مِن أجَلِّ المعارف التي يمكن أن يكتسبها الإنسان أن يعرف نفسه، فإن هذه المعرفة مفيدة جداً لأي إنسان على النحو الشخصي والمجتمعي، فإذا ما عرف الإنسان نفسه كان ملماً بجوانب الضعف والقوة فيها/ وبسبب ذلك يستطيع أن يطور من نفسه وأن يتقدم في حياته، وأن يسير في اتجاه أكثر وضوحاً وبياناً، ويتجنب أن يكون متخبطاً في حياته لا يعرف لنفسه وجهةً ولا هدف ولا معنى، ولذلك ما كذب من قال: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" ذلك أنه يعلم كمال صفات ربه مقابل كل نقص في صفاته، وليس ذلك هو الغرض من الحديث.
وإن المعرفة بالصفات النفسية والشخصية للإنسان بصفة عامة، تجعلنا نقف على صفات يشترك فيها كل إنسان غالباً، ومن ذلك أن الكثير من الناس لا يكون صادقاً مع نفسه فيتصف بالمعاندة والمكابرة عند الخطأ والزلل، ويظن نفسه محسناً وهو مسيئ ومصيباً وهو مخطئ، ويختلط عليه بسبب ذلك الخطأ بالصواب، مع أنه لو تفكر وأنصف وصدق مع نفسه لوجد الخطأ خطأً بدون التباس والصواب صوابا بدون التباس، ونعم قد يكون الخطأ والصواب مجرد تقديراتٍ نسبية تختلف من شخصٍ لآخر، لكن هناك الكثير من المعايير الواضحة التي لا يصح فيها إنكار الصواب وتبرير الخطأ، مثل المسائل الدينية والقيم الأخلاقية والقيم المجتمعية.
وإن من أبرز نتائج عدم الصدق مع النفس التباس الخطأ بالصواب أو تضييع الصواب بالخطأ، كأن يتصرف الإنسان تصرفاً مقبولاً دينياً أو أخلاقياً أو حتى عملياً، ثم يقحم عليه تصرفاتٍ خاطئة تذهب برونق وجمال السلوك الأول، كأن يزرع الإنسان حديقةً خضراء نضرة ثم يلقي فيها القمامة والمخلفات، ومن أبرز هذه الصور أيضاً والتي أراها منتشرة في الجانب التعبدي الديني، والتي كانت السبب في كتابتي هذا المقال، أن ينتظر أحدهم في المسجد بين صلاتين وهذا فعل طيب حسن لمن تيسر له ذلك، ثم أثناء مكوثه يقضي وقته في تسيير تجاراته أو أعماله في الهاتف، أو المسامرة مع آخرين في أغراضٍ لا تمت بصلة للعبادة ولا تقديس فيها لدار العبادة، الذي اتخذه الناس من أجل هذا الغرض.
ومن نتائج التخبط النفسي وجهل الإنسان بصفاته الشخصية، نجد الإنسان في محاولة إنكار لصفاته السلبية برغم يقينه الداخلي بحقيقتها، وإنسان مثل ذلك هو بالضبط من ينطبق عليه قول الله -تعالي- "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون" ذلك أن مثل هؤلاء الأشخاص ارتضوا لأنفسهم الصورة المقبولة اجتماعياً، مثل صورة رجال الدين أو الأمن أو القضاء أو التعليم ويظهرون للناس بها، ثم تكون أفعالهم على النقيض تماما للأخلاقيات التي تمثلها الصور التي عرَّفُوا بها أنفسهم، فمثل هؤلاء على خطرٍ عظيم يشملهم أنفسهم في المقام الأول ثم لا يلبث أن يتعدى إلى مجتمعاتهم، فمن كان هذا حاله فليرجع وليصدق مع نفسه حتى ينفع نفسه أولاً، وأختم بقول الله -عز وجل- "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم".