الفخر مسألة لاسعة. ذلك أن الجهال أكثر الناس تفاخرًا، وكذلك الحمقى والفشلة وشرار الخلق. غير أن الحكيم -أيضًا- يفخر بنفسه على طريقته.

يعلّمنا التاريخ أنه لم تَخل حقبة من فخر، وأنه اذا اجتمع رجلان فإنهما يحتاجان لبعض الوقت -فقط بعض الوقت- ليبدأ أحدهما بالتفاخر. ذلك لأن الإنسان يكبر وتكبر معه حماقته، وهو يحتاج لبذل الكثير من الجهد لينجو من الحمق المحيط به.

الفخر مرتبط بالحماقة ولاشك، أو هي "الجاهلية". وجاء العقلانيون -جزاهم الله خيرا- ليقولوا: كيف تفخر بشيء ليس لك فيه يد؟ جنسك ولونك ونسبك ولغتك، هذه أشياء لا نختارها، لايوجد في هذا العالم دورة بعنوان "كيف تكون شمريًا في شهرين".

هذا نقاش ينتصر فيه -بلا شك- العقلانيون، يسحقون خصومهم بسلاح المنطق ويفوقونهم بالخلق الفاضل. (الحماقة عمومًا قابلة للدحض، لأنها غير منطقية وغير أخلاقية).

يشترط العقلانيون على المرء، إذا أراد التفاخر، أن يحقق الإنجازات أولًا، ثم يفخر بما كسبت يده.

أما أنا -بصفتي رجل ذو حكمة- فعندي فلسفتي الخاصة بهذه المسألة. من المهم أن أفرّق بين نوعين من الفخر: (أ) الفخر الهجومي و (ب) الفخر الدفاعي، أو هو الفخر الكامن.

إن فخر الجهال هو فخر هجومي، هذا النوع من الفخر يقوم على التعدي والهجوم، آثاره في الخارج لا في الداخل، هو سلاح نضرب به ونقاتل في معركة أبدية لا تنتهي. في الفخر الهجومي لا نفخر لأننا نشعر بالفخر، بل لنشعر بالفخر. الشعور بالفخر يأتي كنتيجة لعملية "التفاخر". وهذا السبب الذي يجعل هذا النوع من التفاخر مستمرًا، وله طابع حجاحي.

العقلانيون أيضًا يقعون في هذا الفخ، إلا أن فخرهم أصدق وأشجع وأنفع من تفاخر الجهلاء، لأن العقلانية تحث المرء على الفعل وبذل الجهد ونفع الناس، أما الجاهلية فتكتفي بالتفاخر الجاهز المعلّب.

الفخر الهجومي صنو الكبر، وقد قالوا: ما تكبّر رجل إلا من مهانة يجدها في نفسه. إن التفاخر الهجومي ينزع إلى التأثير في الخارج، وهو لا يقتضي وجود شعور بالفخر حقيقي في النفس، بل ربما كان الدافع الأساسي للتفاخر هو نقص رصيد الشعور الفخر، أو فراغ هذا الرصيد تمامًا. ومنه رأينا اللئيم والمَهين والعاجز من الناس ألصقهم بالمفاخرة وأسرعهم إلى القرقرة في أسماع الناس.

إنني أنبذ هذا النوع من التفاخر، بشقّيه العقلاني والجاهلي، وأتمسّك بفخري الكامن الذي يقوم على نوع من الرضا والاحتفاء الكامنين.

إنني فخور بنفسي، فخور بتلك الأشياء التي اكتسبتها بيدي، وأيضًا بتلك التي نولد بها. ذلك أني أعتقد أن كل شيء هو من عند الله، فسواء أكان الذي حزته مكسوبًا باليد أو موروثًا بالولادة، فهو كله من عند الله ، والحمد -إذًا- لايكون إلا لله.

الحمدلله أنني إنسان مكرّم، أمشي على قدمين ولا أمشي على أربع. تخيل لو انك بقرة تثغي فيحملونك في عربة ليركب على ظهرك ثور هائج.. والآن ألا تشعر بالفخر؟ تخيل لو انك سمكة في قاع المحيط، أو انك عنصر صوديوم، عنصر صوديوم اقتضى وجودك أن تكون في علبة ملح ساسا، مجدوعة في عزبة السنيدي لأحد الكشاتة.

ارفع راسك أنت إنسان مكرّم.

إنني مملوء بالفخر، ذلك الفخر الكامن في النفس، ومن دواعيه أنني شاكرٌ وحامدٌ وراضٍ وسعيد.

فخورٌ بلغتي العربية الراقية، فخور لأني رجل عربي شهم، فخور بأرضي وبلادي، فخور بلوني وبقامتي التي ورثتها عن والدي، وبضحكتي التي ورثتها عن والدتي. فخور ببيتي الذي هو من أواسط البيوت، بيت فيه الحياء والإحسان والكثير من السخرية والعناد. فخور لأنني من أتباع أعظم الرجال وسيد الخلق، فخور وقد كلمني الله وخاطبني، وكان القرظي يقول: "من بلغه القران فقد كلمه الله". فخور بانتماءاتي، فخور إذ قيل لي "اقرأ" فقرأت وتعلمت. فخور اني ليفربولي، فخور اني تعاوني، ولو شجعت ضمك لصرت فخورا بكوني ضمكاوي.


إنه فخرٌ كامن في النفس، تشعر به في كينونتي وتراه في سلوكي وتشعّ به عيناي فلا يخفى على مبصر. هو فخر إيجابي لا عدواني، فخر بالهبات لا فخر بالذات، فخر يقع في النفس لكنه يمتد إلى السماء، وهو أيضا -وهذا مهم- فخر الوفرة لا فخر الندرة، هو الفخر الذي يقبل الازدياد والكثرة، لا يرتاب من فخر الآخرين بل يحبه ويرتبط به وينمو معه، لا يهدّده أن يعرف أن ماعند الآخرين خير مما عنده، لأن ماعنده -وما عند الآخرين أيضًا- هو من عند الله، وما عند الله كثير، والكريم لا يشترط على الكريم.