تغيرت حياتي منذ أن استمعت إلى خالد المنيف عام 2013، وهو رجل مختصّ في علم النفس وتطوير الذات. وأعترف أنني أنساق -باستسلام لذيذ- لأحاديث المختصين بعلم النفس وعلوم الإجتماع، أحب تصديق كل ما يقولونه. في تلك الليلة، كان المنيف يتحدث عن "تكبير الدماغ"، وأن المرء بحاجة لأن يكبّر دماغه في مواجهة المشكلات اليومية.


وأنا أعاني -في الحقيقة- من مشكلات يومية في التعامل مع كثير من الناس، أولهم مديري في مكتب إدارة المشاريع، المهندس صالح أبوسبعين. لن أنزلق في تشويه صورة الرجل، فهو -إن أردنا الإنصاف- رجل فاضل، ولكنني لا أطيق كثير من تصرفاته باعتباره مديري المباشر.


في البدء، كنت أنتقم منه في خيالي مستخدمًا سلاحي الأشهر والأجبن: السخرية. أصوغ النكات حول دائرية الأشياء فيه: عيونه المدورة وخده المدور ورأسه وأثداؤه المدورة، هذا الرجل عبارة عن دائرة فيها الكثير من الدوائر. أستغفر الله، ذلك كان فيما مضى، قبل أن تصل إلى مسامعي نصائح الدكتور المنيف، حيث صرت المنتصر في معاركي اليومية مع مديري هذا، وغيره من الناس، باستخدام حيلة "تكبير الدماغ".


اعتدت أن أجلب معي ترمس قهوة للدوام كل يوم، وكان مديري هذا، م.صالح أبوسبعين، في كل مرة يُحدث جلبةً عندما أصل لمكتبي.. (هلا هلا براعي القهوة.. صب لنا) ثم يجلس على طاولتي، ويتحدث بصوت عال، ثم يحضر آخرون، ويتلذذ هو بهذه المباغتة السريعة والأجواء الشبابية، فيلقي بعض النكات والتعليقات التي لا يضحك منها إلا هو، والزملاء المتملقون، والزميلات، أي 99% من المكتب تقريبًا.

وعلى الرغم من أنه يحضر كل صباح للمكتب بكوب قهوة من ستاربكس، إلا أنه -في كل مرة- ينتظر قهوتي العربية والتمر (أدركت فيما بعد أنه يحب مظهر المدير الكول، ولو نمى إلى علمه أن بعض المدراء الشباب يحضرون ببراشوت للعمل، لهبط علينا بالبراشوت كل صباح). كان في كل مرة يسأل عن قهوتي وكأنه يشرب منها ليختبرها فقط:

  • صب فنجال خلني أشوف.. شكلها محموسة زين

ثم يضيف وهو يتمطّق بلسانه كأنما يتذوق جزيئات القهوة:

  • أنتم القصمان تكثرون المسمار مع القهوة وهذا يخرب طعمها.. صب فنجال ثاني أشوف


وهكذا مع كل فنجال يصدر تعليقًا انتقاديًا، وكنت -في كل مرة- أجادله وأعترض على تعليقاته. كان هذا أقبل أن أستنير بآراء علماء النفس وعلماء الاجتماع، قبل تلك الليلة النورانية في أبريل من عام 2013، تلك الليلة التي غيّرت كل شيء.


في ذلك الصباح لم أجادله، وطبعًا لم أجادل أحدًا غيره. أخبرته أنه على صواب، وبمهارة فائقة استطعت أن أتقيد بنصائح الدكتور خالد المنيف: كبّر دماغك. بمرور الوقت، صرت أخفّ وأنشط. بدا لي هذا الرجل السمين، صاحب الوجه المرطرط والبشرة البيضاء الناعمة، كطفل يحتاج إلى رعاية. وقد تغيّر الحال بشكل لافت، صار مديري هذا متماشيًا معي، مستجيبًا لاقتراحاتي، كما لو كان -بالفعل- طفل.


الموضوع جاز لي بالحيل.


تخيّل أنك تحفر طويلاً في منجم ذهب، ثم تشاهد أول قطعة ذهبية لامعة، حينها فقط يداهمك الشعور بأن أمامك المزيد من العمل السعيد. بالضبط كان هذا شعوري.


فيما بعد صرت أحضر القهوة لمكتبه مباشرة، أضحك لنكاته وأسأله: "عساك نمت زين؟".. يجيبني بحبور، ثم يخرج من المكتب ليلقي بعض النكات على الموظفين فيضحكون ضحكتهم اليومية والمعتادة، يعود مرة أخرى بمشيته الثقيلة ولكن بروحٍ خفيفة.


بدأت على تطوير نظريتي في "تكبير الدماغ"، لم تعد مقولة المنيف كافية. في نوفمبر 2013 قرأت دراسة لعالم اجتماع تقول أن الرجال ينقادون لمن يعاملهم كأطفال، وكانت الدراسة مدعّمة بأدلة وقصص من التاريخ، تقول الدراسة أن الرجال يفتقدون معاملة الأمهات. حينها قررت أنني سأتبنى هذا المنهج، سأضع كل أساليبي القديمة على الرفّ وأتبنى النهج العلمي. في ذلك الوقت، كنت أعتقد أن نظرات ميريل ستريب -الممثلة الأمريكية- هي أشد النظرات الأنثوية تأثيرًا في النفس. عن طريق مواقع التورنت حملت كل أفلام ميريل ستريب. أخذ اجازتي السنوية وبدأت التدريب على محاكاة لغة جسد ميريل ستريب ونظراتها.


بعد عودتي من الإجازة، لاحظت أن المهندس صالح أبوسبعين قد عاد إلى عاداته القديمة، لاشك أنه افتقد حناني ورعايتي، بدا عصبيًا ومتنمرا. لكنني -مع ذلك- لم أنتظر كثيرًا لاستخدام أساليبي الجديدة، كنت على يقين من أنني على وشك اكتشاف كنزي الأكبر.


في صباح اليوم التالي حضرت ومعي قهوتي كالعادة، ولكن من دون سكبها في فناجيل، وإنما في رضّاعات تشبه رضّاعات الحليب للأطفال. رضّاعة كبيرة بحجم كوب ستاربكس، وعليها نقوش من السدو، وفي الأعلى تنتصب حلمة باللون البني الشفاف. أسكب قهوتي بمهارة في الرضّاعة الكبيرة، تفوح رائحة الهيل والمسمار، أنظر إلى الرضّاعة في يدي ثم أنظر إلى المدير المشدوه، أنتظر قليلاً حتى تبرد القهوة، ثم أغطيها بالحلمة العلوية. أنتظر قليلاً ثم أنظر إليه بنظرة ميريل ستريب، نظرة حانية عطوفة، مع ابتسامة خفيفة لاتكاد تظهر على شفتيّ (هنا يجدر بي الإشارة إلى أن نظرة ميريل ستريب هذه تحوي على سيطرة غامضة من نوع ما، فهي -إلى جانب العطف والحنان- ترمي بتهديدات وتحذيرات، تكاد هذه النظرة أن تقول: سأعطيك ماتريد أيها الفتى الشقيّ، ولكن إياك أن تعصي والدتك فتعاقبك).. عندما تسمّره نظراتي في مكانه، أتقدم إليه بخطوات هادئة، ولا أزيح بصري عنه، ثم أمد رضّاعة القهوة وأقول: تقهو يا باش مهندس. يأخذها بكلتها يديه وهو يمضغ التمر، ثم يضعها في فمه ويستند على ظهره مستمتًعا بمرونة كرسيه الدوار الجلديّ. ينظر إلى السقف ويشرب، يحرّك قدميه في الهواء بحبور ثم ينظر إليّ من فوق رضاعته، وأنا محافظٌ على نظرة ميريل ستريب.

بعد ينتهي من شرب قهوته يسألني:

- أكيد حاطين فيها مسمار؟ أعرفكم يالقصمان

أجيبه وأنا أبتسم:

- صح.. صح


بعد شهور ارتفع تقييم أداء قسمنا السنوي، زادت انتاجية المهندس صالح بطريقة مذهلة، وذاع صيتي بين الأقسام حين وصفوني بـ "صانع المدراء". تركت المهندس صالح أبوسبعين بعد أن طلبني مديره للعمل معه، ثم تركنه حين طلبني مديره، وهكذا انتقلت من مدير لأعلى حتى طلبني مدير الإدارة العامة. شعرت بمسؤولية كبيرة تجاه مدرائي السابقين، سمعت أن حالتهم تتدهور فور انتقالي منهم، أولئك الصبية من لهم بعد الله غيري؟.


في عام 2016 قدمت استقالتي وافتتحت شركة "ارضعها" لصناعة القادة.