من أنبل الغايات وأكرمها عند الله في الدنيا والآخرة، طلب العلم والإخلاص له والانتفاع به ونفع عباد الله به، بغض النظر عن ماهية هذا العلم، إن كان لغرض من أغراض الدنيا أو الآخرة أو كليهما معاً، فالعلم النافع الذي يُرضي الله -عز وجل- هو الذي ينتفع به عباد الله وتصلُحُ به أحوالهم، إلا أن علوم الدين قد جمعت بين خيري الدنيا والآخرة، فكان لها حق التقديم والصدارة والفضل بين العلوم الإنسانية، لما ثبت في زمننا المعاصر أن التشاريع والأنظمة التي أتت بها الشريعة الإسلامية، هي الأفضل والأعدل والأسلم.
وتاريخ الإسلام مليئ بالأمجاد والمفاخر الدينية والإجتماعية والعلمية والفكرية والسياسية، وأخص من هذه الأمجاد الأمجاد العلمية، فقد انبرى من المسلمين رجالٌ ذوي همةٍ منقطة النظير، من أجل تعلم وابتكار العلوم التي ينتفع بها الناس وتكون سبباً في النهضة والتقدم، فكان الصحابة بعد انتقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتشرون في البلاد يعلمون هذا الدين ويفقهون طالبي الفقه، ثم خلفهم في ذلك التابعون الذين تلقوا العلم والفقه عنهم، فانتشرت في كل الأمصار عصبة من الفقهاء والمحدثين ذاع صيتهم في الآفاق، وكان من أبرزهم في العراق الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان.
والإمام أبو حنيفة من أجل العلماء قدراً ومنزلةً ومن أعلاهم مقاماً، ويُعَدُّ من جيل التابعين، وهو صاحب مدرسة أهل الرأي، وله تلامذة أجلاء وعظماء خُلِّدت أسماؤهم في التاريخ، أمثال الإمام زُفر بن الهذيل والقاضي محمد بن الحسن الشيباني وقاضي القضاة في عهد الرشيد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، رحمهم الله جميعاً وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً، وأخص بالذكر هنا من بين هؤلاء الأكابر القاضي أبو يوسف -رحمه الله- فقد كان حقاًُ مثالاً طيباً في الصبر على ضيق الحياة في سبيل تعلم العلم، فيحكي هو عن نفسه أنه كان فقيراً محتاجاً، ولكن نجد أن له نفساً طموحة وهمةً صادقة في تعلم العلم، فكان ينقطع لحضور مجالس الإمام الأعظم رحمه الله.
وقد كان الإمام الأعظم -رحمه الله- صاحب نظرةٍ ثاقبة وفراسةٍ لا تخيب، فكان يقرب إليه أبا يوسف ويعده من ألمع تلامذته، حتى لاحظ أن أبا يوسف يأتي حلقة الدرس حيناً ويغيب احياناً، فتفقده وسأل عن حاله، فأخبره أبو يوسف أن سبب انقطاعه هو طلب الرزق وطاعة والده، فقد أمره أبوه أن يتفرغ لطلب الرزق لأن العلم لن يطعمه ويسقيه، فهنا أخرج له الإمام الأعظم كيساً من النقود وقال له تمتع بها وأعلمني حين نفاذها، ويعلق القاضي أبو يوسف بنفسه على هذا الموقف، فيقول أن الإمام الأعظم -رحمه الله- كان يأتيه بكيسٍ جديد قبل نفاد سابقه كأنه يعلم بذلك، ويقول أنه استغنى بنقود شيخه وتفرغ تفرغاً تاماً لطلب العلم.
وبعد وفاة الإمام الأعظم انتشر تلامذته لينشروا علمه وفقهه في الأمصار وعلى رأسهم أبو يوسف، وكان عالماً جليلاً مفضالاً شهد له أهل العِلم والحُكم وعامة الناس، حتى أن الخليفة هارون الرشيد -رحمه الله- قربه منه وأدناه وعينه قاضياً للقضاة، وكان يرجع إليه ويستشيره في كثيرٍ من شؤون الحكم وشؤونه الخاصة، ومن أبرز مظاهر همته أنه كان مشغول البال بالعلم ونشره حتى في لحظات حياته الأخيرة، فقد رُويَ عنه أنه كان يناقش مع تلامذته مسألةً فقهية وهو يحتضر، فما أن انتهى منها وخرجوا من عنده حتى فاضت روحه الطيبة وسمعوا صراخ أهله ونحيبهم، فرحم الله الإمام القاضي أبو يوسف وجزاه عن المسلمين خيراً، ورزقنا السير على خطاه وخطى الأكابر.