلك ياولدي

خذ 100 ريال لمشوارك = سعادتك هي سعادتي يا ولدي


ولكن الواقع يقول -لسوء الحظ- أننا غالبًا نفشل في تحويل لغة الأفعال إلى لغة المشاعر. من الواضح أن كل لغات العطاء لا تغني عن لغة العواطف، اللغة التي تخرج من القلب فتلمس القلب. إننا نتحاور ونتعامل بلغة العطاء والخدمة والحقوق، ونهمل -عن عمد- مشاعرنا، وهنا تحدث الجفوة.


ونحن نرى الجفوة في التعامل ولغة الخطاب بين الآباء وأبناءهم، ونعلم أن الجفوة ليست كراهية ولا ضغينة، وهي ليست غياب الحب أو نقصه، بل نسمع من هذا وهذا أن قلوبهم تذوب من فرط الشفقة والحب، وتخبرنا المصائب والمقابر عن حقائق تلك القلوب، ولذا.. فإن الجفاء ليس عيبًا في القلب، ولكنه تواطؤ على إخماد مافي القلب. يتفق الطرفان (الأب والأبن – الزوج والزوجة- الأخ وأخوه) ضمنيًا على إسكات صوت القلب، والتحدث بلغة العطاء المادي. وإذا كان الطرف الآخر يفهم أفعالك على أنها كلمات، ويترجم لغة المادة إلى لغة القلب، فأنت محظوظ جدًا، وأنت في حالة استثنائية غير طبيعية، لأن الطرف الآخر احتاج لمزيد من الوعي والجهد والتنازل ليقنع نفسه بأن الأفعال المادية = مشاعر وكلام عاطفي.

يقوم هذا النموذج الأبوي على سوء الفهم، أو بعبارة أخرى (سوء التواصل اللغوي). ويعتقد كثير من الآباء أن السبب هي صرامة التربية، وأنه لو كان أبًا متساهلاً فإنه بالأحرى سيكسب قلوب أبناءه، ثم نجد الجفوة حاضرة -أيضًا- بين الأب المتساهل والأبناء.


(2)

إن حاجتنا للحب أساسية. وليس هذا الكون إلا فيض من رحمة الله ومحبته، قال ابن قيم الجوزية " فلولا الحب ما دارت الافلاك ولا تحركت الكواكب النيرات ولا هبت الرياح المسخرات...". وما أشدّ تحرجنا من أحاديث الحب والوجد هذه، لأنها تشعرنا بالضعف، وتناقض اعتقادنا الشامخ عن أنفسنا، بأننا أشداء أقوياء ذوي بأس، ويصعب علينا أن نعترف بحاجتنا للحب والعطف والرحمة والتقدير. وتجد الآباء يُظهرون في العلن رسوخهم وصلابتهم، ثم هم يبوحون بهموهم في الزوايا، ويبثون حاجاتهم بالرمز وإيراد القصص، وكان لي قريبة -رحمها الله- اعتادت في أحاديثها أن تُظهر الاستغناء، وفي أشعارها -وكانت شاعرة مرموقة- تبثّ شكواها ونجواها من نقص التقدير والحب في حياتها.

ويدلّك على هذا كثرت انتشار مقاطع تحفيز الأبناء وتذكيرهم في واتساب، حيث يتداول الآباء كل مقطع تذكيري بأهمية الوالد: من مقاطع دعوية ومقاطع أجنبية مترجمة ومقتطفات من نصائح عامة تحثّ الشبان على حبّ آبائهم قبل أن يدفنوهم في التراب، وكأن الأب يقول: حبّوني قبل أن أموت.


إن قلوبنا مملوءة بالعواطف، ولكننا نجهل لغة العواطف، ونتعامى عن لغة القلوب. هذه ليست دعوة لحياة رومانسية، ولكنها دعوة لحياة إنسانية طبيعية. وربّ قائل: (يارجل هذه طبيعتنا وطبيعة أجدادنا). وأقول: بل هذا طبعك، والتاريخ قد حفظ لنا الشعر والنثر، وحفظ لنا سيرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فانظر فيها تجد لغة الحب والعواطف حاضرة، وقد قال لابن عمه عقيل "يا أبايزيد، إني أحبّك حبّين.... ".


إننا لا نرغب الحديث في هذه المسائل، ولا نرغب التفكير في أسبابها، وبطبيعة الحال لا نريد تحمل مسؤوليتها، فنقول: (هذه طبيعتنا) أو نقول (سويت كل شيء والباقي عليهم) أو نقول (علّمهم هم لا تعلمنا حنا) ومن أكثر الحجج قولهم: الأمور توفيق من الله وليس للأب دور. أما التوفيق فكله من عند الله، وأما فعل الأسباب فواجب علينا. ومن الطرائف أن احدى السيدات قالت ذات مرة في لحظة عجز واستسلام: "الرجّال والشغالة واللقيمات كلهن توفيق من الله، اجتهادك ماله تأثير".

 

(3)

تبقى مسألة العلاقة بين الأب والابن معقدة ولها أبعادها النفسية والدينية والفلسفية. غير أنه يمكننا أن نقول من دون تردد، أن نظامنا الأبوي بحاجة لبعض التعديل، بصرف النظر عن الصرامة والتساهل، وبصرف النظر عن كمية العطاء والجهد، وبصرف النظر عن اختلافاتنا الشخصية وحساسياتنا النفسية، فإنه من المؤكد أننا جميعا بحاجة إلى استخدام لغة القلب ولو بشكل بسيط، إن جرعة بمقدار 5% من الحديث العاطفي ستشكل فرقًا كبيرًا في حياتك وأسرتك. إذا كنت تنفق في الشهر على أبنائك 6000 ريال مصاريف، أريدك أن تخصم منها 1000 مقابل 3 كلمات تلامس العواطف، مثل: أنا أفرح بشوفتك يا ولدي، أو: الله يسعد قلبك يا حبيبي.


(4)

إن أعدى أعدائنا هي ذاتنا المغرورة (Ego)، تفلت الحياة من بين أيدينا ونحن ننفخ هذه الذات ونحرسها، فإذا قاربنا النهاية، أدركنا وهم الذات والكبرياء، وقد قال العارف:

"اخرج من ذاتك تظهر..

وابعد عن نفسك تكبر"